مجلة الرسالة/العدد 188/جولات في الأدب الافرنسي الحديث

مجلة الرسالة/العدد 188/جولات في الأدب الافرنسي الحديث

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 02 - 1937



تطور الحركة الأدبية في فرنسا الحديثة

لأستاذ الأدب في جامعة السربون (دانيال مورني)

بقلم الأستاذ خليل هنداوي

(فصول ملخصة من كتاب تاريخ الأدب والعقل الفرنسي الحديث لأستاذ الآداب في جامعة السوربون (دانيال مورني) تبحث تطور الشعر والرواية والنقد والتاريخ والفلسفة) ودانيال مورني أستاذ له مدرسته التحليلية وطريقته الأدبية التي يفرضها على آداب أمته في هذا الجيل! وهو مؤرخ للأدب بطريقة خاصة يكاد يكون بها نسيج وحده. تقرأ كتبه ومقالاته فتشعر باطلاع واسع عميق وجهد كبير وفكر عال استطاع أن يقرأ ويفيد ويحلل فتأخذ منه ما اوجزه فإذا به يخفي طي سطوره القليلة ما يغني!

يكتب بأسلوب سهل كتابة يغلب عليها الأسلوب الأدبي طوراً والأسلوب التحليلي تارة، وهو في كل ذلك حي تجري حياة الفكر فيه، يكتب عن المدرسة الأدبية أو حياة الأديب صفحة أو صفحتين ويقف وإنك لراغب في الزيادة! ولكن وقوفه هو الحاجز الذي يجب أن يقف عنده. ولن يمضي زمن حتى ينشأ هذا الأسلوب الموجز في تحليل الأدب وتعيين مواقفه الحاسمة. وأشهر كتبه المنشورة تاريخ شامل للأدب الفرنسي قديمه وحديثه. وتاريخ لمراحل خاصة للعقل الفرنسي وقد أحببت أن أدرس هذا الكتاب لأنه درس شامل لعقل وأدب. لا يذهب وراء الخيال كثيرا كأنه كل شيء، ولا ينطلق وراء العقل كثيراً كأنه كل شيء. . . لأن صاحبه يرى التأثير متبادلا بينهما، ففيه نرى تأثير العلم في تطور الأدب وتأثير الأدب في الفلسفة. وفيه يرى أصحابنا تأثير النظريات الفنية والعلمية في توجيه الأدب.

(خ، هـ)

رقية العلم عام 1880

لم تبلغ العلوم الطبيعية من الذيوع والقوة ما بلغته في أواخر القرن التاسع عشر. فأن أهم اكتشافاتها ومخترعاتها إنما تمت في عهد قبل عهد الأواخر. فكتاب (داروين) مثلا ع أصل الأنواع إنما ظهر عام 1859 وكذلك في الأعوام الأخيرة نشأت اكتشافات جديدة غمرت الأرض وألقت في إخلادهم أن العلم قادر على تبديل الحياة الاجتماعية وغير عاجز عن تغيير الحياة ذاتها. وساعدت على نشر هذا الاعتقاد الانتصارات المتتالية في كل ميادين العلم. ولم يقبل عام السبعين حتى ازداد هذا الاعتقاد عنفا ورسوخاً حتى اعتنقه بعضهم كما يعتنق ديناً. على أن الناظر لا يرى خلقا جديداً في مذاهب العلم وأساليبه وأصوله، ولكن غير العلماء كانوا يتحرون في أصوله عن النور الذي ينبغي له أن ينير مسالك الحياة الاجتماعية والحياة الخاصة وما قدر لها. فـ (رينان وتين) قد جمعت آثارهما قبل عام السبعين ولكن الشباب لم يتخذ منهما قائدين إلا بعد هذا العام. وهكذا انتشر سلطان العلم وغلب على كل سلطان وطني على الأدب واصبح موضع الأنظار. وأعلن أحد رسل العلم (برتلو) بعد اكتشافه في الكيمياء مذهب تأليف الأجزاء المتفرقة بأنه بواسطة هذا المذهب يستطيع إنسان الغد أن يصبح المسيطر على عالم الأجساد والنفوس. فهو يضع غذاءه ويخلق عصور الرفاهية التي تتجلى فيها المساواة والإخاء إزاء شريعة العمل المقدسة. كل شيء سجله العلم ويخلقه خلقا جديداً. وكذلك شأن الأخلاق يدركها هذا التطور الذي أدرك الطبيعة

كل شيء في الحقيقة ينتظم ليخضع كل فكرة إنسانية لقوانين العلم. وقد كان علم طبقات الأرض وعلم الآثار القديمة والتوسع فيها كانا ذائعين في القرن الثامن عشر قبل أن تتفجر عن العلم اكتشافاته وتزداد حركته. وهنالك مجامع كثيرة قامت ومدارس نشأت تطلب أن تقيم الدراسة المحض للحقائق بدلا من الركض وراء الخطرات الخيالية اللامعة على غير جدوى. ولكن هذه المطالب كانت لا تزال تقدم رجلا وتؤخر أخرى، فيها تردد غير المطمئن وشك غير المؤمن. فبقي التعليم وجامعاته والنقد وحركاته أمينة لمذاهب الأدب القديمة التي تعتمد على الذوق والذهاب إلى إحياء فن الأوائل بالخيال، حتى بزغ عام السبعين فبدأت الأذواق تنفر من هذه الأخيلة، ودعا الأدباء إلى اعتناق علم (الألمان) الذين ربحوا الحرب، ليكون منهم علماء في دراسة اللغات ومؤرخون وأساتذة، وأن تكون دراساتهم مرتكزة على بحث الحقائق وتجريدها ونقدها نقداً علمياً. وقد طغت هذه الدعوة العنيفة على جامعات فرنسا وغزت مجامعها الأدبية. فتغير الأسلوب وتبدلت المناهج، ونرى أثر ذلك في مدرسة (أثينا) الفرنسية التي أخذت تنهج في الدرس نهجاً حديثاً، وفي بقية مدارس أنشئت لهذه الغاية كمدرسة (روما) ومدرسة القاهرة، وفي بعض مجلات علمية أنشئت لتعمل على تشجيع هذا المذهب الجديد!

وقد سرى هذا الارتجاج إلى الفلسفة فخالت أن العلم يبدل منهجها. وبدا أثر هذا الارتجاج في الدراسات النفسية التي كانت تعتمد على الدرس الباطني فبدل نوع هذا الدرس وجاءوا بعلم جديد لدرس النفس لا يعتمد إلا على الفحص والتجريب والبرهان. وخزانة الفلسفة الفرنسية لا تزال طافحة بهذا النوع الجديد من الدرس كآثار الفيلسوف (ريبو) في معالجة أمراض الذاكرة والإرادة والشخصية. وكلها أبحاث قائمة على الفحص العلمي والبرهان العملي الذي لا مجال للخيال فيه وهي تثبت أن أصول علم النفس الروحاني لا تتلاءم مع الأعمال، وأننا بدرسنا - علمياً - لفساد المادة الدماغية ندرس كذلك فساد الفكرة التي لابد أنها مظهر من مظاهرها واثر من تأثيرها.

أما علم درس المجتمعات فهو لا يشبه العلم فحسب، بل يجب أن يكون علماً صارماً في تطبيق مبادئه وفي تطبيق نتائجه، كما هو الحال في علوم الطبيعة ولم ينشأ هذا العلم في فرنسا إلا بعد عهد، ولكن هذا لا يمكن أن يكون وليد المذاهب العقلية. وإنه علم ومنطق يراد به خلق أصوله ومذاهبه. وقد وقف العالم (دور كهايم) جهوده على القول بأن الحوادث الاجتماعية هي حوادث مخصصة معينة يجب اعتبارها كأنها خاضعة لقوانين خاصة يكتشفها علم الاجتماع كما يكتشف علم الطبيعة قوانين الطبيعة

وهنالك فئة علمية تدين بالعلم. هذه الفئة التي قدم لها (رينان) كتابه (مستقبل العلم) هذه الفئة هي التي مشت وراء تعاليم (دارون) وعلى هذه الفئة ثبت مستقبل العلم ومستقبل الديموقراطية، وفي الحقيقة كانت الجمهورية الفرنسية متقلقلة متزعزعة حتى عام 1880، فتألب رجال السياسة والصحافة على استنقاذها من مأزقها، فعمدوا إلى التبشير بكلمات (برتلو) بالمساواة والحرية والاتحاد والسعادة، بالعمل على تأييد العلم الذي يجازى العاملين من أجله بالسلامة والعافية ورفاهية العيش، وهو الذي سيحل عقدة الحياة والوجود.

إن هذه الرقية العلمية غزت الأدب فيما غزت وكان لها فيه تأثير بليغ.

خليل هنداوي