مجلة الرسالة/العدد 19/في الأدب العربي

مجلة الرسالة/العدد 19/في الأدب العربي

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 10 - 1933



ابن خلدون ومكيافيللي

للأستاذ محمد عبد الله عنان

بعد وفاة ابن خلدون بأكثر من قرن، وضع نيكولو ميكافيللي المؤرخ والسياسي الإيطالي كتاباً يتبوء في التفكير الغربي مكانه كتلك التي تتبوأها مقدمة ابن خلدون في التفكير الإسلامي. ذلك هو كتاب (الأمير) وهو كأثر ابن خلدون قطعة بديعة من التفكير السياسي والاجتماعي، تمتاز بكثير من القوة والطرافة والابتكار الفائق. وإذا لم يك بين الأثرين كثير من أوجه الشبه المادي، فان بينهما كثيراً من أوجه الشبه المعنوي، وبين الذهنين بالأخص مشابهة قوية من حيث الظروف والبيئة التي تكون كل فيها، ومن حيث فهمه للتاريخ والظواهر الاجتماعية، ومن حيث قوة العرض والاستدلال بشواهد التاريخ.

ونستطيع أن نرجع كثيراً من أسباب هذه المشابهة بين المفكرين العظيمين إلى تماثل عجيب في العصر والظروف السياسية والاجتماعية التي عاش كل منهما فيها. فقد كانت الإمارات والجمهوريات الإيطالية التي عاش ميكافيللي في ظلها تعرض في إيطاليا نفس الصور والأوضاع السياسية التي تعرضها الممالك المغربية أيام ابن خلدون، من حيث اضطرام المنافسات والخصومات فيما بينها، وطموح كل منها إلى افتتاح الاخرى، وتقلب إماراتها ورياساتها بين عصبة من الزعماء والمتغلبين. وقد اتصل ميكافيللي بهذه الدول، وقضى عصراً في خدمة إحداها وهي وطنه فلورنسا (فيرنتزا) وانتدب لمهام سياسية مختلفة؛ واستطاع أن يدرس عن كثب كثيراً من الحوادث والتطورات السياسية التي تعاقبت في عصره، وان يجعل من هذا الدرس مادة لتأملاته عن الدولة والأمير، كما جعل ابن خلدون من الحوادث التي عاصرها واشترك فيها مادة لدرسه وتأملاته.

على أن المفكر المسلم أغزر مادة وأوسع آفاقاً من المفكر الإيطالي. ذلك أن ابن خلدون يتخذ من المجتمع كله وما يعرض فيه من الظواهر مادة لدرسه، ويحاول أن يفهم هذه الظواهر وأن يعللها على ضوء التاريخ، وأن يرتب على سيرها وتفاعلها قوانين اجتماعية عامة. ولكن ميكافيللي يدرس الدولة فقط، أو يدرس أنواعاً معينة من الدول، هي التي يعرضها التاريخ اليوناني والروماني القديم، وتاريخ إيطاليا في عصره، ويدرس شخصية الأمير والمتغلب الذي يحكم الدولة، وما يلحق بها من الخلال الحسنة أو السيئة، وما يعرض لها من وسائل الحكم. وهذه الدراسة المحدودة المدى تكون جزءاً صغيراً فقط من دراسة ابن خلدون الشاسعة، وهو الفصل الثالث من الكتاب الأول من المقدمة، وهو الذي يدرس فيه أحوال الدولة العامة والملك والمراتب السلطانية. وحتى في هذا المدى المحدود يتفوق ابن خلدون على ميكافيللي تفوقاً عظيماً. ويبتدع هنا نظرية العصبية، ونظرية إعمار الدول، ويتناول خواص الدولة من الناحية الاجتماعية وإن كان ميكافيللي من جهة أخرى يتفوق على ابن خلدون في سلاسة المنطق، ودقة العرض والتدليل، ورواء الأسلوب.

كتب ميكافيللي كتابه (الأمير) سنة 1513 وأهداه إلى لورنزو دى مديتشي (الأفخم) أمير فلورنسا، وهو يشير إلى غرضه من وضع كتابه في قوله للأمير في خطاب الإهداء: (ومع أني أعتبر هذا المؤلف غير خليق بمطالعة محياك، فإني اعتمد جل الاعتماد على عطفك ورقتك في قبوله، فلست أستطيع في إهدائك خيراً من أن اقدم إليك فرصة لتفهم في أقصر الأوقات كل ما عرفته خلال أعوام طويلة، وفي غمار من المتاعب والأخطار) وفي قوله: (فتناول يا ذا الفخامة هذه الهدية الصغيرة بنفس الروح الذي أرسلها به، وإنك إذا قرأته بإمعان وتأمل، فسوف تعرض خالص رغبتي في أن تظفر بهذه العظمة التي يمنى بها حسن الطالع وتمنى بها خلالك) وإذن فقد أراد ميكافيللي أن يقدم كتابه (الأمير) مرشداً لأمراء عصره يرشدهم إلى أمثل طرق الحكم، وأمثل الوسائل لسيادة الشعوب التي يحكمونها. وميكافيللي يستمد آراءه ونظرياته من حوادث التاريخ القديم. وبالأخص من حوادث عصره التي شهدها وخبرها. ويرتب عليها أحكاماً وقواعد عامة، كما يرتب ابن خلدون مثل هذه الأحكام والقواعد على دراسته للمجتمع. ويبسط ميكافيللي دراسته في بحوث موجزة ويبدأ بالحديث عن أنواع الإمارات، ووسائل اكتسابها، وعن الوسائل التي تحكم بها المدن أو الإمارات التي كانت تعيش في ظل قوانينها قبل أن تغلب، وعن الإمارات التي تقوم بالفتح وكفايات الأمير الشخصية، وعن تلك التي تغنم على يد آخرين أبطرق الحظ، أو تلك التي تغنم بالغدر والخيانة. وعن الإمارات المدنية والدينية، وعن أنواع الجيوش والجنود المرتزقة، وما يجب أن يعرفه الأمير عن فن الحرب. ثم يتناول بعد ذلك شخصية الأمير، وما يحمد فيه من الخلال وما يذم، وعن الكرم والشح، والرأفة والقسوة

وعن الطريقة التي يجب أن يحفظ بها الأمراء وعودهم، وعما يجب عليهم لتجنب بغض الشعب واحتقاره، وما يجب عليهم لاكتساب الشهرة والمجد، وأخيراً يتحدث عن حجاب الأمير (سكرتارية) وعن وجوب تجنب الملق، وعن الأسباب التي فقد بها أمراء إيطاليا دولهم، وعما يمكن أن يؤديه حسن الطالع في سير الشؤون البشرية؛ ثم يختتم بالحث على تحرير إيطاليا من نير الأجانب أو غزوات البرابرة كما يسميهم.

تلك هي المباحث التي جعلها ميكافيللي قوام فلسفته عن الدولة والأمير. ويبدو بالأخص مما كتبه عن (الأمير) انه يعالج موضوعاً عالجه المفكرون المسلمون قبل ابن خلدون بعصور طويلة، هو موضوع (السياسة الملكية) وهو موضوع يجري منذ القرن الثالث الهجري في التفكير الإسلامي مع بحث أو علم خاص هو علم السياسة على نحو ما بينا في فصل سابق. وقد رأينا مما تقدم أن (السياسة) كانت تفهم عند العرب في العصور الأولى بمعنى ضيق جداً هو شرح الخلال الحسنة التي يجب أن يتصف بها الأمير، والعيوب التي يجب أن يبرأ منها لكي يصلح لرآسة الدولة وتبوء الملك؛ ولكي يستطيع الحكم بأهلية وكفاية. ثم توسع المفكرون المسلمون في فنهم معنى (السياسة) وقسموها إلى عدة أنواع؛ وتناولوا (السياسة الملكية) من الناحية الفقهية وكذا من الناحية الإدارية وبحثوا مركز الأمير من الناحية الشرعية وتحدثوا عن الخطط السلطانية، وظاهر ما يتناوله المفكر الإيطالي من خواص الأمير وخلاله وواجباته هو ضرب مما تناوله المفكرون المسلمون منذ أواخر القرن الثالث الهجري. ومن ذلك ما كتبه ابن قتيبة في كتاب (عيون الأخبار) والماوردي في كتاب (الأحكام السلطانية) والطرطوشي في كتاب (سراج الملوك) والغزالي في كتاب (التبر المسبوك)، ثم ابن الطقطقي في كتاب (الآداب السلطانية). وهو موضوع تناوله ابن خلدون فيما تناوله من أحوال الدول العامة والملك، إذ يتحدث هنا عن حقيقة الملك وأصنافه، وعن معنى الخلافة والامامة، وعن مختلف المذاهب والآراء في حكم الإمامة ثم عن الخطط السلطانية، وحديثه في ذلك يمتاز عن حديث أسلافه بما يتخلل بحثه وتدليله من الملاحظات والتأملات الاجتماعية التي لم يوفق إليها باحث قبله.

على أن ميكافيللي يمتاز في بحثه بروح عملية جافة. وبينما يتحدث المفكرون المسلمون عن الأمير أو الحاكم كما يجب أن يكون، وعن خلاله المثلى كما يجب أن يكون، إذا بالمفكر الإيطالي ينظر إلى الأمير الأمثل نظرة عملية محضة. فيصفه كما هو في الواقع، ويتصور خلاله المثلى فيما هو حادث بالفعل، ويرتب تدليله ونتائجه على ما أحرز الأمير وأحرزت خلاله من النجاح أو الفشل دون تأثر بما إذا كانت هذه الصور والخلال تتفق مع مبادئ الأخلاق المثلى كما فهمت خلال العصور. ومن هنا تستمد فلسفة ميكافيللي لونها القاتم، وتوصم آراءه ونظرياته السياسية بتلك الصرامة والقسوة والخبث التي جعلتها حتى عصرنا مضرب الأمثال للسياسة الغادرة التي لا ضمير لها ولا وازع، والتي جردت من كل نزاهة وعفة، وتغاضت عن كل المثل الإنسانية والأخلاقية. وإلى القارئ بعض نماذج من تلك الآراء التي طبعت فلسفة ميكافيللي، وأميره الأمثل بذلك الطابع الأسود.