مجلة الرسالة/العدد 190/الفنون

مجلة الرسالة/العدد 190/الفنون

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 02 - 1937



الفن المصري

للدكتور أحمد موسى

تمهيد

سل من شئت من المصريين عن تاريخ مصر الفني وعما في تراث الأجداد من مميزات، وعن الناحية الجميلة الممتعة فيه؛ بل سل أغلبية الناس في مصر ممن زاروا أهرام سقارة، وممن تطرف في حب المشاهدة للآثار المصرية وسافر إلى الأقصر، وشاهد معبد الكرنك وطيبة ووادي الملوك والملكات وتمثالي ممنون؛ سل كل هؤلاء عما شاهدوه وعما استفادوه، وعن ناحية الجمال فيما عاينوه، فلا تسمع إلا تخبطا يكاد لا يختلف عما تسمعه من أمي يعيش بجوار هذه الآثار طوال أيام حياته!

ثم شاهد مدينة القاهرة - على اعتبار أنها عاصمة القطر وأهم مدينة فيه - وما فيها من ضورب الخروج على أبسط مبادئ الذوق العام، وأخطر في أحسن شوارعها يستوقفك شذوذ الانسجام في مبانيها وظاهرة انحطاط الذوق في كل ما فيها؛ ثم تفلسف قليلا لمعرفة السبب في ذلك تجده دون شك ينحصر في جهل الناس معنى الجمال ومعنى الذوق ومعنى الفن. وهم في ذلك سواء، يستوي الجاهل مع العالم، والفقير مع الغني، والشيخ مع الأفندي

بيوت عالية شاهقة، وأخرى واطئة حقيرة، كلها متجاورة. وإذا صادفت عشر عمارات كبار الواحدة ملتصقة بالأخرى، ترى لكل منها شكلا ولكل منها منهجاً؛ كل هذا بجانب دكاكين كتب في أعلى مداخلها باللغة الإغريقية مرة وبالعبرية أخرى وبالأرمنية ثالثة، دكاكين كتب أعلى مداخلها بالفرنسية حينا وبالإيطالية أو الإنجليزية حينا آخر، كما تصادفك أخرى كتب عليها بالعبرية لغة الوطن، لغة البلاد!

تأمل كل هذا، ثم عرج على آثار الأقدمين تر أنها منسجمة، كلها من طراز واحد سمي الطراز المصري القديم. وإذا شاهدت المساجد جميعها رأيتها من طراز سمي (الأرابسك) فيه روح الانسجام، دون حاجة - في هذه أو تلك - إلى دقة الفحص لمعرفة عصر الآثار، وهل هي من مباني الأسرات الأولى أو المتوسطة أو الأخيرة، كما أنك لا تضطر إلى فحص نقوش مسجد أو كتاباته أو تفاصيل مبانيه لتعرف أن كان من الطراز الطولوني أو الفاطمي أو طراز المماليك البحرية أو الشراكسة، وما ذلك إلا لأن الأول مصري والثاني إسلامي

هذا ما سار عليه الناس أيام كانوا أميين، أما اليوم حيث كثر المتعلمون، وأصبحوا يلبسون كما يلبس الجنتلمان في أوربا، فنرى أنهم مع مزيد الأسف قد تجردوا من الذوق وبعدوا بعدا شاسعا عن المعرفة الحق، والثقافة الكاملة المؤدية إلى حسن التقدير والاستمتاع عن طريق التذوق

لعل قائلا يقول: وما ذنبنا نحن في هذا؟ الواقع أن الذنب راجع إلى مناهج التعليم المصرية، لأنها تجردت من كل المشوقات للدرس، وخلت مما يمهد لحب الفحص والنقد، فضلا عن بعدها عن كل ما ينتمي إلى الذوق العام بصلة

وفي أيامنا هذه كثر اللغط حول معارض الفن وحول التصوير والنحت وحول الموسيقى ووجوب تدريسها بالمدارس الابتدائية والثانوية، على أني أعتقد أن كل هذا لا يخرج عن معالجة الأعراض، أما الأسباب فهي عند أولي الأمر في المؤخرة

قرروا تدريس الموسيقى في المدارس، فهل قرروا إلى جانب ذلك تحسين الموسيقى وجعلها تخرج عن الوحدة الملائمة للرقص الخليع ورقص الخيل؟

وهذا نفسه ينطبق على نوع التثقيف الفني. فمنذ أن كانت لنا مدارس ابتدائية وثانوية وفن الرسم والتصوير باقيان على ما هما عليه لم يتغيرا ولم يتطورا، حتى كتب التاريخ العام لا ترى فيها أثراً لمعنى تاريخ الفن أو تاريخ الآثار تفصيلا أو إجمالا، مع أن التاريخ في جوهره يعتمد عليهما إلى أبعد حد

وهذا لم يكن سبباً كافيا لمن أولى الأمر على الاهتمام بدراسة تاريخ الفن، ليغرسوا في نفوس النشء شيئاً من التذوق والمعرفة الفنية

كان تاريخ الفن ضمن مواد الدراسة في كلية الهندسة عندما كانت مدرسة عالية، أما الآن فقد تقرر إلغاء تدريس هذه المادة للثقة التامة في عدم نفعها أو على الأقل لعدم الحاجة إليها في المستقبل العملي للمهندسين. أما كان الأجدر بكلية الطب إلغاء مادة الصوت والضوء من علم الطبيعية ومادة التشخيص الباطني لمن سيكون طبيباً للعيون. وإذا كان الأمر كذلك فلم يدرس طلبة كلية الحقوق القانوني الروماني؟ ولم يدرس طلبة كلية الآداب شيئاً من الأدب الإغريقي مثلا مع أنه لا ينفعهم في مستقبل حياتهم؟ (وهذا غير صحيح) الحق أننا نتخبط ولا نعرف إلى أي اتجاه نسير. فالثقافة العامة لن تكون كاملة ما لم تشمل أيضاً المعرفة بأصول الفن عن طريق دراسة تاريخه ولو إجمالا! إن الرسم والتصوير والنحت فنون ليست من شأن الرسامين والمصورين والنحاتين وحدهم، بل هي من شأن المجموع، إذا علمنا أن الفنان لا يعيش لنفسه، كما أن خلقه الفني لا يسجله هو بشخصه، بل أيضاً بعصره الذي عاش فيه، وبوطنه الذي شب على أرضه

وهذا ما يحتم علينا أن نعنى عناية خاصة بتاريخ الفن المصري والفن الإسلامي، وإذا كان مقال اليوم منصبا على الفن المصري وحده إجمالا، فأني أبدأ هنا بالتمهيد والتقديم له لأني لا أقصد بالكتابة مجرد الكتابة، ولا بنشر الصور مجرد التحلية، وإلا فما كان أهون عليّ من أن أتخير أجزل العبارات وأجمل المصورات، ولكني كما ترى أذهب بك ثمانية آلاف سنة إلى الوراء. لكي أستطيع أن أوضح في بساطة كيف نشأ الفن المصري وكيف نما وازدهر

والناظر إلى خريطة العالم يرى أن القطر المصري يتوسطها تقريبا إذا أراد أن يقسم الكرة الأرضية إلى قسمين متكافئي المساحة والتكوين، كما يرى أن وادي النيل أهم بقعة في القارة الأفريقية، ومن أهم مواقع الاتصال بين القارات جميعا.

وإذا كان هيرودوت قد قال بأن مصر هبة النيل , 4 , 351 - 355.) فلأنه كان ثاقب الفكر بعيد النظر، لتوقف حياة مصر على النيل مباشرة حيث نشأت في واديه أقدم مدينة عرفها التاريخ ولا يزال العالم أجمع يعجب بعظمتها في كل نواحيها

سارت هذه الحضارة والمدنية سيراً بطيئا طبيعياً ككل الحضارات الأخرى، مع فارق واحد هو التبكير العجيب، وإن علمنا أنها بدأت منذ خمسة آلاف سنة، فإن ثلاثة آلاف قد سبقتها لتمهد لها أعني منذ أصبحت أرض مصر الواقعة على ضفتي النيل صالحة للزراعة

هب إلى وادي النيل جماعات من تلك التي كانت تعيش في الأراضي القاحلة بصحراء ليبيا، والدارس لمقابر هؤلاء وما وجد فيها من متروكات، يستطيع أن يقف على طرق معيشتهم وأحوالهم رغما عن قلة ما تبقى منها (ش1) فيرى أنهم صنعوا العصي من سيقان الأشجار بمقابض من الحجر، كما زينوا أوانيهم الفخارية بأشكال متناظرة الرسم، متكررة الوضع لا تخرج عن خطوط مستقيمة متقاطعة أو منحنية أو دائرية، رسمت داخلها خطوط أخرى أقرب إلى الهاشور في أبسط مظاهره

وبمشاهدة مجموعات الأواني الفخارية يمكن ملاحظة التقدم التدريجي الذي طرأ عليها؛ فترى أنها اكتسبت شكلا تكوينياً أجمل (ش4) وزودت برسومات صغيرة مثلت شيئاً من حياتهم، فضلا عن التقدم الفني الذي نستطيع ملاحظته بمقارنة الأواني في (ش3) وفي (ش4) بعضها ببعض. والناظر إلى الآنية الوسطى من (ش4) يرى على سطحها الدائري رسوما ضعيفة، تمثل أناساً يحمل أحدهم إلى أقصى اليسار وعاء على رأسه، كما يرى على الجانب الأيمن للوعاء نفسه رسم النعام. أما الأواني الأخرى فهي أجمل شكلا وأكثر زخرفة. مما لا يزال مستعملا إلى اليوم في مصر وبشمال أفريقية ببلاد الجزائر والمغرب، وهذا يدل على وجود صلة قديمة بهؤلاء.

ووجدت ببعض المقابر أمشاط للشعر، زينوها من أعلاها بأشكال كانت غالبا تمثل رؤوس حيوانات أو طيور أو رأس إنسان.

وصنعوا أسلحتهم من الصوان (ش2)، وكانت هذه خطوة لا يستهان بها، خصوصا لصلابته وصعوبة نحته وما يتطلبه ذلك من مجهود وعناية.

ولبس المصريون النعال المصنوعة من الجلد، وجعلوا لها أربطة (ش5) من الجانبين لتثبيتها على القدم.

وأخذوا يلتفتون تدريجيا إلى الزينة، فعملوا العطور ووضعوها في أوعية صغيرة كانت بأشكال مختلفة. واستمروا في تقدمهم فراجت مصنوعاتهم وانتشرت تجارتهم. وازدادت صلتهم بالبلاد المجاورة وازداد عددهم. كما عرفوا المعادن واستخدموها في مختلف أغراضهم وأدخلوها في صناعة أدوات الزينة والتحلية، فعملوا الأساور والعقود بعضها من الذهب ومن الحديد الأزرق الجميل الذي زادها رونقا، وأعطانا فكرة صادقة عن ندرته وغلائه.

وبدأت العقيدة الدينية تدب إلى نفوسهم نتيجة شعورهم بالوجدان والاجتماع، وأخذت نظرتهم إلى الحياة تتطور، فعملوا تعاويذ لجلب الرزق ولصد العين. وكانت هذه التعاويذ عبارة عن طيور وحيوانات عبدها المصريون أيام تحضرهم، ورسموا بعضها في مناسبات كثيرة.

واعتقد المصريون بخلود الروح، فوضعوا في مقابرهم كثيرا من الحبوب والتمر والتحف السابقة لعصر التاريخ.

وعندما وصل المصريون إلى هذا المستوى، في وقت كان العالم فيه لا يزال في ظلمات الجهل، أخذوا يشعرون بحاجتهم إلى القانون وإلى الاتحاد لصد هجمات البلدان المجاورة، فقام فيهم الملك مينا موحدا البلاد، جاعلا من مصر السفلى والعليا مملكة واحدة ابتدأ بتأسيسها، فبدأ بذلك عصر مصر التاريخي أو عصر الأسرات.

(يتبع)

أحمد موسى