مجلة الرسالة/العدد 189/القصص
مجلة الرسالة/العدد 189/القصص
شحاذ الأرواح
للكاتب الإيطالي جيوفاني بابيني
دفعت آخر قرش كان معي ثمناً لفنجان القهوة ثم أخذت أفكر في الجوع - الجوع للطعام والجوع للشهرة - إذ لم يكن هناك من يهمه أمري حتى صاحب المجلة التي أكتب فيها لم يكن يقبل مني قصة إلا عندما لا يجد أفضل منها، وقد اعتاد أن ينفحني خمس (ليرات) سواء كانت القصة طويلة أو قصيرة.
في ذلك المساء من شهر يناير كان الجو يدوي بالرياح القوية العاصفة وأصوات الأجراس الرتيبة العالي، فدلفت إلى أحد المقاهي الكبيرة أتفرس في الوجوه النائمة المتعبة، ثم أخذت أرتشف فنجان القهوة وأنا أفكر في مخاطرة غريبة تصلح لأن تكون موضوعاً لقصة. فأخذت أقدح زناد فكري علني أهتدي إلى فكرة لقصة أصيب منها بضع ليرات تكفيني يوماً أو يومين.
كنت مضطراً لأن أكتب قصة في تلك الليلة أقدمها لصاحب المجلة في الصباح، فينفحني مبلغاً من المال يكفي لأكلة طيبة، فأخذت أفكر أترقب أول خاطر يهفو بذاكرتي أملأ به تلك الأوراق البيضاء التي وضعتها أمامي على المنضدة.
قضيت أربع ساعات وأنا على هذه الحالة من الانتظار والحيرة ولكن رأسي كان فارغاً وخيالي ثقيلاً وذهني مكدوداً، فيأست من كتابة أي شيء في تلك الليلة فألقيت بآخر قطعة من نقودي على المائدة وانصرفت.
ولكني لم أكد أترك المقهى حتى جال بخاطري ذلك القول القديم وهو (إذا استطاع الإنسان العادي أن يدون حياته الخاصة فإنه يخرج لنا أعظم القصص) ثم أخذت أفكر في هذا ولكني لم أصل إلى شيء جديد. إلا أنه ما كدت أصل إلى منزلي حتى وقفت وقلت لنفسي (لماذا لا تحاول هذا بنفسك. لماذا لا تكتب حياة أي رجل عادي يقابلك في الطريق).
لم يكن لدي ما أقوله عن نفسي فقد أفرغت كل شيء حدث لي في قصصي، وعلى ذلك يجب أن أبحث عن رجل عادي - وإن كنت لا أعرفه - يقص عليّ قصة حياته.
لاحت هذه الفكرة غريبة وبسيطة حتى أنني عزمت على تنفيذها بأسرع وقت، فتركت منزلي وأخذت أطوف في الشوارع آملاً أن أصادف في تلك الساعة المتأخرة من الليل إنساناً. سرت مسرعاً أتفرس في كل الوجوه محاولاً أن أختار الشخص المناسب ولكني لم أصادف مخلوقاً فانعطفت إلى ميدان صغير ووقفت هناك كأني أحد قطاع الطرق أو أحد لصوص الليل. ثم لمحت شبحاً قادماً فلم أرد أن أفاجئه بهجومي السريع فانتظرت حتى دنا مني فإذا هو رجل عادي قد التف في عباءة طويلة وترك شعره الطويل يتموج في الفضاء فلم أرد أن أساله وتركته يمضي في طريقه، ثم تبعت آخر وكان حليق الذقن محدودب الظهر يتمتم بأغنية إسبانية قديمة لعلها كانت تذكره بأيام شبابه الماضية، فلم أكد أتفرس في وجهه حتى رأيته يغلب عليه النوم فتركته لِشأنه.
إني لا أستطيع أن أتذكر الحال التي كنت فيها في تلك الليلة، كلما فكرت في تلك الحالة فأتصور نفسي إنساناً غريباً من قطاع الطرق يترقب شخصاً لا يعرفه يسأله قصة حياته وهو يتحرق شوقاً لأن ينقض على تلك الفريسة المجهولة، وكأن القدر القاسي قد ظن عليّ بذلك الرجل الذي أنتظر، إذ أن جميع من مروا بي كانت تبدو عليهم علامات الترف والنعيم. ولكني لم أيأس من الوصول إلى بغيتي، فبقيت واقفاً تحت المصباح الذي كان يتمايل كلما هبت الريح ولكن الشوارع كانت مقفرة، ولم تكن تلك الرياح العاصفة تغري الناس على السير في تلك الليلة الباردة. ولكن لم يطل انتظاري إذ لاح على بعد شبح قد أيقض الشارع وملأه حركة بعد سكونه ثم أخذ يدنو مني شيئاً فشيئاً، ولم يكد يقترب مني حتى عرفت أنه الرجل الذي أبحث عنه. لم يكن ذلك الرجل بالجميل ولا بالقبيح. بل كان وسطاً بين الاثنين كما كان وسطاً بين الشباب والكهولة، ذا عينين هادئتين يلبس معطفاً سميكاً على أحدث طراز. فلم يكد يخطو عدة خطوات حتى أوقفته بيدي، فارتاع لمرآي ورفع يدع كمن يتأهب للدفاع عن نفسه ولكني أسرعت فطمأنته أني لا أريد به سوءاً فقلت له في صوت رقيق (لست قاتلاً ولا سفاك دماء ولا شحاذاً وإن كنت شحاذاً من نوع آخر، إني لا أطلب مالاً ولكني أطلب شيئاً واحداً لا يكلفك نفقة هو قصة حياتك) فحملق الرجل في وجهي ثم تراجع إلى الوراء، فتوقعت أنه قد ظن أني معتوه فقلت في صوت هادئ رزين (إني لست مجنوناً كما تظن وإن كنت قريباً من ذلك فأنا كاتب قصص عليّ أن أكتب قصة قبل طلوع النهار لأرد عن نفسي غائلة الجوع، ومن أجل ذلك أسألك أن تخبرني عن كل ما حدث لك. من أنت؟ وماذا تعمل؟ حتى يمكنني أنم أكتب قصتي عنك. إني أصارحك القول إني أحتاج إليك وإلى قصة حياتك وإلى اعترافاتك. أرجوك أن لا تخفي عني شيئاً. إني واثق أنك لا تضن بمساعدة مخلوق بائس مثلي فأنت الرجل الذي كنت أنتظره وربما كنت أستطيع أن أكتب بما تقدمه إليّ أروع القصص.
فبدا على الرجل التأثر ونظر إلي في عطف وإشفاق وقد زال عنه الخوف وقال (حسناً. إذا كنت تريد حقاً أن تسمع قصة حياتي فيمكنني أن أخبرك عنها ولا سيما أنها سهلة بسيطة. فقد ولدت منذ 35 سنة من أسرة كريمة وكنت وحيداً والدي فأرسلاني إلى المدرسة وأنا في السادسة. وفي التاسعة عشرة التحقت بالجامعة وحصلت على درجتي في الرابعة والعشرين. لم أظهر طوال دراستي شيئاً من النبوغ الخارق، أول الغباوة الفاضحة. ثم أعانني والدي على أن أشغل وظيفة في السكة الحديدية وخطب لي فتاة جملية. إني أعمل ثماني ساعات في اليوم وعملي لا يحتاج إلا إلى الصبر وذاكرة متوسطة، ويزداد مرتبي جنيهين كل ستة سنوات، وعلى ذلك فإذا عشت حتى الرابعة والستين فسأحصل على معاش قدره كذا. لقد أنجبت طفلين ولداً وبنتاً، فالولد في العاشرة الآن وسأعده لأن يكون مهندساً. وأما البنت فهي في التاسعة. وسوف تكون مدرسة. إني أحيا الآن حياة هادئة لا يشوبها نكد أو أطماع. أستيقظ في الثامنة من صباح كل يوم وفي التاسعة مساءً أذهب إلى المقهى حيث أتحدث مع بعض زملائي عن الطقس والحرب والحكومة والوظائف. والآن لقد أخبرتك بما تريد، فهل تسمح لي بالعودة بعد أن تأخرت عن موعد ذهابي إلى المنزل عشر دقائق).
ولم يكد ينتهي من كلامه حتى شعرت بشيء غريب اضطرب له جسمي إذ كيف يحيى ذلك الرجل تلك الحياة الرتيبة العادية الثابتة، فأشفقت عليه ومضيت في طريقي وأنا أقول في نفسي (حسناً، هذا هو أحسن نموذج للرجل العادي والبطل الحقيقي للحياة الحديثة. والعجلة الصغيرة في الماكينة الكبرى، واللبنة الأولى في الحائط العظيم، الرجل الذي لا يضطرب كثيراً للخيالات والتصورات، كنت أظن أن مثل هذا الرجل غير موجود ولكني قد وجدته أخيراً واقفاً بجانبي ثم أردت أن أعرف عنه كل شيء فهرولت وراءه وأنا أقول (أليس هناك شيئاً آخر في حياتك، ألم يعرض لك حادث غريب، ألم يحاول أحد أن يقتلك؟ ألم تخدعك زوجتك أو يهزمك عدو؟) فأجابني: (لا شيء من هذا. لقد كانت حياتي كلها هادئة منتظمة فلم أعرف الأفراح البهجة ولا الأحزان القاتلة. لم يحدث لي ما يستحق الذكر) فقاطعته قائلاً: أحقاً ما تقول؟ حاول أن تتذكر - إني لا أكاد أصدق هذا النوع من الحياة. فأجابني: (إني أكد لك أنه لم يحدث لي شيء حتى هذه الليلة، حتى فاجأتني بلقائك الغريب الذي هو أول مخاطرة - فإذا أردت أن تكتب شيئاً فعليك بهذا).
قال هذا ثم مضى مسرعاً بقيت في مكاني أنظر حولي حائراً مذهولاً.
ثم عدت إلى منزلي دون أن أكتب القصة. ومنذ ذلك المساء لم أعد أسخر من أولئك الناس العاديين ثانية.
نظمي خليل