مجلة الرسالة/العدد 191/صعاليك الصحافة. . .

مجلة الرسالة/العدد 191/صعاليك الصحافة. . .

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 03 - 1937


3 - صعاليك الصحافة. . .

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

ولم يلبث أن رجع أبو عثمان في هذه المرة وكأنه لم يكن عند رئيس التحرير في عملٍ وأدائه، بل كان عند رئيس الشرطة في جنايةٍ وعقابها. فظهر منقلب السحنة انقلاباً دميماً، شوّه تشويهه وزاد فيه زيادات. . . . ورأيته ممطوط الوجه مطّاً شنيعاً، بدت عيناه الجاحظتان كأنهما غير مستقرتين في وجهه، بل معلقتان على جبهته. . .

وجعل يضرب إحدى يديه بالأخرى ويقول: هذا باب على حِدَةٍ في الامتحان والبلوى، وما فيه إلا المئونة العظيمة والمشقة الشديدة؛ والعمل في هذه الصحافة إنما هو امتحانك بالصبر على اثنين: على ضميرك، وعلى رئيس التحرير. (وسأل بعض أصحابنا أبا لقمان الممرور عن الجزء الذي لا يتجزأ ما هو؟ فقال: الجزء الذي لا يتجزأ عليّ بن أبي طالب عليه السلام. . . فقال له أبو العيناء محمد: أفليس في الأرض جزء لا يتجزأ غيره؟ قال: بلى. حمزة جزء لا يتجزأ. . . قال: فما تقول في أبي بكر وعمر؟ قال: أبو بكر يتجزأ. . . قال: فما تقول في عثمان؟ قال: يتجزأ مرتين، والزبير يتجزأ مرتين. . . قال: فأي شيء تقول في معاوية؟ قال: لا يتجزأ

فقد فكرنا في تأويل أبي لقمان حين جعل الأنام أجزاء لا تتجزأ إلى أي شيء ذهب؟ فلم نقع عليه إلا أن يكون أبو لقمان كان إذا سمع المتكلمين يذكرون الجزء الذي لا يتجزأ، هاله ذلك وكبر في صدره وتوهم أنه الباب الأكبر من علم الفلسفة. وأن الشيء إذا عظم خطره سموه بالجزء الذي لا يتجزأ)

قلت: ورجع بنا القول إلى رئيس التحرير. . .

فضحك حتى أسفر وجهه ثم قال: إن رئيس التحرير قد تلقى الساعة أمراً بأن الجزء الذي لا يتجزأ اليوم هو فلان؛ وأن فلانا الآخر يتجزأ مرتين. . . وأن المعنى الذي يبنى عليه رأي الصحيفة في هذا النهار هو شأن كذا في عمل كذا؛ وأن هذا الخبر يجب أن يصور في صيغة تلائم جوع الشعب فتجعله كالخبز الذي يطعمه كل الناس وتثير له شهوة في النفوس كشهوة الأكل، وطبيعةٌ كطبيعة الهضم. . . وقد رمى إليّ رئيس التحرير بجملة الخبر؛ وعليّ أنا بعد ذلك أن أضرم النار وأن أجعل التراب دقيقاً أبيض يعجن ويخبز ويؤ ويسوغ في الحلق وتستمرئه المعدة ويسري في العروق

وإذا أنا كتبت في هذا احتجت من الترقيع والتمويه، ومن التدليس والتغليط، ومن الخِبّ والمكر، ومن الكذب والبهتان - إلى مثل ما يحتاج إليه الزنديق والدهريُّ والمعطل في إقامة البرهانات على صحة مذهب عرف الناس جميعا أنه فاسد بالضرورة إذ كان معلوماً من الدين بالضرورة أنه فاسد. وأين ترى إلا في تلك النّحل وفي هذه الصحافة أن ينكر المتكلم وهو عارف أنه منكر، وأن يجترئ وهو موقن أنه مجترئ، ويكابر وهو واثق أنه يكابر؟ فقد ظهر تقدير من تقدير، وعمل من عمل، ومذهب من مذهب؛ والآفة أنهم لا يستعملون في الإقناع والجدل والمغالطة إلا الحقائق المؤكدة؛ يأخذونها إذا وجدت ويصنعونها إن لم توجد، إذ كان التأثير لا يتم إلا بجعل القارئ كالحالم يملكه الفكر ولا يملك هو منه شيئاً، ويلقى إليه ولا يمتنع، ويعطى ولا يرد على من أعطاه

قلت: ولكن ما هو الخبر الذي أرادوك على أن تجعل من ترابه دقيقاً أبيض؟

قال: هو بعينه ذلك الشأن الذي كتبت فيه لهذه الصحيفة نفسها، أنقضه وأسفهه وارد عليه وكان يومئذ جزءاً يتجزأ. . . فإن صنعت اليوم بلاغتي في تأييده وتزيينه والإشادة به، ولم يكن هذا كاسراً لي، ولا حائلا بيني وبين ذات نفسي - فلا أقل من أن يكون الجاحظ تكذيباً للجاحظ. آه لو وضع الرديو في غرف رؤساء التحرير ليسمع الناس. . .

قلت: يا أبا عثمان. هذا كقولك: لو وضع الرديو في غرف قواد الجيوش أو رؤساء الحكومات

قال: ليس هذا من هذا فإن للجيش معنى غير الحذق في تدبير المعاش والتكسب وجمع المال؛ وفي أسراره أسرار قوة الأمة وعمل قوتها؛ وللحكومة دخائل سياسية لا يحركها أن فلانا ارتفع وأن فلانا انخفض، ولا تصرّفها العشرة أكثر من الخمسة؛ وفي أسرارها أسرار وجود الأمة ونظام وجودها

قال أبو عثمان: وإنما نزل بصحافتنا دون منزلها أنها لا تجد الشعب القارئ المميز الصحيح القراءة الصحيح التمييز، ثم هي لا تريد أن تذهب أموالها في إيجاده وتنشئته. وعمل الصحافة من الشعب عمل التيار من السفن في تحريكها وتيسير مجراها، غير أن المضحك أن تيارنا يذهب مع سفينة ويرجع مع سفينة. . . ولو أن الصحافة العربية وجدت الشعب قارئاً مدركا مميزاً معتبراً مستبصراً لما رمت بنفسها على الحكومات والأحزاب عجزاً وضعفاً وفسولة، ولا خرجت عن النسق الطبيعي الذي وضعت له، فإن الشعب تحكمه الحكومة، وإن الحكومة تحكمها الصحافة، فهي من ثم لسان الشعب؛ وإنما يقرأها القارئ ليرى كلمته مكتوبة. وشعور الفرد أن له حقاً في رقابة الحكومة وأنه جزء من حركة السياسة والاجتماع هو الذي يوجب عليه أن يبتاع كل يوم صحيفة اليوم

قال أبو عثمان: فالصحافة لا تقوى إلا حيث يكون كل إنسان قارئاً، وحيث يكون كل قارئ للصحيفة كأنه محرر فيها، فهو مشارك في الرأي لأنه واحد ممن يدور عليهم الرأي، متتبع للحوادث لأنه هو من مادتها أو هي من مادته، وهو لذلك يريد من الصحيفة حكاية الوقت وتفسير الوقت، وأن تكون له كما يكون التفكير الصحيح للمفكر، فيلزمها الصدق ويطلب منها القوة ويلتمس فيها الهداية، وتأتي إليه في مطلع كل يوم أو مغربه كما يدخل إلى داره أحد أهله الساكنين في داره

وفي قلة القراء عندنا آفتان: أما واحدة فهي القلة التي لا تغني شيئاً، وأما الأخرى فهم على قلتهم لا ترى أكبر شأنهم إلا عبادة قوم لقوم، وزراية أناس بآخرين، وتعلق نفاق بنفاق، وتصديق كذب لكذب. وآفة ثالثة تخرج من اجتماع الاثنتين: وهي أن أكثرهم لا يكونون في قراءتهم الصحيفة إلا كالنظارة اجتمعوا ليشهدوا ما يتلهون به، أو كالفراغ يلتمسون ما يقطعون به الوقت، فهم يأخذون السياسة مأخذ من لا يشارك فيها، ويتعاطون الجد تعاطي من يلهو به، ويتلقون الأعمال بروح البطالة، والعزائم بأسلوب عدم المبالاة، والمباحثة بفكرة الإهمال، والمعارضة بطبيعة الهزء والتحقير. وهم كالمصلين في المسجد؛ فمثل لنفسك نوعا من المصلين إذا اصطفوا وراء الإمام تركوه يصلي عن نفسه وعنهم وانصرفوا. . .

قال أبو عثمان: بهذا ونحوه جاءت الصحف عندنا وأكثرها لا ثبات له إلا في الموضع الذي تكون فيه منافعه ووسائل منافعه؛ ومن هذا ونحوه كان أقوى المادة عندنا أن تظهر الصحيفة مملوءة حكومة وسلطة وباشوات وبيكوات. . . وكان من الطبيعي أن محل الباشا والبك والحوادث الحكومية التفهة لا يكون من الجريدة إلا في موضع قلب الحي من الحي.

ثم استضحك شيخنا وقال: لقد كتبت ذات يوم مقالة أقترح فيها على الحكومة تصحيح هذه الألقاب، وذلك بوضع لقب جديد يكون هو المفسر لجميعها ويكون هو اللقب الأكبر فيها، فإذا أنعم به على إنسان كتبت الصحف هكذا: أنعمت الحكومة على فلان بلقب (ذو مال).

ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير. . .

فلم يلبث إلا يسيرا ثم عاد متهللا ضاحكا وقد طابت نفسه فليس له جحوظ العينين إلا بالقدر الطبيعي، وجلس إلي وهو يقول:

بيد أن رئيس التحرير لم ينشر ذلك المقال، ولم ير فيه استطرافاً ولا ابتكارا ولا نكتة ولا حجة صادقة، بل قال كأنك يا أبا عثمان تريد أن يأكل عدد اليوم عدد الغد، فإذا نحن زهدنا في الألقاب وأصغرنا أمرها وتهكمنا بها وقلنا إنها أفسدت معنى التقدير الإنساني وتركت من لم ينلها من ذوي الجاه والغنى، يرى نفسه إلى جانب من نالها كالمرأة المطلقة بجانب المتزوجة. . . وقلنا أنها من ذلك تكاد تكون وسيلة من وسائل الدفع إلى التملق والخضوع والنفاق لمن بيدهم الأمر، أو وسيلة إلى ما هو أحط من ذلك كما كان شأنها في عهد الدولة العثمانية البائدة حين كان الوسام كالرقعة من جلد الدولة، يرقع بها الصدر الذي شقوه وانتزعوا ضميره، إذا نحن قلنا هذه وفعلنا هذا، لم نجد الشعب الذي يحكم لنا، ووجدنا ذوي المال والجاه والمناصب الذي يحكمون علينا، فكنا كمن يتقدم في التهمة بغير محام إلى قاض ضعيف.

يا أبا عثمان إنما هي حياة ثلاثة أشياء: الصحيفة، ثم الصحيفة، ثم الحقيقة. . . فالفكرة الأولى للصحيفة والفكرة الثانية هي للصحيفة أيضاً. ومتى جاء الشعب الذي يقول: لا. بل هي الحقيقة، ثم الحقيقة، ثم الصحيفة - فيومئذ لا يقال في الصحافة ما قيل لليهود في كتاب موسى: تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا. .

قلت: أراك يا أبا عثمان لم تنكر شيئاً من رئيس التحرير في هذه المرة، فشق عليك إلا تثلبه، فغمزته بالكلام عن مرة سالفة.

قال: أما هذه المرة فأنا الرئيس لا هو، وفي مثل هذا لا يكون عمك أبو عثمان من (صعاليك الصحافة). إن الرجل اشتبه في كلمة: ما وجهها أمرفوعة أم منصوبة؟ وفي لفظة: ما هي: أعربية أم مولدة؟ وفي تعبير أعجمي: ما الذي يؤديه من العربية الصحيحة؟ وفي جملة: أهي في نسقها افصح أم يبدلها؟ إن المعجم هنا لا يفيدهم شيئاً إلا إذا نطق. . .

ولقد ابتليت هذه الأمة في عهدها الأخير بحب السهولة مما أثر فيها الاحتلال وسياسته وتحمله الأعباء عنها واستهدافه دونها للخطر، فشبه العامية في لغة الصحف وفي أخبارها وفي طريقها إنما هو صورة من سهولة تلك الحياة، وكأنه تثبيت للضعف والخور، وأنت خبير أن كل شيء يتحول بما تحدث له طبيعته عالياً أو نازلاً، فقد تحولت السهولة من شبه العامية إلى نصف العامية في كتابة أكثر المجلات وفي رسائل طلبة المدارس، حتى لتبدو المقالة في ألفاظها ومعانيها كأنها القنفذ أراد أن يحمل مأكلة صغاره، فقرض عنقوداً من العنب، فألقاه في الأرض وأتربه وتمرغ فيه، ثم مشى يحمل كل حبة مرضوضة في عشرين إبرة من شوكه.

ثم مد أبو عثمان يده فتناول مجلة مما أمامه وقعت يده عليها اتفاقاً، ثم دفعها إلي وقال: اقرأ ولا تجاوز عنوان كل مقالة. فقرأت هذه العناوين:

(مسئولية طبيب عن فتاة عذراء)، (مودة الراقصات الصينيات)، (تخر مغشياً عليها لأنهم اكتشفوا صورة حبيبها)، (هل يعتبر قبول الهدية دليلا على الحب، وإذا كانت ملابس داخلية. . . فهل تعتبر وعدا بالزواج؟)، (هل يحق للأب أن يطالب صديق ابنته. . . بتعويض إذا كانت ابنته غير شرعية)، (بين خطيبتين لشاب واحد)، (بعد أن قص على زوجته أخبار السهرة. . . لماذا أطلقت عليه الرصاص؟)، (عروس تأخذ (شبكة) من شابين ثم تطردهما)، (زوجة الموظف أين ذهبت)، (لماذا خطفت العروس في اليوم المحدد للزفاف؟)، (في الطريق - حب بالإكراه)، (فلانون وفلانات، زواج وطلاق، وأخبار المراقص، وحوادث أماكن الدعارة الخ الخ.

فقال أبو عثمان: هذه هي حرية النشر؛ ولئن كان هذا طبيعيا في قانون الصحافة إنه لأثم كبير في قانون التربية؛ فإن الأحداث والضعفاء يجدونه عند أنفسهم كالتخيير بين الأخذ بالواجب وبين تركه، ولا يفهمون من جواز نشره إلا هذا. (وباب آخر من هذا الشكل فبكم أعظم حاجة إلى أن تعرفوه وتقفوا عنده، وهو ما يصنع الخبر ولاسيما إذا صادف من السامع قلة تجربة، فإن قرن بين قلة التجربة وقلة التحفظ - دخل ذلك الخبر إلى مستقره من القلب دخولا سهلا، وصادف موضعاً وطيئاً وطبيعة قابلة ونفساً ساكنة، ومتى صادف القلب كذلك رسخ رسوخاً لا حيلة في إزالته

ومتى ألقي إلى الفتيان شيء من أمور الفتيات في وقت الغرارة وعند غلبة الطبيعة وشباب الشهوة وقلة التشاغل و. .)

ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير. . .

(لها تتمة)

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي