مجلة الرسالة/العدد 190/صعاليك الصحافة. . .

مجلة الرسالة/العدد 190/صعاليك الصحافة. . .

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 02 - 1937


2 - صعاليك الصحافة. . .

للأستاذ مصطفي صادق الرافعي

وغاب شيخنا أبو عثمان عند رئيس التحرير بعض ساعة ثم رجع تدور عيناه في جِحَاظَيْهما وقد اكفهر وجهه وعبس كأنما يجري فيه الدم الأسود لا الأحمر، وهو يكاد ينشق من الغيظ وبعضه يغلي في بعضه كالماء على النار. فما جلس حتى جاءت ذبابتان فوقعتا على كنفي أنفه تتمان كآبة وجهه المشوه، فكان منظرهما من عينيه السوداوين الجاحظتين منظر ذبابتين ولدتا من ذبابتين. . .

وتركهما الرجل لشأنهما وسكت عنهما. فقلت له: يا أبا عثمان هاتان ذبابتان ويقال إن الذباب يحمل العدوَى

فضحك ضحكة المغيظ وقال: إن الذباب هنا يخرج من المطبعة لا من الطبيعة. . . فأكثر القول في هذه الجرائد حشرات من الألفاظ: منها ما يستقذر، وما تنقلب له النفس، وما فيه العدوى، وما فيه الضرر؛ وما بد أن يعتاد الكاتب الصحافي من الصبر على بعض القول مثلما يعتاد الفقير من الصبر على بعض الحشرات في ثيابه. وقد يريده صاحب الجريدة أو رئيس التحرير على أن يكتب كلاماً لو أعفاه منه وأراده على أن يجمع القمل والبراغيث من أهدام الفقراء والصعاليك بقدر ما يملأ مقالة. . . كان أخف عليه وأهون، وكان ذلك أصرح في معنى الطلب والتكليف.

وكيفما دار الأمر فإن كثيراً من كلام الصحف لو مسخه الله شيئاً غير الحروف المطبعية، لطار كله ذباباً على وجوه القراء.

قلت: ولكنك يا أبا عثمان ذهبت مُتَطَلِّقاً إلى رئيس التحرير ورجعت متعقداً فما الذي أنكرت منه؟

قال: (لو كان الأمر على ما يشتهيه الغرير والجاهل بعواقب الأمور لبطل النظر وما يشحذ إليه وما يدعو إليه، ولتعطلت الأرواح من معانيها والعقول من ثمارها، ولعدمت الأشياء حظوظها وحقوقها). هناك رجل من هؤلاء المعنيين بالسياسة كما هي السياسة في هذا البلد. . . يريد أن يخلق في الحوادث غير معانيها، ويربط بعضها إلى بعض بأسباب غير أسبابها، ويخرج منها نتائج غير نتائجها، ويلفق لها من المنطق رقعاً كهذه الرقع في الثوب المفتوق. ثم لا يرضى إلا أن تكون بذلك رداً على جماعة خصومه وهي رد عليه وعلى جماعته، ولا يرضى مع الرد إلا أن يكون كالأعاصير تدفع مثل تيار البحر في المستنقع الراكد

ثم لم يجد لها رئيس التحرير غير عمك أبي عثمان في لطافة حسه وقوة طبعه وحسن بيانه واقتداره على المعنى وضده، كأن أبا عثمان ليس عنده ممن يحاسبون أنفسهم ولا من المميزين في الرأي، ولا من المستدلين بالدليل، ولا من الناظرين بالحجة. وكأن أبا عثمان هذا رجل حرُوفي. . . كحروف المطبعة ترفع من طبقة وتوضع في طبقة وتكون على ما شئت، وأدنى حالاتها أن تمد إليها اليد فإذا هي في يدك

وأنا أمرؤ سيد في نفسي وأنا رجل صدق ولست كهؤلاء الذين لا يتأثمون ولا يتذممون؛ فإن خضت في مثل هذا انتقض طبعي وضعفت استطاعتي وتبين النقص فيما أكتب، ونزلت في الجهتين فلا يطرد لي القول على ما يرجو ولا يستوي على ما أحب. فذهبت أناقضه وارد عليه؛ فبهت ينظر إلي ويقلب عينيه في وجهي كأن الكاتب عنده خادم رأيه كخادم مطبخه وطعامه هذا من هذا

ثم قال لي: يا أبا عثمان إني لأستحي أن أعنفك. وبهذا القول لم يستح أن يعنف أبا عثمان. . . ولهممت والله أن أنشده قول عباس بن مرداس:

أكُلَيب. . . مالك كلَّ يوم ظالما ... والظلمُ أنَكدُ وجهه ملعون. . .

لولا أن ذكرت قول الآخر:

وما بين من لم يُعطِ سمعاً وطاعةً ... وبين تَميمٍ غيرُ حَزِّ الغلاصمِ

حزُ الغلاصم (وقطعُ الدراهم) من قافية واحدة. . . وقال سعيد بن أبي عروبة: (لأن يكون لي نصف وجه ونصف لسان على ما فيهما من قبح المنظر وعجز المخبر - أحب إلي من أن أكون ذا وجهين وذا لسانيين وذا قولين مختلفين). وقال أيوب السختياني. . .

وهم شيخنا أن يمر في الحفظ والرواية على طريقته فقلت: وقال رئيس التحرير. . .؟

فضحك وقال: أما رئيس التحرير فيقول: إن الخلابة والمواربة وتقليب المنطق هي كل البلاغة في الصحافة الحديثة، ولهي كقلب الأعيان في معجزات الأنبياء صلوات الله عليهم فكما انقلبت العصا حيةً تسعى، وهي عصا وهي من الخشب، فكذلك تنقلب الحادثة في معجزات الصحافة إذ تعاطاها الكاتب البليغ بالفطنة العجيبة والمنطق الملون والمعرفة بأساليب السياسية، فتكون للتهويل وهي في ذاتها اطمئنان، وللتهمة وهي في نفسها براءة، وللجناية وهي في معناها سلامة. ولو نفخ الصحافي الحاذق في قبضة من التراب لاستطارت منها النار وارتفع لهبها الأحمر في دخانها الأسود. قال: وإن هذا المنطق الملون في السياسة إنما هو إتقان الحيلة على أن يصدق الناس، فأن العامة وأشباه العامة لا يصدقون الصدق لنفسه ولكن للغرض الذي يساق له، إذ كان مدار الأمر فيهم على الإيمان والتقديس، فأذقهم حلاوة الإيمان بالكذب فلن يعرفوه إلا صدقاً وفوق الصدق، وهم من ذات أنفسهم يقيمون البراهين العجيبة ويساعدون بها من يكذب عليهم متى أحكم الكذب، ليحققوا لأنفسهم أنهم بحثوا ونظروا ودققوا. . .

ثم قال أبو عثمان: ومعنى هذا كله إن بعض دور الصحافة لو كتبت عبارة صريحة للإعلان لكانت العبارة هكذا: سياسة للبيع. . . .

قلت: يا شيخنا فإنك هنا عندهم لتكتب كما يكتبون، ومقالات السياسة الكاذبة كرسائل الحب الكاذب تقرأ فيها معان لا تكتب، ويكون في عبارتها حياء وفي ضمنها طلب ما يُستَحى منه. . . والحوادث عندهم على حسب الأوقات، فالأبيض اسود في الليل والأسود ابيض في النهار، ألم تر إلى فلان كيف يصنع وكيف لا يعجزه برهان وكيف يخرج المعاني؟

قال: بلا نعم الشاهد هو وأمثاله. إنهم مصدقون حتى في تاريخ حفر زمزم

قلت: وكيف ذلك؟

قال: شهد رجل عند بعض القضاة على رجل آخر، فأراد هذا أن يجرح شهادته، فقال للقاضي: أتقبل منه وهو رجل يملك عشرين ألف دينار ولم يحج إلى بيت الله؟ فقال الشاهد: بلا قد حججت. قال الخصم: فأسأله أيها القاضي عن زمزم كيف هي؟ قال الشاهد: لقد حججت قبل أن تحفر زمزم فلم أرها. . .

قال أبو عثمان: فهذه هي طريقة بعضهم فيما يزكي به نفسه؛ ينزلون إلى مثل هذا المعنى وإن ارتفعوا عن مثل هذا التعبير؛ إذ كانت الحياة السياسية جدلاً في الصحف لنفي المنفي وإثبات المثبت، لا عملا يعملونه بالنفي والإثبات. ومتى استقلت هذه الأمة وجب تغيير هذه الصحافة وإكراهها على الصدق فلا يكون الشأن حينئذ في إطلاق الكلمة الصحافية إلا من معناها الواقع.

والحياة المستقلة ذات قواعد وقوانين دقيقة لا يترخص فيها مادام أساسها إيجاد القوة وحياطة القوة وأعمال القوة، ومادامت طبيعتها قائمة على جعل أخلاق الشعب حاكمة لا محكومة. وقد كان العمل السياسي إلى الآن هو إيجاد الضعف وحياطة الضعف وبقاء الضعف؛ فكانت قواعدنا في الحياة مغلوطة، ومن ثم كان الخلق القوي الصحيح هو الشاذ النادر يظهر في الرجل بعد الرجل والفترة بعد الفترة؛ وذلك هو السبب في أن عندنا من الكلام المنافق أكثر من الحر، ومن الكاذب أكثر من الصادق، ومن المماري أكثر من الصريح؛ فلا جرم ارتفعت الألقاب فوق حقائقها وصارت نعوت المناصب وكلمات باشا وبك من الكلام المقدس صحافياً. . . .

يا لعباد الله! يأتيهم اسم الأديب العظيم فلا يجدون له موضعاً في (محليات الجريدة)؛ ويأتيهم أسم الباشا أو البك أو صاحب المنصب الكبير فبماذا تتشرف (المحليات) إلا به؟ وهذا طبيعي، ولكن في طبيعة النفاق، وهذا واجب ولكن حين يكون الخضوع هو الواجب. ولو أن للأديب وزناً في ميزان الأمة لكان له مثل ذلك في ميزان الصحافة، فأنت ترى أن الصحافة هنا هي صورة من عامية الشعب ليس غير. . . ومن ذا الذي يصحح معنى الشرف العامل لهذه الأمة وتاريخها - وأكثر الألقاب هي أغلاط في معنى الشرف. . .؟

ثم ضحك أبو عثمان وقال: زعموا أن ذبابة وقعت في بارجة (أميرال) إنجليزي أيام الحرب العظمى؛ فرأت القائد العظيم وقد نشر بين يديه درجاً من الورق وهو يخطط فيما رسما من رسوم الحرب. ونظرت فإذا هو يلقي النقطة بعد النقطة من المداد ويقول: هذه مدينة كذا، وهذا حصن كذا، وهذا ميدان كذا. قالوا فسخرت منه الذبابة وقالت: ما ايسر هذا العمل وما أخف وما أهون! ثم وقعت على صفحة بيضاء وجعلت تلقي وَنِيمَها هنا وهناك وتقول: هذه مدينة، وهذا حصن. . .

والتفت الجاحظ كأنما توهم الجرس يدق. . . فلما لم يسمع شيئاً قال:

لو أنني أصدرت صحيفة يومية لسميتها (الأكاذيب)، فمهما أكذب على الناس فقد صدقت في الاسم، ومهما أخطئ فلن أخطئ في وضع النفاق تحت عنوانه

قال: ثم أخط تحت أسم الجريدة ثلاثة أسطر بالخط الثلث هذا نصها: ما هي عزة الأذلاء؟ هي الكذب الهازل

ما هي قوة الضعفاء؟ هي الكذب المكابر

ما هي فضيلة الكذابين؟ هي استمرار الكذب

قال: ثم لا يحرر في جريدتي إلا (صعاليك الصحافة) من أمثال الجاحظ. ثم أكذب على أهل المال فأمجد الفقراء العاملين، وعلى رجال الشرف فأعظم العمال المساكين، وعلى أصحاب الألقاب فأقدم الأدباء والمؤلفين. و. . .

ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير. . .

لها بقية

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي