مجلة الرسالة/العدد 191/عمر بن الخطاب

مجلة الرسالة/العدد 191/عمر بن الخطاب

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 03 - 1937


2 - عمر بن الخطاب

للأستاذ علي الطنطاوي

- 6 -

كان المسلمون في مكة - فكانت الخصومة بينهم وبين الكفار من قريش - خصومة فردية، شخص يناوئ شخصاً، وجماعة تقاتل جماعة. فلما كانت الهجرة وأستقر الإسلام في (يثرب) وفتحت له صدرها، وقدمت لنصرته أبناءها وفلذات كبدها، استحالت الخصومة إلى شبه (خلاف دولي) بين القرشيين المقيمين على الشرك، العاكفين على الأصنام، المدافعين عن الباطل، وبين أهل (المدينة المنورة) بنور التوحيد - (أنصار) الإسلام وحماة الدين وجنود الله؛ واتسع الخلاف وخاب مع الكفار المنطق وتعذر الصلح ولم يبق بد من الحرب

ومهما يقل اليوم (دعاة السلام) في شناعة الحرب ويصفوا من أهوالها وينفروا منها، ومهما يألفوا في ذلك من كتب ويصنفوا من أصناف، فإن مما لا ريب فيه إن هناك (حرباً مقدسة) مشروعة فاضلة، هي الحرب التي تشب نارها دفاعاً عن الحق وذباً عن الفضيلة وتأديباً للمجرمين. . . ومن ينكر على الجند أن يحاربوا اللصوص والمجرمين ويمنعوهم أن يعيثوا في الأرض فساداً؟ ومن يمنع القاضي أن يقتل القاتل ليشتري بموته حياة أمة، ويحبس الجاني ليضمن بحبسه حرية شعب؟

كذلك كانت (معركة بدر) حرباً مقدسة، أثيرت من أجل الحق والفضيلة والسلام والإسلام. . . فمشت إلى بدر (عصابة المجرمين) من قريش، مزهوة زهو اللصوص، شامخة بآنافها شموخ القتلة، مستكبرة استكبار قطاع الطرق. . . ومشت فرق الجنود المسلمين متواضعة لله خاضعة له، لا قوة لها إلا قوة الحق، ولا سلاح إلا سلاح الإيمان، ولا غرض لها إلا تطهير الأرض من أدران الشرك واوضار الظلم ومحو الأرستقراطية السخيفة العاتية. .

والتقتا في (بدر) - فالتقى الحق بالباطل - والنور بالظلام، ووقف الجنود والحراس وجهاً لوجه. . . ووقف التاريخ على الطرق يرقب النتيجة - فإما أن ينتصر المسلمون فيمضي صعداً ويرقى في مدارج العلاء متوشحاً بوشاح الحضارة، وإما أن يندحروا فينحدر إلى الهاوية. . فلم ينجل الغبار حتى خرجت راية محمد () خفاقة منصورة وخرج اللصوص بين قتيل ملقى للسباع والطير قد خسر الدنيا والآخرة، وأسير في عنقه حبل يساق إلى (المحكمة)!

وانعقدت أشرف محكمة وأعدلها - برئاسة سيد العالم - وأفضل النبيين () وعضوية شيخي المسلمين، وخليفتي النبي الأمين - الصديق والفاروق - وكان في كرسي (النيابة العامة) شاعر الإسلام، وعلم الأنصار، البطل الشهيد: عبد الله بن رواحة. . .

وافتتحت الجلسة. . . وثبت الجرم. وكان (جرماً مشهوداً) وطلب (النائب العام) أن يعود المتهمون على حياة جهنم التي كذبوا بها، واقدموا عليها - فيكون جزاؤهم جزاء نارياً: يلقون في واد كثير الحطب - ثم يضرم عليهم ناراً

دخلت المحكمة (للمذاكرة) فسأل الرئيس الأعضاء آراءهم، فلان أبو بكر (أرحم الأمة بالأمة) ورأى أن تؤخذ منهم الفدية فتكون قوة للإسلام ولا يقتلوا لأنهم بنو العم والعشيرة والإخوان، وخالفه عمر (أشد الناس في دين الله) وطلب (إعدامهم) جميعاً: هؤلاء أئمة الكفار وصناديدهم وقادتهم؛ إنهم يعترضون سبيل الدعوة الجديدة - إنهم قطاع الطريق - فيجب أن تسلم الطريق إلى الله - يجب أن تمضي الدعوة في سبيلها آمنة مطمئنة

وسكت - ووازن بين الرأيين - ثم نطق بالحكم فكان كما رأى أبو بكر. . .

غير أن الحكم قد (استؤنف) ونزل (الاستئناف) من السماء: (ما كان لِنبيٍّ أنْ يكونَ لهُ أَسْرى حتى يُثْخِنَ في الأرْض. تريدون عَرَضَ الحياة الدنيا والله يريد الآخرَةَ والله عزيز حكيم. لولا كتاب من الله سَبَق لمسّكم فيما أخذتم فيه عذاب عظيم)

- 7 -

وسمت منزلة عمر في الإسلام. فلم يكن فوقه إلا الصديق الأعظم. وكان عمر بطل الدعوة وفتاها وحارسها. ثبت مع النبي () في أُحد ساعة اضطراب الجيش وفداه بنفسه، واختاره صلى الله عليه ليجيب أبا سفيان باسم الإسلام، فأجابه جواب القوي الظاهر. . . حسب أبو سفيان أن محمداً () قد قتل. وقتل صاحباه، واستراحت قريش من هذه البدعة فهي ذاهبة إلى حلقاتها حول الكعبة - التي تحدق بها الأصنام - تتحدث حديثها وترويها أبناءها ليعتبروا بها فلا يحاولوا الخروج عما ألفوا عليه آباءهم. . . حسب أبو سفيان أن الإسلام غمامة صيف جاءت ثم انقشعت. لم يدر أن الإسلام أثبت من الأرض، وأخلد من الزمان، وأنها تزول السموات والأرض ولا يزول، فما هُبل، وما هذه الأباطيل؟ أقطعة من الحجر وفلذة من المعدن، تصنعها بيدك، وتدوسها برجلك، تسويها برب العالمين؟ ما هذا العقل يا أبا سفيان؟

كانت أحد فكان عمر عظيما ظافراً فيها. كما كان في بدر وهما لعمري سواء، ما غلب المسلمون في أحُد. وما غلب فيها المشركون. . . ذلك أنهم ما ساروا خمسمائة كيل، من مكة إلى المدينة ليصيح قائدهم: اعل هبل. . . أعل هبل. . . ثم يرجع من حيث جاء، ولكن ساروا ليفتحوا المدينة، ويقتلوا محمداً، ويجتثوا الإسلام من أصله، فكيف يدعون المدينة وما بينهم وبينها إلا مسيرة نصف ساعة، وما فيها حامية تذكر ولا يدخلونها ولا يحتلونها ولا يغيرون عليها فينهبونها؟ وكيف ينظر قائدهم العام محمداً وصحبه وهم قواد العدو، ويكلمهم ويحادثهم ولا يقتلهم ولا يأسرهم، وهو ظافر بهم ظاهر عليهم؟ وكيف يعد جيش المسلمين منهزماً، وقواده ثابتون، وضباطه مستقرون في أماكنهم، وقلبه باق ورايته مرفوعة؟

أما إن الحق أن جيش المسلمين، قد اضطرب بعد أن غادر الرماة أماكنهم، وأغار عليه خالد - قائد فرسان المشركين، وانهزمت بعض فرقه، مذعورة خائرة - ولكن القادة، وفرق القلب بقيت ثابتة في أماكنها. تمنع العدو من الوصول إلى المدينة حتى يئس فارتد على أعقابه من حيث جاء، ونجح الجيش الإسلامي في خطته الدفاعية نجاحا باهرا، ذلك أن الجيش الإسلامي كان مدافعا، وأكبر نصر يناله الجيش المدافع، هو أن يرد العدو وينقذ الوطن. وهذا ما قام به الجيش الإسلامي على أتمه ولكنه خسر كثيرا من الضحايا. . .

فمعركة أحد إذن نصر للإسلام، وعمر من أعلام هذه المعركة وأبطالها

- 8 -

واقرأ (السيرة) كلها، فهي سيرة عمر - وإذا لم يظهر اسمه في كل موطن - ولم يبد ذكره في كل موقع - فلأن النبي شمس تسطع في سمائها - فتكسف النجوم مهما كانت وضاءة متلألئة على أن عمر رضي الله عنه لقوة شخصيته ومضاء عزيمته لا يكاد يخفى، فقد كان يمثل الجانب القوي المغامر الطماح، من الجبهة الإسلامية، لا يرضى بالهوادة ولا يعرف اللين، ولا تأخذه في الله شفقة ولا ملامة

كان يأبى أن توقع معاهدة الحديبية، ويلح على النبي أن يعمد إلى الحرب: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؛ فعلام نعطي الدنية في ديننا؟

فيقول له رسول الله : ابن الخطاب! إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدا

فيشتد عليه الأمر، ويضيق به صبره، فيذهب إلى أبي بكر وقد عجز الصحابة كلهم عن احتمال المحنة - إلا أبا بكر. فيقول له: يا ابن الخطاب. انه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا. . .

فلا يقنع عمر ولا يرضى، ولكنه يسمع مكرهاً ويطيع، حتى إذا مرت الأيام، ووضحت حكمة النبوة، وكان الفتح، أدرك عمر سمو رأي النبي ، فمازال يتصدق ويصوم ويصلي ويعتق، مخافة كلامه يومئذ، حتى رجا أن يكون خيراً. على أن عمر لم يعارض النبي ولم يعصه ولكنه رأي رآه واجتهاد اجتهده؛ فكان يأمل موافقة ربه سبحانه وتعالى، كما سبق له أمثالها، وقد كانت طاعته للنبي معروفة، وكان يؤثر رضاه على رضاه، ولقد أقسم عمر - باراً - أن إسلام العباس يوم أسلم كان أحب إليه من إسلام أبيه الخطاب لو أسلم، لأن إسلام العباس أحب إلى النبي ، وكان النبي أحب إليه من أهله وولده، ومن نفسه التي بين جنبيه

- 9 -

أنجز الله وعده. فظهر الإسلام وغلب وعم الجزيرة، ودان له العرب كلهم، واجتمعوا في عرفات، في المؤتمر الأعظم، فأنزل الله آخر آية من القرآن، آخر مادة من الدستور الخالد: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) فاحتفلوا بكمال الدين، وتمام النعمة، وقام النبي خطيباً مودعاً، وأعلن (حقوق الإنسان) كاملة: الحرية والعدالة والمساواة.

وعاد إلى المدينة، فلم يلبث أن مرض

جزع الصحابة، وشغلهم مرضه عن أولادهم وأنفسهم، فكانوا لا يهنأون بمنام ولا يسيغون طعاماً، ولا يقبلون على عمل، ولا يرون وجه الدنيا قلقاً عليه ، وكانوا يودون لو يفتدى بكل ما في الأرض من شيء ليفتدوه، وكانوا يسألون عنه في كل ساعة ولحظة، ويعلمون علمه. فلما قيل قبض رسول الله طارت العقول، وخفت الأحلام، وزلزل الناس زلزالا شديداً، وأصابتهم حيرة وعراهم ذهول، فلم يدروا ما يصنعون، وكانت ساعة من يوم الحشر. ولا عجب فقد كانوا أمواتاً قبل رسول الله ، فكان الرسول مطلع حياتهم، وأول دنياهم، فلم لا تكون وفاته خاتمة الحياة، وآخر الدنيا، وأن يكون يوم قبضه كيوم القيامة؟

وجزع عمر وهزت الرزية نفسه، وغلبه حبه رسول الله فلم يستطع أن يتصور أنه قد مات، ولم يقدر أن يتخيل الحياة بدونه، فهو أساسها ومصدرها، وهو شمسها المنيرة، وهل حياة من غير شمس؟ وهو روح هذا الكون، وهل يعيش جسم بلا روح؟ ولم يطق أن يسمع أنه قد مات، فوثب مخترطا سيفه، تنطقه عاطفته، وحبه رسول الله ، يمنع الناس أن يقولوا: مات رسول الله انه لم يمت ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى ابن عمران وقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم، والله ليرجعن رسول الله كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله مات!

وكان أبو بكر رضي الله عنه غائباً في منزله في السُّخ، وكان أبو بكر العقل الثابت الذي لا تقلقله الحادثات ولا تحركه النوائب، وكان عمر يومئذ القلب الحساس الذي يفيض بالعاطفة وينبثق بالشعور، فلما قدم دخل على رسول الله فقبله ثم خرج وعمر يتكلم، فاستنصته فلم ينصت، ومضى يتكلم، لا مخالفة لأبي بكر، ولكن الحس الذي طغى على نفسه، والحب الذي غمرها لم يدع فيها سبيلا لغيره. . حتى إذا تكلم أبو بكر فقال كلمته العظيمة:

أيها الناس: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وتلا قول الله عز وجل:

(ومَا محمد إِلاّ رَسول قَدْ خَلَتْ منْ قبلْهِ الرسلُ، أَفَإنْ ماتَ أَوْ قتلَ انْقَلَبْتمْ علَى أعقْابِكمْ، وَمَنْ ينَقْلَبْ عَلى عقِبَيهْ فَلنْ يَضُرَّ الله شيْئاً وَسَيَجْزي اللهُ الشاكِرِينَ) وسمعها عمر، أفاق كم استيقظ من حلم، فرأى أنه كان مخطئاً، وتحقق الرزية وأدرك أنه لن يرى بعد رسول الله ، فخارت قواه ولم تحمله رجلاه، فسقط على الأرض

دمشق:

علي الطنطاوي