مجلة الرسالة/العدد 191/بين تلستوي وماكس نوردو

مجلة الرسالة/العدد 191/بين تلستوي وماكس نوردو

مجلة الرسالة - العدد 191
بين تلستوي وماكس نوردو
ملاحظات: بتاريخ: 01 - 03 - 1937



للأستاذ عبد الرحمن شكري

قرأت تلستوي قبل أن أقرأ نقد ماكس نوردو لآرائه. وكنت أشك فيما شك الناقد الألماني، ولكني عندما قرأت نقده لتلستوي لم يقنعني تعليله، أو على الأقل رأيت أنه لم يتتبع كل احتمال يمكن أن تصير إليه النفس الحائرة في بحث معضلات الحياة، ولم يقف كل موقف من الجائز أن تقفه في أثناء بحثها؛ فكان تعليله لما ينقد من الآراء بالشذوذ الجثماني في صاحب الرأي، ولم يدر أن كل إنسان شاذ وأن كل مفكر مصحوب بشيء من الشذوذ الجثماني، وأن الشذوذ الجثماني قد يكون في غير المفكر أكثر منه المفكر، وأن الإنسان حيوان شاذ. وأن الرأي الذي ينقده قد يكون قد دخل عليه الخطأ بسبب رفض صاحبه لخطأ آخر في أثناء بحثه الحياة واختيار مسالك الرأي فيها. ولو أن ماكس نوردو قد فسر سبب رفض تلستوي لنقيض ما رأى من الآراء لكان قد وصف رحلة نفس تلستوي في عالم الإحساس والوجدان، ولكان قد وصف رحلة فكره في عالم الأفكار، ولكان قد وصف من تلك المسالك ما هو كالتيه ذي الطرق المتشعبة وما يحسبه ماكس نوردو طريقا معبدا بالخرسان والقطران والإسفلت

خذ مثلا رأي تلستوي في الامتناع عن الإجرام حتى قتل المجرم للدفاع عن النفس أو عن طفل بريء، فهو يقول لك انصح المجرم وعظه والتجئ إلى الجانب الخير من نفسه وحاول أن تمنعه من ارتكاب جريمة القتل، ولكن أحذر أن يكون منعك إياه عن الجريمة بأن تأتي أنت جريمة كأن تقتله؛ فإذا رأيت مجرماً يريد أن يقتل طفلا فضع نفسك بينه وبين الطفل وعظه، ولكن لا تقتله لأنه يريد أن يقتلك أو أن يقتل إنساناً آخر حتى ولو كنت قادراً على قتله

يأخذ ماكس نوردو هذا الرأي فيفنده ويسخر به ويهزأ منه. وله أن يفنده وأن يظهر مواطن الضعف فيه، وله أن يسخر منه ما شاء أن يسخر، وله أن يقول أن هذا رأي يؤدي إلى موت الأبرار وتحكم الأشرار. إذا أخذ به بعض الناس ولن يأخذ به كل الناس إلا إذا انمحى الشر من النفس الإنسانية فلا يكون إذن للرأي معنى ولا ضرورة، وإذا مات الأبرار الأخيار بسبب أخذهم بهذا الرأي وتحكم الأشرار رجعت الحالة إلى ما كانت عليه ق الشروع في تحقيق هذا الرأي وانعدم هذا الرأي من عالم الأفكار والأحياء. فإذا قال ماكس نوردو كل هذا كان مصيباً في قوله، وإن كنا لا نقطع بحدود فجاءات النفس البشرية وحدود عدوى المحاكاة كمحاكاة الانقطاع المطلق عن الشر. ولعل تلستوي قد قدر كل ما قدره ماكس نوردو من شر يعود به الانقطاع عن الشر حتى في الدفاع عن الخير أو عن النفس أو عن الأحياء، ولكن لعله كان يؤمن بالنفس البشرية أكثر من إيمان ماكس نوردو بها فقدر أيضاً ذيوع الأخذ برأيه وانتشار عدوى محاكاة الانقطاع عن الشر حتى تعم الناس قاطبة بعد ويل يكون للبادئين بالأخذ به، والبادئون دائماً ضحية في كل رأي ومذهب. ولعله قدر أيضاً أنه لو أخطأ في إيمانه بالنفس الإنسانية فإن الويل والضرر اللذين يكونان نتيجة الأخذ برأيه مقبولان في سبيل تجربة قد تعود على الإنسان بالخير الآجل إن لم يكن عاجلا؛ ولعله قدر أيضاً أن المرء قد لا يأخذ برأي الانقطاع عن الشر المطلق دائما، ولكن هذا الرأي قد يبعد به عن الشر أحياناً أو قد يقلل من غلواء شره كما قللت رواد المسيحية من قسوة من اعتنقها من التيوتون الذين غزوا الدولة الرومانية وإن لم تقض على قسوتهم كل القضاء. ولم يكن تلستوي أول من فكر هذا الفكر، فأنه فكر تلتجئ إليه النفس الإنسانية المعذبة كلما حاولت التهدي إلى وسيلة تخلصها من شرور الحياة كما فعل البوذيون قديماً عندما دهمتهم قبائل المغول والتتر والتركمان في الهند، وكما فعل المسيحيون القدماء عندما كانوا مضطهدين في الدولة الرومانية الوثنية قبل اعتناقها للمسيحية

ثم لعل تلستوي قد قدر أيضاً أن دفع الشر بالشر يؤدي إلى خلود حب الانتقام والأخذ بالثأر؛ وكثيراً ما فنيت أسر وقبائل وشعوب بسبب خلود حب الانتقام والأخذ بالثأر جيلا بعد جيل. ونحن نرى الآن كيف يهدد الخراب عالم العمران بسبب دفع الشر بالشر والمباراة فيه.

فترى أن خطأ تلستوي ليس بالخطأ الذي يتهم صاحبه من أجله بالانحطاط والجنون كما فعل ماكس نورداو الناقد الألماني، ولم يكن هناك من داع في هذه الحالة لنظرية الانحطاط التي بنى عليها ماكس نوردو كتابه (الانحطاط) ولو انه اكتفى بإبراز الحيرة الفكرية التي أدت بهروب تلستوي من نظرية دفع الشر بالشر إلى نظرية إلا يدفع الشر بالشر وأوضح خطأ هذه الحيرة لكان أقرب للتقوى وعرض ماكس نوردو مذهب تلستوي في العاطفة الجنسية؛ وله أن يفنده وأن يسخر منه، ولكن كان من تمام الحكمة والفلسفة والتفكير أن يعرض شرور الحلول الأخرى التي تحل بها معضلة العاطفة الجنسية لكي يفسر الحيرة التي أدت إلى هروب تلستوي منها، فإن حل معضلتها ليس طريقا ممهودا بالإسفلت والقطران كما حسب ماكس نوردو؛ وهو إن كان كذلك فهو أيضاً كثير الحفر والمهاوي، وهي التي أدت إلى ذلك الرأي الغريب الذي ارتآه تلستوي وجعله يطلب رفضها رفضاً باتا حتى في حالة الزواج؛ وهو في هذه الناحية أقل إيماناً بالنفس الإنسانية من ناقده، ولكن كان يجدر بناقده أن يبرز الشرور والآثام التي تكثر، سواء أكان حل معضلة العاطفة الجنسية بغلبة القيود والغيرة، أو بضعف القيود والغيرة أو بانعدامها كلها؛ فلعل تلستوي قد نظر طويلا إلى كل حالة من هذه الحالات؛ ولعل طول نظره في كل حالة هو الذي حيره ودعاه إلى رفض العاطفة الجنسية رفضا باتا. فالحيرة ليست دائما دليلا على كلال الذهن وقصر نظره وغموضه وانحطاطه؛ وهي تذكرني برجل جليل فاضل مفكر كان يجيد لعب الشطرنج ويفكر في كل تفكير يصح أن يفكر فيه الذي يلاعبه، فكان لا يفكر في لعبة إلا فكر في طريقة ضدها تهزمها فينتهي به الحال إلى أن يلعب أول لعبة تخطر على ذهن اللاعب وتستدعي سخر الناظرين وضحكهم

ونظر ماكس نوردو إلى موقف تلستوي من العلم، وكان ينبغي لو حاول الاتزان في النقد أن يفسر سبب الحيرة التي دفعت بتلستوي إلى رفض أكثره، وأن يميز بين حيرة الجاهل الغبي وبين حيرة الذكي التي هي أشبه بحيرة لاعب الشطرنج الذي وصفته، وأن يفرق بين خطأ الغافل الذي لا يفكر وخطأ المفكر الذي يحيره كثرة الفكر وتشعب مسالكه والتواؤها حتى يراها مثل حارات القاهرة القديمة التي ليس بها منفذ ولكنها حيرة لا تستدعي أن يتهم صاحبها بالانحطاط حتى ولو كان صاحبها مخطئاً، وإلا كان الإنسان حيوانا كثير الانحطاط، وكأن الانحطاط الذي يعنيه هو من النقص المحتوم في الطبيعة البشرية ولعل تلستوي قد قدر عواقب العلم الحديث في النظم الاقتصادية وفي النظم والمخترعات الحربية وهي عواقب أدت إلى كوارث الحرب العظمى وأهوالها، وإلى الأزمة الاقتصادية ومعضلاتها، وهي إلى الآن تهدد العالم بالخراب؛ فلا غرابة إذا أدركته الحيرة، ولا غرابة إذا أخطأ فلم يصب أحد بعد في حل تلك المعضلات. ولعل تلستوي قد فكر أيضاً فيما فكر فيه اللورد بالفور عند ما قال في وصف أثر العلم الحديث في تغير نظر الإنسان إلى الحياة: (إن العلم الحديث يعلم الإنسان أن الدنيا لم تخلق من أجله، وأنه ليس تاج الخليقة ولا أنه من سلالة من سكن الجنان قديماً، وأن حياته جاءت عفوا، وأن تاريخه قصة عار وحادثة لا تشرف من حوادث أحقر نجم سيار، وأنه مملوء بالأسقام والآثام والمجاعات والقتل والقسوة، وأن الإنسان بعد آلام لا تحصى قد صار له من الضمير ما يعرف به حقارة نفسه، ومن العقل ما يدرك به أنه مخلوق تافه، وأنه بعد عصور طويلة في ذاتها قصيرة بالنسبة إلى ما مضى من العصور الجيولوجية سينمحي بهاء الشمس ورونقها، ولا تسمح الأرض ببقاء ذلك المخلوق الذي أقلق هدأتها، فيفنى الإنسان وتفنى معه آراؤه وأفكاره كلها، فكأنما كان عمله وذكاؤه وإيمانه وآلامه وجهاده في عصور حياته الطويلة عبثاً ومن غير جدوى)

ثم إن العلم الحديث يقول أيضاً إنه على فرض تحقق السلم والخير الشامل، وعلى فرض انمحاء الشر، فإن هذه حالة تؤدي إلى تدهور الإنسانية، لأن الخير في مقاتلة الشر، والذكاء مستنبط من الخوف والحذر من الجوع ومن اعتداء القوي، فإذا انمحى الخوف والحذر والشر والاعتداء ضعفت الإنسانية وتدهورت وتردت في هاوية الفناء

ولعل تلستوي قد نظر أيضاً إلى ما نظر إليه ادن فلبوتس القصصي الإنجليزي في وصف أثر هذه الآراء كلها في المجرمين في أوروبا والولايات المتحدة وغيرهما. فإذا كان تلستوي بعد ذلك النظر قد رفض أكثر هذه الآراء العلمية فليس رفضه دليلا على الانحطاط كما قال ماكس نورداو بل هو من حيرة المفكر الذي يتهدى.

ولعل تلستوي في استعراضه تاريخ العاطفة الجنسية ومحتملاتها ونفاقها وأكاذيبها وآثامها ونظمها على اختلاف تلك النظم ولعله أيضاً عند استعراض تلك الآراء والنظم العلمية الحديثة قد نظر إلى قول القائلين إن العاطفة الجنسية والعلم الحديث هما كالماء الذي تضعه في الإناء القذر فيصير قذراً، وتضعه في الإناء النظيف فيكون نظيفاً، والآنية تختلف كاختلاف النفوس واصل الماء واحد سواء الذي وضع في الإناء القذر والذي وضع في الإناء النظيف.

ولكن لعل تلستوي أيضاً قد فطن إلى أن هذا تشبيه لا اقل ولا أكثر، وأنه عند امتحان النفوس وتطبيقه عليها يتلاشى ويتضاءل إذا أعوز الإناء النظيف من آنية النفوس البشرية

عبد الرحمن شكري