مجلة الرسالة/العدد 189/الحياة والقيود

مجلة الرسالة/العدد 189/الحياة والقيود

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 02 - 1937


للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

قلت لصديق ونحن خارجون من السينما - أو لعلنا كنا داخلين فما أذكر الآن: -

(يا أخي أحسب إن من الخسارة علينا أننا خلقنا في هذا الزمان، ولو تأخر بنا الحظ جيلاً آخر لكان عيشنا خليقاً أن يكون أطيب وأرغد، فإن هذا عصر انتقال لم تستقر فيه الأمور على حد مريح)

فوافق واستطردنا إلى حديث آخر. ولكني ظللت أفكر فيما قلت فبدا لي أني أخطأت، ولا نكران أن زمننا هذا زمن انتقال، ولكن هذا حال كل زمان، فما تلزم أمور الحياة حداً تنتهي إليه ولا تكون قط على حال لا يتغير أو لا يتبدل. وكل عصر عصر انتقال. والتحول هو قانون الحياة فلا وقوف ولا رجوع، لأن هذا وذاك مستحيلان في الحياة. ولو كنا خلقنا في زمن غير هذا - قبله - لكنا أحسسنا ما نحسه الآن من إننا في عصر انتقال وإننا نعاني من جراء ذلك اضطرابا وقلقا وقيوداً كثيرة تثقل علينا ونعتقد أن الأيام ستصدعها عن الناس وتعفيهم منها ولتوهمنا إن الناس سيكونون حينئذ اسعد وارغد عيشاً واكثر حرية واقل شعوراً بالتقلقل والاضطراب والحيرة بين القديم المنشوء الذي يتزلزل والجديد المأمول الذي بدت بشائره. وحضرني وأنا أفكر في مثال قريب، فقد كنا في الجيل الذي مضى نسخط على الحجاب وما يقتضيه من التفريق بين الرجال والنساء، وكانت بشائر السفور قد بدت، ولكن أملنا يومئذ في أدراك عهده والانتفاع به قبل أن تعلو بنا السن وتفتر الحيوية ويفسد علينا الأمر كله - كان يبدو لنا بعيداً. وقد أدركنا زمن السفور بأسرع مما كنا نتصور ووثبنا إليه في أوجز مما كنا نقدر، وقبل أن ترتفع أسناننا وينضب معين الحيوية فينا، غير أنا بعد أن صرنا إلى هذا الحال الجديد الذي كنا نحلم به ونتطلع إليه ونتخيل إن الحياة ستكون به أهنأ وأطيب - لم نرض ولم نقنع. ولسنا الآن في حاضرنا ننظر إلى ما كان بل نحن ننظر إلى تيار الزمن واتجاهه، ونقول انه يتحدر إلى ساحة من الحرية أوسع وارحب. ولا سيما بعد أن عرف الإنسان ضبط النسل. والشجرة - كما لا أحتاج أن أقول - تعف بثمرها، فحيث لا توجد ثمرة لا يخطر للمرء أن هناك شجرة فهي غير موجودة فيما يعلم وإن كانت في الواقع هناك لا. . لم نخسر بأن خلقنا في هذا الزمان. وليست العلة أننا موجودون في زمان دون آخر. بل العلة إن العمر إلى انتهاء وأن الحياة إلى نفاذ كائنا ما كان الزمن الذي نحن فيه. ولا خير في تقطيع النفس حسرات على ما عسى أن يكون الغيب منطوياً عليه، وأحجى بالإنسان أن يقصر همه على حاضره فانه هو الحقيقة التي يضيع كل شيء إذا هو ضيعها. ومهما يبلغ من اتساع نطاق الحرية في المستقبل فان حياة الجماعة لا تنتظم إلا بالقيود والحواجز والاسداد. وستظل هناك قيود من ضروب شتى

ومع ذلك ماذا ينقصنا من الحرية في زماننا هذا. . السنا نصنع ما نحب كما نحب وحينما نحب. . ولا شك أن هناك قيوداً وأغلالاً غير قليلة أو هينة، ولكن هذه القيود هي التي تكسب الحياة الطعم وتفيدها المزية والفضيلة. ولست أحاول أن أعزي نفسي بهذا الكلام أو أغالطها به بل أنا أومن بأن الأمر كما أقول والحال على ما أصف

وتصور أن الماء المنحدر من الجبال أو غيرها لم تعترض طريقه الاسداد ولم يمنعه شيء أن يظل يتدفق وينتشر على وجه الأرض حتى يذهب أو ينتهي إلى البحر، أكان من المكن في ظنك أن تتكون بحيرة مثلاً. . وقد لا تكون ثم حاجة إلى البحيرة وقد تحتاج الجماعة في وقت ما إلى محوها من الوجود، ولكن هذا لا يؤثر في القضية ولا ينفي أن البحيرة إنما تتكون بفضل الاسداد التي يلقاها الماء وهو يجري

والطيارة التي تحلق في الجو وتنقلنا إلى حيث نحب وتقصر المسافات وتطوي الأبعاد والتي نعدها من آيات هذا العصر، كيف كان يمكن أن نفعل ذلك لولا مقاومة الهواء لدفع المحرك؟. بل كيف كان يتسنى أن تتحرك لولا هذه المقاومة. ولست أعرف شيئاً في هذه المسائل العلمانية فإني من اجهل خلقه سبحانه وتعالى وتنزه عن العبث، ولكني التفت إلى هذا الأمر يوماً وكنت في طيارة وإنا فيها لمسرورون مغتبطون بهذا التحليق وإذا بها تسقط كالحجر مائة وخمسين قدماً كما قيل لي فيما بعد، وكانت هنيهة قصيرة جداً. ولكنها على قصرها الشديد كانت أقسى ما جربت في حياتي، فقد أحسست أن قلبي صار في حلقي من فعل السقوط المفاجئ لا من الخوف فما اتسع الوقت لخوف أو رجاء. ثم عادت الطيارة فمضت بنا في طريقها وكرت إلى مثل الارتفاع الأول فلم أفهم سبب هذه السقطة المزعجة، فلما نزلنا كدت أنسى أن أسأل عن السر فيما حدث، ولكنني تذكرت بعد أن مشيت خطوات فارتددت إلى الطيار فقلت له يا أخي قد سقطنا في الهواء فما سبب ذلك؟ قال هل أحسست شيئاً؟ قلت كيف لا أحس وقد كانت أنفاسي تنقطع.؟ قال لقد صادفنا فراغاً. . قلت كيف واستغربت فبين لي أن بعض طبقات الجو تخلو لأسباب شتى - نسيتها - من الهواء فتصبح فارغة، فإذا دخلت الطيارة منطقة الفراغ لم تستطع أن تجتازها لأن الهواء هو الذي يعينها بمقاومته على الطيران، ولهذا تسقط حتى تخرج من المنطقة الفارغة فيتيسر لها أن تمضي في طيرانها وذكر لي أن المنطقة التي صادفناها كانت أكبر ما لقي من الفراغ مذ ركب طيارة

وقد علق بذهني هذا ودار في نفسي من يومئذ فأضفته إلى ما كنت أعرف من فضل المقاومة بل ضرورتها فأني عاجز عن تصور حياة لا يلقي فيها الحي مقاومة. وكيف تكون يا ترى هذه الحياة إذا أمكن أن توجد حياة على هذا النحو. . لا أدري ولا أحسب أن أحداً يستطيع أن يزعم أن في وسعه تخيلها. . ماذا يدفع فيها إلى العمل ويغري بالسعي. . ويبعث على الطموح. ز الذي هو الوسيلة إلى حفظ النوع في الدنيا؟ كيف يكون حينئذ ولا مقاومة هناك ولا عائق ولا صعاب ولا عراقيل ولا حواجز من العرف أو القانون أو غير ذلك. . أتراه عبثاً ومسلاة. . وكيف تكون له لذة اللهو ومتعة العبث ومزية التسلي وهولا يمكن أن يوجد أصلاً. . أم ترى ينحط فينقلب مجرد رغبة عارضة واشتهاء زائل بزوال دواعيه الوقتية. . وكيف تنشأ الرغبة وماذا يشحذ الشهوة ولا شيء هناك من قبيل الموانع

ودع الحب وأنظر في غيره وأسأل نفسك ماذا عساك أن تطلب حينئذ ولا عسر هناك ولا عناء ولا خوف من حرمان لأنه لا عقبة هناك ولا صعوبة ولا مقاومة من الأحوال أو الحظ أو الناس أو التنافس أو غير ذلك مما تكون به المقاومة. .

ويطول بي الكلام إذا أنا أحببت أن أتقصى وجوه هذا الأمر: وما الداعي إلى الإطالة والمسألة واضحة. كلا لم أخسر بأن خلقت في هذا الزمن. ولا خسر أحد شيئاً بأن خلق في زمنه وإنما ينظر الإنسان إلى ما هو مستطيع ويقيسه إلى ما يشتهي فيرى البون عظيماً والبعد كبيراً والمسافة طويلة بين المطلوب والموجود، فيتوهم أن ذلك إنما كان هكذا لأن في الزمن عيباً وفي أحواله فساداً، وأنه لو كان في زمن آخر لكان حقيقياً أن يكون أمله أقرب منالاً وسعيه أعظم توفيقاً. وهذا وهم كما قلت فأن رغائب الإنسان في أي زمن أكثر مما يبلغ وينال. والذي يسمح لرغبته بأن تطغى إلى هذا الحد حتى لتصور أمر الحياة على هذا النحو المقلوب تكون شهوته أقوى من إدراكه أو إرادته أو أعصابه إذا شئت

ولم ألق صديقي لأبلغه أني غيرت رأيي أو صححته، فهأنذا أقول له ذلك في (الرسالة)

إبراهيم عبد القادر المازني