مجلة الرسالة/العدد 188/ضوء جديد على مأساة شهيرة

مجلة الرسالة/العدد 188/ضوء جديد على مأساة شهيرة

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 02 - 1937



هل قتل الحاكم بأمر الله أم اختفى؟

نظرية الدعاة السريين ومزاعمهم

للأستاذ محمد عبد الله عنان

تتمة

تلك هي النظريات والشروح الغربية التي لجأ إليها الدعاة لتفسير اختفاء الحاكم وغيبته؛ ولا ريب أن اختفاء الحاكم على هذا النحو الفجائي كان ضربة شديدة للدعاة؛ فقد كان الحاكم ملاذهم وحاميهم، وكان شخصه محور دعوتهم وعماد مزاعمهم؛ فلما اختفى الحاكم انهارت الدعوة في مصر بسرعة، وتفرق الدعاة في مختلف الأنحاء اتقاء المطاردة به، ولكن الدعاة ألفوا في هذا الظرف ذاته مستقى جديداً لدعوتهم؛ فقد اختفى الحاكم ولكن إلى رجعة؛ وليس على المؤمنين أن يعرفوا أين اختفى وكيف اختفى؛ ولكن عليهم بالصلاة والاستغفار حتى يرضى عنهم، ويعود إليهم عندما تحل الساعة، ذلك لأنه اختفى غضباً عليهم لما أمعنوا فيه من الآثام والخطايا، ولن يظهر إلا عندما تصفو قلوب المؤمنين وتصفو نياتهم؛ وفي هذا الاختفاء ذاته، دليل ساطع على ألوهيته وخارق قدرته، وهو في السماء أو في الأرض روح بلا جسم، يشرف على عباده (وإنه ليراهم من حيث لا يرونه)!

هذا وقد مضى إلى اليوم على مصرع الحاكم تسعمائة وخمسة عشر عاما، ولا يزال الموحدون يؤمنون برجعته ويرقبونها؛ ولم يقل لنا الدعاة أنى ومتى تكون هذه الرجعة من عالم الأبدية، وكل ما هنالك أن حمزة يقول للمؤمنين في رسالته الشهيرة، (إنه متى أطلت عليهم رحمة الله خرج ولي الله إمامهم باختياره راضياً عنهم، حاضراً في أوساطهم. .) ويكرر الدعاة هذه الإشارة الغامضة إلى مثول الحاكم ورجعته في رسائلهم، ولاسيما رسالة الغيبة التي أشرنا إليها، فيقولون: (إن مولاكم لا تخلو منه الدار وقد عدمته أبصاركم) (إن مولاكم يراكم من حيث لا ترونه) (أحسنوا ظنكم بمولاكم يكشف لكم عن أبصاركم ما قد غطاها من سوء ظنكم) وأمثالها من الإشارات والعبارات الرمزية الجوفاء. وخلاصة مزاعمهم في ذلك هو أنه متى حلت الساعة، يقوم جند الموحدين من ناحية الصين، ويقصدون إلى مكة في كتائب جرارة، وفي غداة وصولهم يبدو لهم الحاكم على الركن اليماني من الكعبة، وهو يشهر بيده سيفاً مذهباً، ثم يدفعه إلى حمزة بن علي فيقتل به الكلب والخنزير وهما عندهم رمز الناطق والأساس؛ ثم يدفع حمزة السيف إلى محمد (الكلمة) وهو أحد الحدود الخمسة، وعندئذ يهدم الموحدون الكعبة ويسحقون المسلمين والنصارى في جميع أنحاء الأرض، ويملكون العالم إلى الأبد، ويبسطون سلطانهم على سائر الأمم، ويفترق الناس عندئذ إلى أربع فرق. الأولى الموحدون وهم (العقال) أو (العقلاء) والثانية أهل الظاهر وهم المسلمون واليهود والثالثة أهل الباطن وهم النصارى والشيعة، والرابعة المرتدون وهم (الجهال) (الجهلاء)؛ ويعمد حمزة إلى أتباع كل طائفة غير الموحدين فيدمغهم في الجبين أو اليد بما يميزهم من غيرهم، ويفرض عليهم الجزية وغيرها من فروض الذلة والطاعة، وأما أصحابه فالعقلاء منهم يصحبون أرباب السلطة والمال والجاه في سائر أنحاء الأرض

والظاهر أن هذه المزاعم الأخيرة في سحق أنباء الأديان الأخرى مستمدة من أقوال حمزة ذاته في رسالته المسماة (النهاية والبلاغ في التوحيد) إذ يقول: (وعن قريب يظهر مولانا جل ذكره سيفه بيدي، ويهلك المارقين ويشهر المرتدين، ويجعلهم فضيحة وشهرة لعيون العالمين؛ والذي يبقى من فضلة السيف تؤخذ منهم الجزية وهم صاغرون، ويلبسوا الغيار وهم كارهون)

تلك هي نظرية الدعاة السريين ومزاعمهم في غيبة الحاكم وفي رجعته، وهي نظرية في منتهى الإغراق والجرأة؛ بيد أنه لا ريب في سخفها؛ وقد ألفى الدعاة بعد انهيار دعوتهم في مصر، ملاذا لهم في الشام، فوجهوا إليها أنظارهم، وحاولوا بشروحهم ومزاعمهم الجديدة أن يستبقوا ولاء شيعتهم وأنصارهم هنالك، ومازالت ثمة بقية من شيعتهم إلى يومنا وهم طائفة الدروز

بيد أن الدعاة لم يكونوا مبتدعين أيضا في نظريتهم الجديدة؛ فقد رتبوا فكرة اختفاء الحاكم ورجعته على فكرة قديمة هي فكرة بعض غلاة الشيعة في المهدي المنتظر؛ ومنذ عصر علي بن أبي طالب تتبوأ هذه الأسطورة مكانها؛ ويزعم هؤلاء الغلاة وهم الرافضة، أن عليا لم يمت، ولكنه حي غائب عن أعين الناس مستقر في السحاب، صوته الرعد، والبرق صوته؛ ومنهم من يقول مثل هذا القول في ابنه محمد بن الحنفية، وأنه مستقر في جبل رضوى من أعمال الحجاز؛ ويقول آخرون وهم الاثنا عشرية إن هذا الإمام المنتظر هو محمد بن الحسن العسكري (وهو أيضا من ولد علي) وأنه لم يمت، ولكنه اختفى وغاب عن الأنظار، ولا يزال مختفيا إلى آخر الزمان، ثم يخرج فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا

فالقول باختفاء الحاكم مستمد من هذه الأسطورة القديمة؛ وقد كانت هذه الأسطورة، أعني أسطورة الغيبة والرجعة، وما يكتنفها من الرموز والغموض، مبعث الخفاء دائما؛ وكان هذا الخفاء ذاته مبعث الخشوع والروع في المجتمعات الساذجة المؤمنة؛ وكان مبعثا لأكثر من دعوة بالنبوة والإمامة؛ بل كان مبعثا لدعوى الألوهية ذاتها؛ أليس منتهى الخفاء والروع أن يغيض الحاكم على هذا النحو إلى حيث لا يعلم أحد؟ وقد رأى الدعاة أن يستغلوا هذا الخفاء في تأييد دعوتهم، وأن يبثوا بين المؤمنين جوا من الرهبة والخشوع لذكرى ذلك الذي اختفى ليعود حين تحين الساعة، والذي (يرى ولا يرى)

على أن هناك نقطة غامضة في موقف الدعاة إزاء هذا الاختفاء إذا سلمنا بان الحاكم اختفى ولم يقتل؛ ذلك هو الدور الذي يحتمل أن يكون قد أداه الدعاة في هذا الاختفاء ذاته. فهل للدعاة يد ما في هذا الاختفاء؟ وهل دبروه أو اشتركوا في تدبيره؟ أليس من المحتمل أن يكون الدعاة هم الذين اقنعوا الحاكم بأن يختفي تقوية للدعوة، وتمكينا للزعم بألوهيته لدى الأولياء والكافة؟ بل نستطيع أن نتساءل أيضا، أليس من المحتمل أن يكون الدعاة قد فكروا في اغتيال الحاكم خدمة لدعوتهم، وانهم دبروا مؤامرة لاغتياله أو اشتركوا في تدبيرها واستطاعوا أن يحكموا تدبير جريمتهم، لكي يستغلوا بعد ذلك فكرة الاختفاء على النحو الذي أسلفنا؟ هذه أسئلة قد تخطر على الذهن في مثل هذا الموطن، خصوصا وقد كان حمزة وصحبه أهلا لكل اجتراء، ولا تبعد فكرة الجريمة عن أولئك الذين اجترءوا على زعم الألوهية البشرية، وسفكوا في سبيلها دماء الأبرياء؛ بيد أن هذه مسائل يحيط بها الظلام المطبق، ولا يقدم التاريخ إلينا عنها أية لمحة أو ضياء، ومن المستحيل أن نعاملها بأكثر من فروض عارضة، وستبقى أبد الدهر على التاريخ لغزاً مغلقاً.

بيد أنه من الغريب أن تلقى هذه الفروض المغرقة سبيلها إلى دوائر البحث الحديث. فنرى المستشرق فون ميللر مثلا يأخذ بنظرية اختفاء الحاكم، ويعلق عليها بما يأتي: (أما أن أخته قد دبرت قتله لخوفها من تنفيذ وعيده لها بالقتل، فهو حديث خرافة، والواقع أن مصيره لم يعرف قط، وعندي أنه طبقاً لكل ما نعرفه من حياته، قد رأى استحالة تحقيق مبادئه في مصر، فاعتزل الحياة واختفى في مكان ما ليقضي حياته بعيداً عن الأنظار لكي يعتقد أنصاره على الأقل أنه هو (الناطق) حقيقة (ناطق الزمان) وأنه سيعود من رمسه آخر الزمان في شخص الإمام أو المهدي؛ وهذا ما لا يزال ماثلا إلى اليوم في عقائد الدوز)

أما نحن فمازلنا نرجح فكرة المؤامرة والجريمة: وسواء أكانت المؤامرة من تدبير ست الملك، أم من تدبير أبن دواس، أم كانت من تدبير الدعاة أنفسهم، وسواء أكان الذي ارتكب الجريمة هم عبيد ابن دواس، أم البدو الذين اعترضوا الحاكم ليلة اختفائه: أم آخرون لم يعرفوا: وسواء أكانت البواعث السياسية أم البواعث الدينية هي التي أملت بتدبير المؤامرة وارتكاب الجريمة، فإن ما لدينا من الروايات والقرائن على أن الحاكم قد زهق ضحية الجريمة، يرجح في نظرنا كل فرض آخر مما استعرضنا

وليس من المستحيل أيضاً، أن يكون الحاكم قد اختفى من تلقاء نفسه أو بتحريض الدعاة لبواعث أو مشاريع خيالية أو جنونية قامت في نفسه: بيد أن هذا الفرض يبدو في نظرنا من الضعف والإغراق بحيث له موضعاً من التاريخ.

هذا والظاهر أن فكرة اختفاء الحاكم بأمر الله لبثت مدى حين تردد بين آونة وأخرى حتى أوائل عهد المستنصر بالله، أعني بعد وقوع الحادث بنحو ربع قرن، وقد أشرنا فيما تقدم إلى قصة ذلك المشعوذ الذي تسمى (بأبي العرب) وزعم حينا أنه الحاكم ثم توارى بعد ذلك. بيد أن هنالك قصة أخرى من هذا النوع كادت أن تحدث فتنة حقيقية؛ ففي رجب سنة 434هـ (1043م) في أوائل عهد المستنصر، ظهر بمدينة مصر شخص يدعى (سكين) كان يشبه الحاكم في بعض ملامحه، وادعى أنه الحاكم، وأنه بعث بعد موته وعاد من غيبته؛ والظاهر أنه كان من عصبة الدعاة السريين، وأن الدعاة أرادوا بدفعه إلى هذه المغامرة أن يحاولوا إثارة الفتنة التي خمدت، وأن يطبقوا نبوءاتهم وما بشروا به في رسائلهم من رجعة الحاكم بصورة عملية؛ فالتف حوله فل الملاحدة، من شيعة الدعاة الذين يعتقدون أو يتظاهرون بالاعتقاد في هذه الخرافة؛ وفي ظهر يوم سار سكين وأصحابه إلى القاهرة وقصدوا إلى القصر الكبير، ولما حاول الجند منعهم نادى الملاحدة بأنه الحاكم، قد عاد من غيبته، فارتاع الجند مدى لحظة ثم ارتابوا في الدعي فقبضوا عليه، وحملوا على صحبه، واشتبك الفريقان في معركة حامية ضجت لها أرجاء القصر، وقتل من الملاحدة عدد كبير واسر الباقون، وصلب سكين وأصحابه وقتلوا بالنبال شر قتلة

وكانت هذه آخر مغامرة من نوعها، ولا نسمع بعد ذلك شيئاً عن أولئك الدعاة الملاحدة أو دعوتهم بمصر. ولا نجد بعد ذلك أثراً لأسطورة غيبة الحاكم أو رجعته إلا في الشام حيث استقرت الدعوة في بعض أنحائه ورسخت حتى يومنا.

(النقل ممنوع قطعاً - تم البحث)

محمد عبد الله عنان