مجلة الرسالة/العدد 195/في المرقص

مجلة الرسالة/العدد 195/في المرقص

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 03 - 1937



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

جلست في ركن أرى منه الناس جميعاً وذهبت أنتظر صديقي. والانتظار ثقيل ولكنه هنا مما يهون أمره، فقد كان اليوم يوم أحد، وكان المكان غاصاً بالفتيات الجميلات، وكانت الموسيقى لا تكف عن العزف، فالرقص لا ينقطع وحركته لا تفتر، ولا يزال الشبان ينهضون ويتقدمون من الفتيات وينحنون لهن باسمين فترفع الواحدة منهن حاجبيها الدقيقين اللذين يبدوان كأنهما مرسومان وتبتسم وتنهض ويداها على ثوبها لتصلح منه ما أفسده الجلوس. وكان يخيل إلي أن كل إنسان هنا يعرف كل إنسان آخر إلا العبد لله، فما كنت أرى وجه من أعرف. وصفقت فجاء خادم سمين أسود الوجه غليظه فقلت: اسقني شيئاً مما عندك، وكان صوتي خافتاً وقد زادت الضجة خفوته، فمال الرجل علي وهز وجهه الكبير فقلت: (هات أي شيء بارد. . أي شيء. . اذهب)

فقد كان يحجب عني الدنيا

وأدرت عيني في المرقص فسرتني المناظر. آه!. . هذه البيضاء ذات الثوب الأرجواني ما أحلاها. . شعرها ذهبي وخصله الجميلة تهتز تبعاً لحركة الرقص وكف زميلها على ظهرها تجعل هيف خصرها واستواء ردفيها أوضح وأوقع في النفس وأسحر للعين، وقد دارا الآن فأنا أرى كيف تمنح صاحبها صدرها. . إن صدرها ليس على صدره. . كلا. . ثديها الأيسر وحده هو الذي أراه على صدره. . ما أحلى هذا!. ليتني كنت مكانه! وأحلى ما فيها إشراق وجهها النضر. . إنها مسرورة تضحك وتثني رأسها راضية مغتبطة، فليت شعري ماذا يقول لها هذا الشاب الحاذق؟. .

واختفيا عن عيني وحجبهما غيرهما من الراقصين والراقصات. آه. . هذه أيضاً حسناء ولا شك. . ثوبها فيما يبدو لي قديم. . ووجها باهت اللون. . والأبيض كثير. . ولكن معارفها حسنة وعينها واسعة حوراء. . أم ترى هذا فعل الكحل؟. . لا أظن. ولكن صاحبها لا يدنيها من صدره وإني لأرى بينهما مقدار شبر. . ولا يحادثها ولا يهمس في أذنها بكلمة. . فهما يدوران في صمت. . خسارة. . كنت أحب أن أرى وجهها وهي مسرورة تضحك. . ذهبت الآن على كل حال. . فلننظر إلى غيرها. .

وراقني فرق ما بين الفتيات وهن يرقصن. . هذه واحدة تقف من صاحبها كالسيف. . خط جسمها مستقيم تماماً. . وتلك التي تلبس هذا الثوب الأخضر تنأى بساقيها عنه وتلقي بصدرها على الفتى، فلو تخلى عنها لكان الأرجح أن تقع على الأرض مكبوبة على وجهها الجميل. . أم ترى هذا ليس إلا وهما؟ ومن يدري؟. . لعلها تتقي أن يغلط مراقصها فيدوس أصابعها الصغيرة فهي لهذا تبعد بساقيها عنه. . ومن يدري أيضاً؟. . فعسى أن تكون غايتها أن تريح صدرها جداً عليه. . وهذه السمينة التي تحرك جسمها الثقيل ببطء. . صاحبها أسمن منها فهما مسكينان. . ألا ترى كيف يمسح عرقه. . ولكن الغريب أني لا أراها تعرق مثله. . وأحسب أن هذا من فضل الله فلو تصبب عرقها لَثَرَّ على المسحوق ورسم خطوطاً تجعل وجهها كأن فيه أخاديد. . ولكن لماذا وكيف لا تعرق؟. .

وسكتت الآلات وكانت الأرجوانية من جيراني ولكن وجهي كان إلى غير جهتها فلم أستطع أن أديره إليها. . قاتل الله الشعور بالذات. . لماذا لا أنظر إليها؟. . لن أخطفها أو آكلها. . ولا أظن أن نظري إليها يسوءها كما يسوءها الانصراف عنها كأنما هي لا تستحق نظرة. . وإنها والله لآية. . ولمحت شيئاً عظيماً إلى يميني في مدخل النافذة فالتفت فإذا الخادم الأسود الضخم الجثة فضحكت - في سري فما أستطيع أن أقهقه وأنا وحدي في هذا الحشد - وحدثت نفسي أن الله اختار لي أن يكون هذا الزنجي العظيم زميلي في ليلتي هذه وأنيسي في وحدتي. . وحولت وجهي عه مستعيذاً بالله، ونظرت في الساعة ورجوت أن يحضر صاحبي فيزيل هذه الوحشة وينحى عني هذه العمة الحالكة السواد. . ولكن صاحبي لم يجئ فلا بد أن اعتمد على نفسي فالتفت إليه وطلبت شيئاً لأصرفه عن مكانه فذهب ووسعني أن أجيل عيني مرة أخرى في الجلوس فرأيت فتاة في ثوب داكن الحمرة ذي شقين وفي أذنها قرط هو حبة كبيرة من اللؤلؤ. . المزيف بالطبع. . وهي سمراء فلعلها مصرية. . أعني لا عبرانية ولا أوروبية. . وشغلني من أمرها أني لا أستطيع أن أتبين أهي بدينة أم نحيفة. . وتعجبت لهذا. . ولكن المائدة أمامها وهي متكئة عليها بذراعيها فالبادي منها هو صدرها مضموماً. . ووددت أن تقف. . أعني أن يدعوها أحد إلى الرقص. . ولكني لاحظت أنها لا ترقص أبداً. . ولم أر واحداً من هؤلاء الشبان دنا منها وانحنى لها أو ابتسم أو أشار أو فعل غير ذلك مما تدعى به الفتاة إلى الرقص. . فهل هم يعرفون أنها لا ترقص؟. هي مثلي إذاً. . ولكني مهيض الساق فهل تراها. .؟ لا لا. . إني رجل، فلا بأس ولا ضير علي من كسر يصيب ساقي ولكنها تكون مسكينة حقاً إذا كان الله قد امتحنها بمثل ما امتحنني به. . أعوذ بالله. . كلا. . لا أظن. . وشاء حسن الحظ أن تقوم الفتاة في تلك اللحظة وأن تقبل على جيراني فإذا قدها سخيف جداً فانصرفت عنها وحمدت الله الذي أبى أن يشغلني بها عن الجميلات. .

وأطفئت الأنوار وبقيت بضعة مصابيح حمراء وخضراء وعزفت الموسيقى لرقصة التانجو فقلت هذا أحسن وأمتع. . وإذا بشاب أسود وعلى عينيه نظارة يقترب من الفتاة الهيفاء ذات الثوب الأرجواني ويهز لها رأسه فتنهض مرتاحة مسرورة يا أخي!. . أما أن هذا لغريب!. . من أين عرفها؟. . بل من أين جاء؟ فقد درت بعيني في المكان كله ولم أدع ركناً أو زاوية إلا حدقت فيها؛ ولست أعمى ولا قصير النظر وإن كنت أحمق قليل العقل. . وهززت رأسي مستغرباً. . وقلت لنفسي لولا إن الله ابتلاني بساق لا خير فيها أما كنت أنهض أنا أيضاُ لأراقص هذه البنت الجميلة؟. . وزاد عجبي أني رأيته يحسن الرقص وأنها فرحة به ومقبلة عليه. ورنت ضحكتها الفضية فقلت لنفسي يا ملعون!. وظريف أيضاً؟. . إذن أنت تستحق هذه النعمة التي كنت أظنك غير جدير بها. وقد وهبتكها فليس أحق بها منك!. .

وكانت أصابعي تعبث بعلبة الكبريت وتحركها على صوت الموسيقى أراعي الراقصين ولا يفوتني أن أنقد حركاتهم إذا كان قد فاتني أن أشاركهم فجعلت أقول لنفسي. . لا. . هذه الميلة ليست حسنة ولا رشيقة. . كان ينبغي أن يكون الانحراف فيها أقل. . هذا الأحمق يجب أن ينزل بكفه الغليظة إلى الخصر. . ماذا يظن أنه يصنع؟. . ألا يرى أن الفتاة تميل إلى الوراء فكيف يبقي كفه على طرف الكتف؟. أما إنه لمجنون. . وهذا الأبكم ألا يجد كلاماً يقوله لصاحبته فيشيع البشر في محياها؟. . لماذا يدعها كأنما صب وجهها في قالب؟. . في أي شيء غيرها يفكر هذا الأبله؟. . أما لو كنت أنا مكانه؟. . إذن لأريته. . ولكني مع الأسف قاعد أنظر ولا أرقص. وقد خدرت ساقي من طول ما تركتها على أختها فلأرحها قليلاً

وأنزلت ساقي والتفت وأنا أعتدل في مجلسي فإذا الزنجي الضخم واقف إلى جانبي، فقلت يا لها من ليلة سوداء!. ما له لا يتحول عن هذه النافذة؟. . وخطر لي أنه يتوهم أني قد أهرب منها فإنها تؤدي إلى شرفة تنتهي من آخرها إلى السلم، فقلت أعطيه القروش التي لا يستحقها وأريحه وأستريح فقد طلبت شيئاً بارداً فجاءني بشاي سخن. وأحسب أنه لم يسمع أو لعله ظن الشيء شاياً. فما أذكاه!. . وبدا لي أني أظلمه فليس ذنبه أنه أسود وإن جثته ضخمة وإن شكله بغيض، ثم أن له حقاً في الوقوف حيث يشاء مادام لا يزحم المكان؛ وأين بالله يقف إلا في مدخل باب أو نافذة استعداداً لتلبية الطلبات؟ فلندعه على كل حال.

وأردت أن أنهض وأنصرف فقد تأخر صديقي جداً ولم يعد من المنتظر أن يحضر، ولكني استحييت أن أمشي أمام هؤلاء الفتيات الجميلات وضننت بهن أن أعكر عليهن صفوهن برؤية رجل أعرج يظلع أمامهن، وقلت أنتظر حتى يستأنفن الرقص ويشغلن به عني. ولست أستحي من العرج الذي منيت به فما فيه ما يدعو إلى الخجل، لكني أكره الفضول وأستثقل من الناس أن يديموا النظر إلى رجلي كأنها شيء غريب جداً. وما ركبت الترام قط إلا ضايقني الناس بهذا الفضول. وما أكثر ما رأيتهم يتحدثون ويشيرون إلى ساقي غير عابئين بشعوري. ولهذا رأيت أن اتخذ سيارة لأريح نفسي من هذا الفضول

وودعت الخادم الغليظ وتحريت أن أرضيه فقد ظلمته وإن كان هو لا يدري ولا يعرف ما كان يدور في نفسي كلما وقف إلى جانبي. وخرجت مترنحاً - لا من السكر فما شربت إلا ماء فقد تركت الشاي - وإنما كنت أترنح لأن رأسي كان يدور. ولي العذر فقد يحتمل المرء واحدة جميلة ولكن من العسير أن يحتمل فتنة كل هذا الجمال الراقص

إبراهيم عبد القادر المازني