مجلة الرسالة/العدد 196/العام الهجري

مجلة الرسالة/العدد 196/العام الهجري

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 04 - 1937


عام الإسلام والسلام

هكذا تتعاقب أمواج السنين على ساحل الحياة، فتنفي الخبث وتطرح الغثاء، وتركم الأحداث، وتزيد في سجل التاريخ صفحة بعد صفحة؛ وابن آدم الفاني محمول على غواربها الرعن، تقذف بعضه مع الرمل والزبد، وترجع بعضه إلى العباب واللج! ومن يرجع فسوف يعود؛ ومن عاد فسوف لا يرجع!

هكذا يتحرك الفلك الدوار حركة الطاحون الثقيلة الساحقة، فيلفظ القشر، ويحفظ اللباب، ويصفي أكدار الوجود بالعدم، ويعفي حطام الصيف برياح الخريف، ويجدد ما رث من ديباجة العيش بأفواف الربيع؛ وابن آدم في يد القدر المصرف محراث ومنجل؛ بعضه يزرع الأمان والعمران والخير، وبعضه يقطع السلام والوئام والحب، وبين هاتين القوتين المتكافئتين يسير هذا الكوكب المظلم فلا يقف، ويتدفق هذا الدهر الأتي فلا يركد، ثم لا ينسحق بينهما إلا هذا الغبي الذي سلط نفسه على نفسه!

لله الحمد ولنا المجد! لم تكن أمتنا من شيعة الظلام ولا عصبة الخصام ولا فرقة الهدم؛ إنما كانت خير أمة أخرجت للناس، أمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر، وأعلنت كلمة الله، وبلغت رسالة الحق، وحملت أمانة العلم. هذا تاريخنا، تتألق أيامه الغر في ظلام الماضي، كما تتألق الكواكب الزهر في حلك الليل. أرشدنا الضال فاهتدى، وحمينا الذليل فعز، وعلمنا الجاهل فتعلم؛ ثم مكنا في أرضنا الفسيحة ودنيانا العريضة لعناصر الجمال والخير، فقويت في كل نفس، وازدهرت في كل جنس، وانبعثت في كل دين، وانتشرت في كل أفق؛ وحققنا لهذا الإنسان طريد العدوان وعبد الطغيان أحاديث أحلامه وهواجس أمانيه: من الأخوة التي يعم بها النعيم، والمساواة التي يقوم عليها العدل، والحرية التي تخصب فيها المدارك؛ لأن رسالتنا لم يوحها الجوع ولا الطمع، وإنما أوحاها الذي خلق الموت والحياة، وجعل الظلام والنور، وأوجد الفساد والصلاح، ليدرأ قوة بقوة، ويصلح نظاما بنظام، وينقذ إنسانا بإنسان

فلما أدركنا ضعف المخلوق ونقص البشر، ففدحتنا تكاليف الرسالة وأعباء المجد، أغفينا حقبة لنسترفه ونستجم؛ ثم صحونا اليوم نمسح الكرى عن الجفون، وننفض الغبار عن الأوجه، فإذا العالم يعصف به سعار من الجشع المسلح والطمع الباغي؛ وإذا الدين الشرقي يقلبه المزاج الغربي إلى كلب وغلب: فعبقرية موسى رباً ودسيسة، وروحية عيسى خصومة وحرب؛ وإذا رجل لم تنبته صحراء العروبة، ولم تنفحه عطور الشرق، يطغيه الحديد ويبطره العديد، فيقول وهو يحطم الصليب في الحبشة: أنا حامي الإسلام!

وأذل الإسلام إذا لم يعزه أهله! لا يا سيدي! إن الإسلام قوته فيه ودفاعه منه؛ ولا يزال كتابه في أيدينا يعمر القلوب بالقوة، ويغمر النفوس بالحياة: والقوة قوة الإيمان، والحياة حياة الروح؛ أما قوة الأساطيل على الماء وفي الهواء فعمرها يوم وليلة، ثم لا تكون إلا دخاناً في السماء، وحطاماً على الأرض!.

لا يكون الغرب بغير الشرق إلا كما يكون الجسم بغير الروح. فلابد من تآلف العقليتين وتحالف القوتين لإقرار النظام في الدنيا والسلام في العالم. والإسلام - دستور الديمقراطية الصحيحة، والاشتراكية المنظمة، والاخوة الشاملة - يبسط يده لكل يد تدفع الإنسانية إلى التقدم، وترفع المدنية إلى السمو. وهؤلاء المستعمرون الجياع الذين هالهم سره وراعهم معناه، فحاولوا أن يطفئوه في مشرق نوره، ويخفتوه في مصدر صوته، ليسرقوا الضمائر في الظلام، ويسلبوا الذخائر في الغفلة، قد أخطأنا فهمه وجهلوا قواه. فإن نوره من الله، وسيسطع ما سطعت الشمس؛ وإن صوته من السماء، وسيرتفع ما ارتفع الحق؛ وإن سلطانه من العدل، وسيبقى ما بقى الكون. فإذا انشقت الأرض، وانفطرت السماء، وانكدرت الشمس، عاد إلى مصدره الأزلي باهراً كما صدر عنه، طاهراً كما انبثق منه!

لقد أصابوا أخيرا فخطبوا وده وطلبوا حلفه. ذلك عهد جديد بين الشرق والغرب، أو بين السلم والحرب، سيقف فيه الحق الصريح أمام الباطل الخداع وجها لوجه. وسيعلم الإنجليز الذين حالفوا العراق ومصر، والفرنسيون الذين عاهدوا سورية ولبنان، أن الإسلام أصد وعدا، وأن العرب أوفى ذمة. ولعل هذه التجربة القريبة ترفع حجب الظنون عن القلوب والعيون فيعيش أولئك أصدقاء في فلسطين، ويعيش هؤلاء حلفاء في المغرب

إن الإسلام روح فهو حياة، وعقيدة فهو قوة، وشريعة فهو دستور، ومحبة فهو سلم. فعاملوه على ذلك تكسبوا عطفه وتغنموا رفده؛ أما الخداع والرياء، أو الشدة والجفاء، فتلك أسلحة مفلولة، إن قطعت قبل بالأمس فلن تقطع بعد اليوم.

أحمد حسن الزيات