مجلة الرسالة/العدد 195/الزهاوي في أوائل أيامه وأواخرها
مجلة الرسالة/العدد 195/الزهاوي في أوائل أيامه وأواخرها
للسيد صلاح الدين عبد اللطيف الناهي
كنت في السابعة أو الثامنة من عمري يوم كان يستلفت نظري شيخ هزيل نحيف، مرسل الشعر على الأكتاف، يمتطي صهوة حمار حساوي أبيض ويمشي في ركابه خادم لا يتغير، وكانت سيماء الشيخ ومطيته تدلان على أنه من أعيان بغداد فقد كان الحمار مطية لا تزري براكبها قبل أن تديل دولة (الميكانيك) من دولة الحيوان
ومرت فترة من الزمن فهجر الشيخ حماره واتخذ له (عربانة) تقطع به عرض الشارع العام (شارع الرشيد) وهو يطل منها على الناس أو يراقب الطير حائماً فوق مآذن بغداد الشامخة وقبابها الزرق، أو يحرك شفتيه بشعر
وسألت ذات يوم: من يكون هذا الشيخ وما له يهدل خصائل شعره شأن أحبار اليهود؟ فقيل لي إنه فيلسوف. فلم أفهم ما يريدون ولكن كتمتها في نفسي كمن اقتنع بالجواب
ثم قل اهتمامي به لكثرة ما اعتدت رؤيته بعد ذلك، ولم أكن أقدر أن اعتنائي به سيزداد يوماً من الأيام. ولكن العمر تقدم بي قليلاً فعرفت قدر الشيخ الفيلسوف ورضت نفسي على قراءة ما وقع في يدي من آثاره فبدا لي من أمره ما كنت أجهل
وكان الناس يومئذ فريقان فريق يدعو له ويكبر شأنه، وفريق ينكر أمره ويتبرم به ويرميه بالزندقة والإلحاد. وكان هو محور هذا التطاحن العنيف بين هذين الفريقين. وأنك لتلمس في شعره هذا التطاحن إذا قرأته وتلمس تبرمه بجمود الجمهور وجهالة الجمهور، ولكنه لم ييأس ولم يتمثل بقول القائل:
غزلت لهم غزلاً رفيعاً فلم أجد ... لغزلي نساجاً فكسرت مغزلي
بل التزم دائماً سبيل الجهر بآرائه والدعوة لها وأنك لتعجب من بسالة هذا الشيخ المتهدم يوم كان يدعو إلى التحرر والى التجدد ويجاهر برأيه في المرأة:
يرفع الشعب فريقا ... ن إناث وذكور
وهل الطائر إلا ... بجناحيه يطير
ليس يأتي شعب جلائل ما لم ... تتقدم إناثه والذكور
مزقي يا ابنة العراق الحجابا ... واسفري فالحياة تبغي انقلاب ويجاهر برأيه في الدين:
تحيرت لا أدري أمام الحقائق ... أأني خلقت الله أم هو خالقي
فتضج الناس بالشكوى وتتبرم ويضيق به الأمر فيلزم داره أو يهجر بلده ويودع ليلاه لائذاً بمصر من غضب الناس نادباً لياليه في بغداد ولكنه لم يلبث أن يجهر برأيه هنا وينشد القوم:
وسائلتي هل بعد أن يعبث البلى ... بأجسادنا نحيا طويلاً ونرزق
وهيهات لا ترجى حياة لميت ... إليه البلى في قبره يتطرق
تقولين يفنى الجسم والروح خالد ... فهل بخلود الروح عندك موثق
فتتنزى الشيوخ من الغيظ ويثور الجمهور فإذا بالناس فريقان فريق له وفريق عليه حتى يضيق به الأمر فيعود إلى بلده وقد سكن روع الناس وعز عليهم أن يلجئوا الشيخ إلى الفرار فيناله المكروه في سبيل ذلك وهو الشاعر الذي ينطق بآمالهم وآلامهم ويحفزهم إلى المجد، غير مبال بعوده الذابل وجسمه الذاوي، حتى ألف الناس منه هذه البسالة والجرأة والتف حوله الشباب وهو يدفع بهم إلى الثورة ويلوح لهم بكل جديد في الرأي وطريف في الفكر تلويحاً يدفع به أحياناً إلى تحميل الشعر والأدب ما لا طاقة لهما به فيزج العلم في ساحة الشعر فيمهد بذلك السبيل لخصومه ومنكري شاعريته فيحتجون عليه بمثل قوله:
ليست الشمس من الشر ... ق إلى الغرب تدور
إنما الأرض من الغر ... ب إلى الشرق تسير
وما كان بالعلم من حاجة إلا من ينظمه لنا شعراً إلا حاجة في نفس الشيخ قضاها
ولقد كنا نقرا له القصيدة فنلمس وجدان الشاعر الموهوب في ألفاظ الشاعر المطبوع وأفكار الشاعر الفيلسوف فنطرب لها، ثم نقرأ له القصيدة وقد أقحم فيها العلم إقحاماً فنقف ننافح الخصوم عما فيها من نظريات وآراء تلهيهم بذلك عن زلة الشاعر ونخرج بهم من نقد هذه الزلة إلى تأييد الفكرة والبرهان وننعى عليهم جموداً في الرأي وضيقاً في الصدر ولولا تجاوزهم حدود النقد إلى التحامل لما تجاوزنا حدود الدفاع إلى المكر.
وإذا كان في اختيار الألفاظ الجزلة للمعاني السامية ما يدل على صفاء نفس الشاعر وطول باعه ودقة إحساسه وتمييزه وقع الألفاظ وموسيقاها فقد كان شاعرنا في اختيار الألفاظ والنواسي فرسي رهان. وهو الذي يشير إلى ذلك بقوله:
إذا هلكت فخطوا ... جنب النواسي قبري
إني أمت إليه ... وإن تأخر عصري
على أنه يختلف بعد ذلك عن أبي نواس في ميله من الدعابة والعبث إلى الفلسفة والحكمة، فهو يغوص وراءها في كل لجة ويأتي بها بكراً لم تقع العين على مثلها، وهو بذلك يقتفي خطى المعري، وبذلك يقول:
إني تتلمذت في بيتي عليك وإن ... أبلت عظامك أزمان وأزمان
وهو يقتفي أيضاً خطى الشاعر الخيمي لا في مجونه وإنما في حكمته وشكه ويقينه، وحسبك أنه عمد إلى رباعياته فترجمها إلى العربية نظماً
واشتقت مرة أن أحادث الشيخ الفيلسوف وأتعرف به قبل أن تختطفه المنون فلما اجتمعت به أبصرت أمامي هيكلاً من الأعصاب الثائرة يكسوها جلد مجعد، ورأيته يرجحن فوق ساقين هزيلتين ما تنفكان تضطربان من الشلل
وقد أحاول أن أسعي فتمنعني ... رجل رمتها يد الأقدار بالشلل
فهو ينتفض بين الآونة والآونة فيتجهم وجهه ثم تنبسط أساريره ويتمتم قائلاً: أعصابي! ثم ينصرف إلى محدثه فيما كان فيه، وأذكر أنني ما كدت بدأه بالتحية حتى قال لي:
(يا بني تسمع بالمعيدي خير من أن تراه)
ثم لم يلبث أن قرأ لنا قصيدته (إحساساتي) فاجتمعت حوله حلقة كبيرة من مريديه والمعجبين به وقفى ذلك بنكات بارعة وروى لنا أنه قرأ بين يدي جلالة الملك الراحل (ثورته في الجحيم) ومازال بين نكتة وارتجاجة حتى انتصف النهار فودعنا وامتطى (عربانته) إلى داره. ومرت أيام فنعي إلينا الشيخ ووقع ما كنا نخشاه.
مات الشيخ ولكن السبيل الذي كان يدعو إليه هانت صعابه وتطامنت وهاده
وبالرغم مما كانوا يتهمونه به من مروق في الدين فقد قال:
عبدتك لا أدري ولا أحد درى ... أسرك أم صدر الطبيعة أوسع
عبدت اسمك المحمود في الليل والضحى ... إذا الشمس تستخفي إذا الشمس تطلع
فأيقنت أن الكون بالله قائم ... وأنك نور والحقيقة برقع وقال:
أنا هذا فلا أبالي إذا ما ... أجمعت ثلة على تكفيري
أهل عصري لا يفقهون حديثي ... حبذا لو أتيت بعد عصور
وشيخنا في تقلبه بين الشك واليقين إنما ينحو منحى بعض الفلاسفة الذين مروا في تفكيرهم بأزمات فأنكروا وآمنوا وهو في كل مرحلة إنما سجل ما جاش بنفسه فجاء شعره صدى أطواره في هذه الأزمات.
والمرء يخلق طوراً بعد أطوار
وبعد فإن الصدق في الرواية يحتم علي أن أقول إن ما أثبته هنا من أبيات لم أرجع فيها إلى دواوين الشيخ فقد خلفتها في بغداد، وإنما هي مما علق بالذاكرة، وما أكثر ما تخونني الذاكرة، فأضع كلمة مكان كلمة متى استقام لها المعنى ولو كنت في زمن الرواية والحديث لما أبحت لنفسي أن أوري حديثاً فلتغفر لي روح الفقيد ما أكون قد وقعت فيه وتغمد الله روحه برحمته
صلاح الدين عبد اللطيف الناهي