مجلة الرسالة/العدد 192/صعاليك الصحافة. . .

مجلة الرسالة/العدد 192/صعاليك الصحافة. . .

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 03 - 1937


4 - صعاليك الصحافة. . .

تتمة

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

وجاء أبو عثمان وفي بروز عينيه ما يجعلهما في وجهه شيئاً كعلامتي تعجب ألقتهما الطبيعة في هذا الوجه. وقد كانوا يلقبونه (الحدقي) فوق تلقيبه بالجاحظ، كأن لقباً واحداً لا يبين عن قبح هذا النتوء في عينيه إلا بمرادف ومساعد من اللغة. . . . وما تذكرت اللقبين إلا حين رأيت عينيه هذه المرة.

وانحط في مجلسه كأن بعضه يرمي بعضه من سخط وغيظ، أو كأن من جسمه ما لا يريد أن يكون من هذا الخلق المشوه، ثم نصب وجهه يتأمل، فبدت عيناه في خروجهما كأنما تهمان بالفرار من هذا الوجه الذي تحيا الكآبة فيه كما يحيا الهم في القلب؛ ثم سكت عن الكلام لأن أفكاره كانت تكلمه.

فقطعت عليه الصمت وقلت: يا أبا عثمان رجعت من عند رئيس التحرير زائداً شيئاً أو ناقصاً شيئاً فما هو يرحمك الله؟

قال: رجعت زائداً أني ناقص، وههنا شيء لا أقوله، ولو أن في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين. لوقفوا على عمك وأمثال عمك من كتاب الصحف يتعجبون لهذا النوع الجديد من الشهداء

وقال ابن يحيى النديم: دعاني المتوكل ذات يوم وهو مخمور فقال: أنشدني قول عمارة في أهل بغداد. فأنشدته:

ومن يشتري من ملوك مُخَرّم ... أبعْ (حَسنَاً وابني هِشامٍ) بدِرْهم

وأعطي (رجاَء) بعد ذاك زيادة ... وأمنحُ (ديناراً) بغير تندُّم

قال أبو عثمان:

فإن طلبوا مني الزيادة زدتُهم ... (أبا دُلفٍ والمستطيلَ بنَ أكثم

ويلي على هذا الشاعر. اثنان بدرهم، واثنان زيادة فوقهما العظم الدرهم، واثنان زيادة على الزيادة لجلالة الدرهم؛ كأنه رئيس تحرير جريدة يرى الدنيا قد ملئت كتاباً. ولكن ههنا شيئاً لا أقوله وزعموا أن كسرى أبرويز كان في منزل امرأته شيرين، فأتاه صياد بسمكة عظيمة فأعجب بها وأمر له بأربعة آلاف درهم فقالت له شيرين: أمرت الصياد بأربعة آلاف درهم، فإن أمرت بها لرجل من الوجوه، قال: إنما أمر لي بمثل ما أمر للصياد. فقال كسرى: كيف أصنع وقد أمرت له؟

قالت: إذا أتاك فقل له: اخبرني عن السمكة، أذكر هي أم أنثى؟ فإن قال أنثى. فقل له: لا تقع عيني عليك حتى تأتيني بقرينها، وإن قال غير ذلك فقل له مثل ذلك.

فلما غدا الصياد على الملك قال له: أخبرني عن السمكة، أذكر هي أم أنثى؟ قال: بل أنثى. قال الملك: فأتني بقرينها. فقال الصاد عمر الله الملك، إنها كانت بكراً لم تتزوج بعد. . .

قلت: يا أبا عثمان فهل وقعت في مثل هذه المعضلة مع رئيس التحرير؟

قال: لم ينفع عمك أن سمكته كانت بكراً، فإنما يريدون إخراجه من الجريدة وما بلاغة أبي عثمان الجاحظ بجانب بلاغة التلغراف وبلاغة الخبر وبلاغة الأرقام وبلاغة الأصفر وبلاغة الأبيض. . . ولكن ههنا شيئاً لا أريد أن أقوله.

وسمكتي هذه كانت مقالة جودتها وأحكمتها وبلغت بألفاظها ومعانيها أعلى منازل الشرف وأسنى رتب البيان وجعلتها في البلاغة طبقة وحدها. وقبل أن يقول الأوربيون (صاحبة الجلالة الصحافة) قال المأمون: (الكتاب ملوك على الناس). فأراد عمك أبو عثمان أن يجعل نفسه ملكاً بتلك المقالة فإذا هو بها من (صعاليك الصحافة).

لقد كانت كالعروس في زينتها ليلة الجلوة على محبها، ما هي إلا الشمس الضحاية، وما هي إلا أشواق ولذات، وما هي إلا اكتشاف أسرار الحب، وما هي إلا هي. فإذا العروس عند رئيس التحرير هي المطلقة، وإذا المعجب هو المضحك، ويقول الرجل: أما نظرياً فنعم، وأما عملياً فلا، وهذا عصر خفيف يريد الخفيف، وزمن عامي يريد العامي، وجمهور سهل يريد السهل، والفصاحة هي إعراب الكلام لا سياسته بقوي البيان والفكر واللغة، فهي اليوم قد خرجت من فنونها واستقرت في علم النحو وحسبك من الفرق بينك وبين القارئ العامي: إنك أنت لا تلحن وهو يلحن

قال أبو عثمان؛ وهذه أكرمك الله منزلة يقل فيها الخاصي ويكثر العامي فيوشك ألا يكون بعدها إلا غلبة العامية، ويرجع الكلام الصحافي كله سوقياً بلدياً (حنشصياً). وينقلب النحو نفسه وما هو إلا التكلف والتوعر والتقعر كما يرون الآن في الفصاحة، والقليل من الواجبات ينتهي إلى الأقل، والأقل ينتهي إلى العدم، والانحدار سريع يبدأ بالخطوة الواحدة ثم لا تملك بعدها الخطى الكثيرة

لا جرم فسد الذوق وفسد الأدب وفسدت أشياء كثيرة كانت كلها صالحة، وجاءت فنون من الكتابة ما هي إلا طبائع كتابها تعمل فيمن يقرؤها عمل الطباع الحية فيمن يخالطها. ولو كان في قانون الدولة تهمة إفساد الأدب أو إفساد اللغة، لقبض على كثيرين لا يكتبون إلا صناعة لهو ومسلاة فراغ وفساداً وإفساداً. والمصيبة في هؤلاء ما يزعمون لك من أنهم يستنشطون القراء ويلهونهم. ونحن إنما نعمل في هذه النهضة لمعالجة اللهو الذي جعل نصف وجودنا السياسي عدماً؛ ثم لملء الفراغ الذي جعل نصف حياتنا الاجتماعية بطالة. وهذا أيضاً مما جعل عمك أبا عثمان في هذه الصحافة من (صعاليك الصحافة) وتركه في المقابلة بينه وبين بعض الكتاب كأنه في أمس وكأنهم في غد.

ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير. . .

فما شككت أنهم سيطردونه فإن الله لم يرزقه لساناً مطبعياً ثرثاراً يكون كالمتصل من دماغه بصندوق حروف. . . ولم يجعله كهؤلاء السياسيين الذي يتم بهم النفاق ويتلون، ولا كهؤلاء الأدباء الذي يتم بهم التضليل ويتشكل.

ورجع شيخنا كالمخنوق أرخي عنه وهو يقول: ويلي على الرجل. ويلي من الكلام الظريف الذي يقال في الوجه ليدفع في الفقا. . . كان ينبغي ألا يملك هذه الصحافة اليومية إلا مجالس الأمة، فذلك هو إصلاح الأمة والصحافة والكتاب جميعاً. أما في هذه الصحف فالكاتب يخبز عيشه على نار تأكل منه قدر ما يأكل من عيشه، ولو أن عمك في خفض ورفاهية وسعة، لكان في استغنائه عنهم حاجتهم اليه، ولكن السيف الذي لا يجد عملاً للبطل، تفضله الإبرة التي تعمل للخياط. وماذا يملك عمك أبو عثمان؟ يملك مالاً ينزل عنه بدول الملوك، ولا بالدنيا كلها، ولا بالشمس والقمر، إذ يملك عقله وبيانه. على أنه مستأجر هنا بعقله وبيانه يعقل ما شاءوا ويكتب ما شاءوا

لك الله أن أصدقك القول في هذه الحرفة اليومية. إن الكاتب حين يخرج من صحيفة إلى صحيفة، تخرج كتابته من دين إلى دين. . .

ورأيت شيخنا كأنما وضع له رئيس التحرير مثل البارود في دماغه ثم أشعله. فأردت أن أمازحه وأسري عنه، فقلت: اسمع يا أبا عثمان. جاءتني بالأمس قضية يرفعها صاحبها إلى المحكمة، وقد كتب في عرض دعواه: إن جار بيته غصبه قطعة من أرض فنائه الذي تركه حول البيت، وبنى في هذه الرقعة داراً، وفتح لهذه الدار نافذات، فهو يريد من القاضي أن يحكم برد الأرض المغصوبة، وهدم هذه الدار المبنية فوقها، و. . و. . وسد نافذاتها المفتوحة. . .!

فضحك الجاحظ حتى أمسك بطنه بيده وقال: هذا أديب عظيم كبعض الذين يكتبون الأدب في الصحافة؛ كثرت ألفاظه ونقص عقله. (وسئل بعض الحكماء: متى يكون الأدب شراً من عدمه؟ قال: إذا كثر الأدب ونقصت القريحة. وقد قال بعض الأولين: من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه؛ كان حتفه في أغلب خصال الخير عليه؛ وهذا كله قريب بعضه من بعض

والأدب وحده هو المتروك في هذه الصحافة لمن يتولاه كيف يتولاه إذ كان أرخص ما فيها، وإنما هو أدب لأن الأمم الحية لا بد أن يكون لها أدب. ثم هو من بعد هذا الاسم العظيم ملء فراغ لا بد أن يملأ. وصفحة الأدب وحدها هي التي تظهر في الجريدة اليومية كبقعة الصدأ على الحديد تأكل منه ولا تعطيه شيئاً.

ثم يأبى من تترك له هذه الصفحة إلا أن يجعل نفسه (رئيس تحرير) على الأدباء، فما يدع صفة من صفات النبوغ ولا نعتاً من نعوت العبقرية إلا نحله نفسه ووضعه تحت ثيابه؛ وما أيسر العظمة وما أسهل منالها إذا كانت لا تكلفك إلا الجراءة والدعوى والزعم، وتلفيق الكلام من أعراض الكتب وحواشي الأخبار

وقد يكون الرجل في كتابته كالعامة، فإذا عبته بالركاكة والسخف والابتذال وفراغ ما يكتب؛ قال: هذا ما يلائم القراء. وقد يكون من أكذب الناس فيما يدعي لنفسه وما يهول به لتقوية شأنه وإصغار من عداه، فإذا كذبه من يعرفه قال: هذا ما يلائمني. وهو واثق أنه في نوع من القراء ليس عليه إلا أن يملأهم بهذه الدعاوى كما تملأ الساعة، فإذا هم جميعاً يقولون: تك تك. . تك تك. . . . .

فمن زعم أن البلاغة أن يكون السامع يفهم معنى القائل؛ جعل الفصاحة واللكنة والخطأ والصواب والإغلاق والإبانة والملحون والمعرب، كله سواء وكله بياناً (وكان المكي طيب الحجج، ظريف الحيل، عجيب العلل. وكان يدعي كل شيء على غاية الإحكام ولم يحكم شيئاً قط من الجليل ولا من الدقيق. وإذ قد جرى ذكره فسأحدثك ببعض أحاديثه. قلت له مرة: أعلمت أن الشاري حدثني أن المخلوع (أي الأمين) بعث إلى المأمون بجراب فيه سمسم، كأن مخبره أن عنده من الجند بعدد ذلك، وأن المأمون بعث له بديك أعور، يريد أن طاهر بن الحسين يقتل هؤلاء كلهم كما يلقط الديك الحب؟

قال: فإن هذا الحديث أنا ولدته، ولكن انظر كيف سار في الآفاق. . .

ثم قال أبو عثمان: وقد زعم أحد أدبائكم أنه اكتشف في تاريخ الأدب اكتشافاً أهمله المتقدمون وغفل عنه المتأخرون، فنظر عمك في هذا الذي ادعاه، فإذا الرجل على التحقيق، كالذي يزعم أنه اكتشف أمريكا في كتاب من كتب الجغرافيا. . . .

وما يزال البلهاء يصدقون الكلام المنشور في الصحف لا بأنه صدق ولكن بأنه (مكتوب في الجريدة). . . . فلا عجب أن يظن كاتب صفحة الأدب - متى كان مغروراً - أنه إذا تهدد إنساناً فما هدده بصفحته بل بحكومته. . . .

نعم أيها الرجل إنها حكومة ودولة؛ ولكن ويحك: إن ثلاث ذبابات ليست ثلاث قطع من أسطول إنجلترا. . . . . .!

وضحك أبو عثمان وضحكت فاستيقظت

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي