مجلة الرسالة/العدد 19/مستقبل الإنسانية

مجلة الرسالة/العدد 19/مستقبل الإنسانية

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 10 - 1933



للكاتب الاجتماعي هـ. ج.

تحليل وتعليق شهدي عطية الشافعي

كان عجباً حقاً أن يتخرج ويلز في كلية العلوم الملكية حيث الهندسة والجبر والميكانيكا ليصبح روائياً له مكانته العالمية.

وكان غريباً وهو رجل العلوم والرياضيات أن يتخطى السنين فيحلق على أجنحة الخيال ليكتب عن القمر وسكانه والمريخ وسبيل الوصول إليه. ثم يهبط إلى الأرض فيوجه إلى المجتمع الحديث بما فيه من نظم وأوضاع قارص النقد وشديد اللوم. تثقف ويلز ثقافة علمية صحيحة، وأمعن في القراءة لدارون وآمن بنظريته في النشوء والارتقاء إيماناً لا يتطرق إليه الشك. وتتبع محاظرات هكسلي تلميذ دارون بشغف لا مزيد عليه. والتهم معظم مؤلفات سبنسر. وكان إعجابه شديداً بوليام جيمس عالم النفس المعروف والفيلسوف التجريبي.

. . . . . ولكنه مع كل هذا كان رجل الخيال الرائع والأحلام الذهبية قبل أن يكون رجل المعضلات الحسابية والنظريات الهندسية، وكان لابد أن يتضارب الخيال مع الواقع. وإن تتناقض الدروس التي تلقاها في علم الكائنات الحية وغرامه بالروايات والقصص.

ولكن ويلز كان عقلية خصيبة من هذه العقليات التي تهضم كل شيء حتى لتستطيع أن تمزج الخيالات والحقائق، وتخلط التشريح والعواطف، وتوفق بين الروح العلمية والروح الشاعرة.

ولذا تجده في كتاباته يحيطك بشباك من حقائق علمية لا يمكنك إنكارها. ثم يجرك في رفق وهوادة إلى أشد ضروب الخيال إغراقاً في الخيال، وأكثرها بعداً عن العقل، ولكن لا يسعك إلا أن تسلم بما يقول وتوقن بما يكتب.

إن الإنسان بكل ما فيه من جمال وكل ما وهب من عقل لم يكن يوماً من الأيام إلا قرداً ممسوخاً لا جمال فيه ولا عقل له. هكذا كانت الصيحة التي فوجئ بها البشر من فم رجل قبيح الوجه عرفه الناس باسم دارون.

ولم يكن في هذه الصيحة من جديد. فقد سبقه إليها العالم (لامارك) ولكن دارون زعم أ هناك سنّة للحياة لا محيد عنها. وقانوناً صارماً لا سبيل للهروب منه: هو قانون تنازع البقاء.

فهذه الحياة تضطرب بملايين من المخلوقات تتباين في نموها وتختلف في تركيبها، ولكن لا تلبث الحياة أن تضيق ذرعاً بها فتقدر لها أن تشتبك في قتال وحشي، ثم لا يبقى منها حياً إلا أقواها وأصلحها.

وإذا كانت القرود قد تمخض عراكها عن إنسان بسود اليوم وجه الأرض. فأي مخلوق جديد سيكشف لنا عنه الغد! تساؤل تملك ويلز تملكاً قوياً وكان محوره: وإلى أين هذه الإنسانية؟ وأي فئة من البشر مقدر لها البقاء؟ وأيها محكوم عليه بالفناء؟

ولقد زعم ويلز إنه مستطيع أن يهتك اللثام عن وجه هذا الغد المجهول فيصور لنا تصويراً دقيقاً رجل المستقبل، جسمه وعقله ونفسيته والمجتمع الذي يعيش فيه! ولكنه كان في كتابه حذراً. فهو يستند دائماً إلى الحقائق الثابتة، ويسترشد بماضي التطور الإنساني، ويعتمد على مجريات الحوادث. مما رفع به إلى مصاف كبار المفكرين. وجعل لرواياته الشيقة صبغة علمية محترمة.

فتراه يدرس الماضي ويحاول أن يستشف منه المستقبل، يستنتجه استنتاجاً ومقدماته في ذلك فروض علمية صحيحة.

واليك مثلاً هذه المحاولة الكبرى من جانب الإنسان في سبيل التحرر من قيود الطبيعة. فها هو قد فك عن نفسه الثقل الذي يربطه إلى سطح الأرضفارتفع في الهواء. وها هو قد تغلب على مضطرب الأمواج، فامتطى البحار، وعلى صعب الأرض فشق في جوفه المسالك والطرقات.

وإذن فمن الطبيعي أن يستمر تطوره في هذه الناحية قوياً. فهو لابد يوماً متخلص تخلصاً تاماً من جاذبية الأرض ليصعد إلى القمر وليسبح منه إلى المريخ وليهبط منه إلى زحل!

وما دام الإنسان قد أستغل بعض عناصر الطبيعة من كهرباء وبخار فسخرها في أدارة آلاته وتسيير قاطراته، فليس عجيباً ألا يدع عنصراً إلا استخدمه غير تارك في ذلك موج بحر أو نور شمس أو حرارة في جوف أرض.

وما دام البشر قد تغلبوا على بعد الشقة وطول المكان بما أوجدوه من سريع الطيارات، فليس بعيداً أن يخترعوا آلة يتحكمون بها في الزمان. ماضيه ومستقبله.

فلا يرتبط رجل الغد بزمان أو مكان. قد يكون في شرق الأرض، فإذا به في غربها. قد يكون في السنة الحاضرة فإذا به قد تركها ليعيش في الماضي السحيق أو المستقبل البعيد.

ولن يرضيه وقد تخلص من قيود الطبيعة أن يستمر أسيراً لأغلال الجسد. فهو يركب غذاء يتمكن به أن يكون له من الجسم جباره ومن العضلات مفتولها، فلا يصيبه وهن ولا تعتوره شيخوخة.

وهو يتقدم الطب، وبقليل أو كثير من الرياضة يستطيع أن يتحكم في أعضاء جسمه. فلا يبقى منها على عضو لا فائدة فيه، ولا يدع عضواً نافعاً إلا قواه. فمعدته التي تجر عليه أمراضاً يحتاج لعلاجها إلى ألف طبيب وطبيب. لابد متخلص منها إلى معدة صناعية تقوم بوظيفة الهضم أحسن قيام! وأنفه هذا الذي كثيراً ما يصيبه بالزكام يجب أن يستبدل به أنفاً جديداً لا يتطرق إليه برد ولا تنزف منه دماء!

وهو قد يضايقه الخضوع للنظام الجنسي فتلهمه عبقريته طريقة للتناسل عن طريق غير طريق المرأة فلا يحتاج إليها ولا تحتاج إليه. وطبيعي بعد هذا أن تختفي لديه تلك العواطف الرقيقة من حب وشفقة وحنو. فهي كلها مظهر ضعف لا يليق به، وهو لن يعترف إلا بالعقل يدين له وبالمادة يؤمن بها. وبالقوة يخضع لها أو يناجزها.

سيكون إنساناً جباراً بكل معنى الجبروت، عظيم الخلقة، شديد الذكاء، قوي الإرادة، لا عواطف له ولا قلب. ثم لا مكان له ولا زمان. لا يعرف النوم، ولا بفهم الكلال، ولا يصيبه المرض! ثم ينتقل بك ويلز إلى رسم لا يقل غرابة لحالة المجتمع الذي يمكن أن يعيش فيه البشر غداً.

ولكنه يتأثر في هذا بآراء ماركس. وماركس هو هذا الألماني الذي زعم أن المال يجتمع في أيدي أفراد قلائل يتمتعون بأطايب العيش، بينما هناك ملايين من العمال محرومون لا يكادون يجدون ما يتبلغون به. ثم تنبأ بثورة هائلة تقوم بها الغالبية الساحقة من الطبقات الفقيرة يذبحون فيها الأقلية الضئيلة من أصحاب رؤوس الأموال.

وبذا يسدل الستار عن مأساة كبرى قد تكون خاتمة الحياة الإنسانية أو بدء حياة جديدة هانئة سعيدة.

وقد كان لهذه النظرية أثر عميق في كتابات ويلز عن مجتمع المستقبل إلا أنه ذهب شوطاً أبعد، فزعم أن الفروق بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال ستتسع فلا تقتصر على نوع المعيشة بل سيتناول الجسم والعقل فينقسم البشر طائفتين متنابذتين متفاوتتين. طائفة قوية جبارة تسمو إلى أكثر ما يمكن أن يسمو إليه إنسان، فتكون نوعاً بذاته له مميزاته. ثم طائفة أخرى تنحط إلى أقصى حدود الإنسانية. مكانها تحت الأرض. وعملها آلة تديرها، ويكون من نتيجة المعيشة التي تعيشها أن يكيف عقلها فيصبح قاصراً محدوداً ويشوه جسمها فلا يصير قادراً إلا على حركة واحدة يأتيها.

ويشتد هذا الاختلاف وضوحاً. ويقوى هذا التباين ظهوراً، حتى تختفي أوجه التشابه بين الفريقين فلا تمازج بينهما ولا تزاوج ولا عاطفة هناك ولا علاقة، اللهم إلا تحكم قوي في ضعيف.

وهنا يتردد ويلز كثيراً. فهو لا يملك إلا أن يتساءل. أهذا هو الفصل الأخير من رواية الإنسانية؟ أم ذلك بداءة لثورة يثورها سكان ما تحت الأرض يحاولون فيها تخلصاً من ربقة العبودية الثقيلة؟

ويتحدث ويلز عن هذه الثورة ولكنه يتهرب من التكهن بنتيجتها الحاسمة، فهو في شك وأنت تعجب لهذا الشك. فكيف يمكن لقوم قد هزلت أجسامهم وضعفت عقولهم أن يصمدوا لطائفة لها من العقل أرقاه ومن الجسم أقواه؟

ولكن ويلز يعود فيعطيك صورة أخرى لهؤلاء الجبابرة من رجال الغد. فهم بعد أن استكشفوا ما في السماوات والأرض وبعد أن تسنموا الرقي حتى قمته لا يجدون ثمة عملاً يعملونه، أو معضلة يفكرون فيها، أو شاغراً يصرفون فيه ذكاءهم، فيلجئون إلى الرفاهية والتهتك ينهلون منها الكأس حتى الثمالة. وإلى الترف والخلاعة ينسون بها ما قد يلحقهم من سأم قتال، فتخبوا ملكاتهم وتضعف قواهم وتنحل عظمتهم

ولا شك أن حرباً تقوم بينهم وبين عمال الأرض السفلى هي حرب سجال!

لا يسعك وأنت تقرأ لويلز إلا أن تنسى نفسك فتتحمس إذا ما تحمس وتضحك معه إذا ما ضحك، وتتشاءم لتشاؤمه. وينسيك إعجابك بالقصة وبغرابة أفكارها وروعة خيالها. ينسيك موطن الضعف من ويلز.

فهذه الصور التي صورها عن التطور البشري صور مغرية فيها بعض الحق وناحية من الصواب، ولكنه ليس كل الحق ولا معظم الصواب. فهو قد تجاهل عاملاً هاماً له أثره الخطير. تجاهل هذا التوازن الدقيق الذي نشاهده في قوى طبيعية. فلا يرتفع جزء من الأرض إلا انخفض جزء، ولا يهدم بناء إلا وقام بناء ولا يتشقق صخر إلا التأم آخر.

وهكذا لا يمكن أن يقوى العقل الإنساني إلا على حساب الجسم ولا تتاح للعضلات أن تضخم إلا إذا فقد العقل بعض قوته. وهذه الصورة التي أعطاها ويلز عن إنسان الغد مبالغ فيها إذ يختل فيها التوازن اختلالاً واضحاً.

فها هو الإنسان إنسان منذ العصور التاريخية وليس هناك من يزعم أن مقدرة العقل الإنساني أو قوة جسمه قد زادت زيادة تسمح لويلز أن ينسب لرجل الأجيال القادمة قوة عقل خارقة يصحبها قوة جسدية لا حد لها.

وهذا التوازن ينساه مرة أخرى في الصور التي يبدعها عن مجتمع الغد. فنظرية ماركس القائلة بأن الثروة مصيرها إلى التجمع في أيدي نفر قليل، والتي أخذ بها ويلز نظرية لا يتاح لها أن تتحقق، فالثروات اليوم تتجه إلى التوازن، وعامل اليوم يساهم في الشركات التي تقوم عليها الأمور، والمال يتبدد ويتوزع بين الأفراد، والأزمات المتلاحقة تهدد من كيان بيوت المال الضخمة، ومن كبار الأغنياء أكثر مما تقلل ثروة الفقير أو العامل الأجير.

لذلك نأبى تصديق ويلز فيما ذهب إليه من أن الإنسانية قد تنقسم طائفتين متباينتين. بل نرى عكس ذلك، فالعامل في رقي عقلي يساعده ما يجد من ساعات فراغ كان لا يجدها بالأمس، ويعاونه أتساع مجال الثقافة وانتشار التعليم انتشاراً سريعاً.

ثم أن الفروق الاجتماعية في طريقها إلى الزوال، فالكل قد تساووااليوم في الحقوق والواجبات، والكل قد يتساوون غداً في العلم والثروة. ونظام الطبقات الذي كان يضع فواصل من حديد بين الشريف والحقير هو في سبيله إلى الانهيار ان لم يكن قد أنهار منذ زمان.

ثم شيء آخر نوافق عليه ويلز ونخالفه فيه، نوافقه على ما يكتبه من تطور الإنسان الآلي وتقدمه في إخضاع عناصر الطبيعة. ولكنا نخالفه في أن هذا التطور قد يتجه بالإنسان إلى ناحية مادية لا يخضع فيها إلى قانون ولا يؤمن بدين ولا يعترف بخالق. إن ناساً كهؤلاء لا يستطيعون مكثاً في الأرض ولا مضياً. فهم بماديتهم وجشعهم وإسفافهم الخلقي لابد متقاتلون، متناجزون، فلا يبقي فرد منهم فردا.

ولا تحسب أن هذه الملايين من السنين التي مضت على تاريخ البشرية ستنتهي إلى مخلوقات ويلز البشعة. فنحن نؤمن أن الطبيعة التي طورت القرد إلى إنسان حسن التكوين، متناسق الصورة قوي الشعور، طبيعة فنانة ذكية عاقلة! وليست هي مجموعة من المصادفات الهوجاء.

ونحن نظن أن الإنسانية التي كانت تسير على غير هدى بالأمس قد أصبحت اليوم شاعرة عاقلة تحس نفسها وتتساءل عن مصيرها، ولقد شارفت الأفول شمس هذا اليوم الذي كان يسير الناس فيه عمياً لا يبصرون، ويخضعون ويتألمون ولا يدرون، لماذا يتألمون. وسيغرب هذا اليوم ليشرق غد عن الإنسانية أكثر استثارة، وأقل حيوانية وأنزع إلى الكمال، وأعرف بمواطن الضعف، وبطرق العلاج.

هذا ما يحملنا على الاعتقاد بأن هذه الناحية من كتابات ويلز الاجتماعي ليست بالناحية الخالدة وان كانت هذه الناحية هي التي برز فيها واشتهر بإتقانها.

لقد طرق ويلز موضوعاً آخر أبدع في علاجه إبداعا لا شك أنه رافع اسمه إلى الخلود.

وهذا ما يحدونا إلى الكتابة عنه مرة أخرى؟