مجلة الرسالة/العدد 196/تبصرة وذكرى
مجلة الرسالة/العدد 196/تبصرة وذكرى
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
ليس خيراً في الاحتفال بذكرى هجرة الرسول من الاجتهاد في إحياء سنته صلوات الله عليه عن طريق التنبيه إلى بعض الأخطار التي تحف بها في هذا العصر الذي تكالبت فيه عليها الميول والشهوات ومختلف النزاعات الناجمة في الغرب، والتي توشك إن لم يجتهد أولو الرأي والدين في صدها وإيقافها عن حدها أن تطمس من نور سنة صاحب الهجرة ﷺ ونور كتاب الله نفسه، فتعمى قلوب بعد إبصار، وتنشأ ناشئة المسلمين في دياجي الشك بعد أن كان يرجى أن تنشا في نور اليقين
وأخطر تلك النزعات الناجمة والشهوات الهاجمة نزعة التشكيك في أحكام الدين من ناحية، وشهوة تأويلها إلى ما يتفق وما يسمونه روح العصر، أو بالأحرى رأي الغرب وحكمه من ناحية أخرى. وأصحاب هذه النزعة حين يذكرون روح العصر أو يدعون إلى اتباع الغرب إنما يريدون تقمص روح الغرب واتباع خطواته في الاجتماعيات، أي في الميدان الذي ما نزل الدين إلا لتنظيمه، وما جاء الرسول إلا لتقويم الحياة فيه. والغرب كما نبهنا في مثل هذا المقام من قبل لم يصب سنن الله إلا في عالم المادة أما في عالم الروح والاجتماع فالغرب لم يصب سنة ولا حكما، بل هو في حيرة من أمره: يضطرب بالنظم المتناقضة، ويعج بالآراء والنظريات، ويميد بالأهواء والشهوات، حتى أصبحت عوامل القوة والأمن التي أصابها من ناحية علومه الطبيعية، هي بذاتها عوامل الخطر والخوف فيه؛ وأصبح من مدنيته هذه المادية المسرفة المغرورة كالساكن على حرف بركان
لكن الذين يدعون إلى الغرب فتنتهم قوته المادية، وجهلوا ضعفه الاجتماعي، فظنوا أن القوة في ناحية معناها القوة في كل ناحية، وأنه لما كان على حق في طبيعياته، فهو على حق في اجتماعياته؛ فسبيل النهوض والقوة في زعمهم هو أن يدع الناس ما هم عليه، ويأخذوا بما هو عليه، لا يبالون ماذا يتركون، ولا يترددون ماذا يأخذون
لكنهم نظروا أيضاً فوجدوا أن هذا معناه الدعوة إلى ترك كثير مما أمر به الإسلام والأخذ بكثير مما نهى عنه. والإسلام مهما ضعف في نفوس أهله فقد بقيت من روحه فيهم ومحبته بينهم بقية لا تؤمن معها عواقب هذه الدعوة على الدعاة من ناحية، ولا يرجى معها من ناحية أخرى أن يستجيب أهله إلى ما يخالف نظمه وأحكامه التي جرى عليها المسلمون منذ قام صاحب الهجرة صلوات الله عليه فوضح للناس الدين حكما وعملا باسم الله فاطر السموات والأرض وفاطر الناس. هنالك ذهب دعاة الغرب مذاهب، وانقسموا طرائق، فيما يدعون إليه، وكيف يحملون الناس عليه
فمنهم من نظر فإذا القوة بيده، ولاه الناس إياها في ثقة به وغفلة عن نيته، فرآها فرصة سانحة قد لا يؤتيه الزمن مثلها لحمل الناس على ما يريد، وتحقيق ما كان يتمناه من زمن بعيد، فحمل قومه على غير الدين، بنفس القوة التي ائتمنوه عليها للدفاع عن الدين. واشتط حتى كان يشنق في سبيل القبعة، ويحبس ويجلد في سبيل السفور والاختلاط؛ ولم يقف حتى جرد الدولة عن الدين. وحال في أمته بين الإسلام وبين الحكم الذي هو أخص خصائصه، وحتى استبدل بأحكامه أحكام أوروبا في الميدان الذي لم تكن أوروبا لتطمع في غزوه: ميدان الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وتوريث. وشاءت رحمة الله ألا يطرد النجاح لهذا الصنف من المفتونين ممن أراد حمل الناس على سنن الغرب بالقوة رغم الدين، فكان من هؤلاء من أفلح قومه في الثورة عليه غضبا لدينهم حتى أنزلوه عن عرشه وشردوه عن بلده، فكان فيما لقيه من الهزيمة والتشريد بعض العزاء للمسلم الذي ينظر إلى ما يجري في أقطار الإسلام الأخرى من بعيد، وشبه إنذار لمن عساه أن تحدثه نفسه بسلوك نفس الطريق. فوقف الخطر من هذه الناحية وإن كان يخشى أنه لم يزل، إذ يخشى أن يكون هذا النوع من الخطر كامنا في بعض الأقطار ينتظر الفرصة ليشب كالنار
على أن مقلدة الغرب والمتحمسين له ليسوا كلهم ممن يستطيع أو يرجو أن يستطيع أن يحمل الناس على خطوات الغرب بالقوة. والذين ليس بيدهم القوة من دعاة الغرب لم يحملهم فقدان القوة على ترك السعي إلى غرضهم، بل هم دائبون ناصبون في سبيله لكنهم يكيفون وسائلهم بما يلائم الظروف. صحيح أن جميع وسائلهم يصح أن تتلخص في (بث الدعوة) لكن سبيل الدعوة معبد لهم ميسر، فإن جميع ما يراه الناس ويسمعونه في ملاهيهم ومتروضهم، وجميع ما يقرأونه للتسلية لا يخلو مما يتألفهم إلى ما ينافي الدين ويبث فيهم روح الغرب الماجن من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون؛ فالأغاني بألحانها ومعانيها المتهالكة، والراديو بما يذيعه من مهازل المسارح ومماجن الصالات، والسينما بما تعرضه من روايات صنعت في الغرب لتمثل فيما تمثل نواحي الشهوات فيه بما يغري بها الناس، والمجلات والجرائد بما تنشر من قصص غير طاهر وصور غير نقية منقول أكثرها عن مجلات الغرب وجرائده من غير نظر إلى الشرق وإلى البلاد الإسلامية منه على الأخص - كل هذا وكثير غيره يعمل عمله في النفس المسلمة الناشئة وغير الناشئة فتضعف من روح التدين فيها، وتمهد للغرب ودعاته سبيل الاستيلاء عليها
هذه العوامل في ذاتها خطر كبير، لكن لا يزال هناك في المسلمين شعور بأنها خطر، وأن من الواجب مقاومتها والعمل على تلافي آثارها. صحيح أن هذا الشعور أكثره كامن لا يبدو إلا حينا بعد حين، وإذا ظهر قويا فترة عاد إلى مكمنه فترات، لكنه على أي حال شعور سليم، وهو على كل حال موجود منتشر، ووجوده هو معقد الأمل والرجاء أن يصير يوما ما قوة دافعة تدفع هذه الكتل البشرية الإسلامية في طريق الإسلام لتحيا في بلادها حياة مسلمة، ولتقيم على الأرض مرة أخرى دولة لا يكون الحكم فيها إلا لله العلي الكبير
لذلك كان الخطر الأكبر والشر الأعظم هو ما اتجه إليه دعاة ما يصح أن يسمى باللاإسلامية، من تخدير هذا الشعور الإسلامي وإضعافه ثم إطفائه لما أوجسوا منه خيفة، ورأوا في إحساس المسلم بفرق ما بين تعاليم الغرب وتعاليم الإسلام، عقبة العقبات في سبيل دعوتهم التي يبثونها والتي ما فتئوا يوهمون الناس أن الخير كل الخير فيها. فتقت لهم حيلتهم ولطف كيدهم أن ينيموا هذا الشعور ويزيلوا هذا الإحساس فاتخذ كل منهم سبيلا إلى نفس الغاية، أو بالأحرى لم يدعوا سبيلا إلى تلك الغاية إلا سلكوها.
فمنهم من جعل يوهم المسلم المحافظ المتحفز للمقاومة أن المقاومة غير مجدية. وان روح العصر لاشك غالب. ففيم المغالبة والأمر مفروغ منه والنصر مكتبو لأهل الرأي الجديد من الجيل الجديد؟ وهذه طريقة قد آثرت في كثيرين بل قد أفلحت مع بعض من كان يظن انه اعقل وابصر من أن يجوز عليه هذه الخدعة من أهل القلم من المسلمين، فكتب حديثا ييئس فئة الشباب المتمدين في حركتهم الدينية الحديثة ضد الاختلاط، لا لأن الاختلاط عنده صواب ولكن لأن وقت المقاومة قد فات، إذ الاختلاط قد بدأ منذ خمس عشرة سنة أو يزيد! ولو كانت هذه الحجة على أساس من الحق لما أصابت الدعوة اللاإسلامية شيئا من النجاح، لأن عمرها كله لا يزيد على ربع قرن، ومع ذلك لم ييأس أهلها أن يبدءوها برغم القرون الكثيرة التي رسخت فيها تلك النظم والتقاليد الإسلامية التي قاموا لمحاربتها: وقد بدأوها بالفعل وأصابوا - لما اغتر المسلمون بقوتهم وضعفها - هذا النجاح الذي أوحى إلى ذلك الكاتب المسلم ما وحى من الكلام.
ومنهم من يحاول إدخال الطمأنينة على قلوب المسلمين المتململين بإيحائه إليهم أن لا ضير ولا خوف على الدين من ترك دعاة ما يسمونه الجديد يبشرون دعوتهم يمينا وشمالا في أذهان الاطفال، وفي عقول النساء والرجال، لأن الحق سيتضح والباطل سينهزم والأصلح سيبقى، وبتركهم يفهمون أن الباطل سينهزم من نفسه، والحق سينتصر على رغم قعود أهله، وأن الدين له رب يحميه؛ وإذن فليس هناك من داع إلى أن يعملوا هم على نصرته أو يكلفوا أنفسهم مشقة الجهاد في سبيله. ويصادف هذا الإيحاء نفوساً تحركها للقيام كتحركها للقعود، فنجنح إلى القعود والراحة مرة أخرى وتترك الميدان خلواً أو شبه خلو لأولئك الدعاة، وهي بذلك تعرض نفسها للهلاك لأن رب الدين حين يحمي الدين يحميه طبق سنته التي خلت في الأولين بإهلاك القاعدين واستخلاف غيرهم من المجاهدين الذين (يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم؛ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).
وأبلغ في الكيد من هذا إذا أرادوا أمراً وعارضهم حكم الدين أن يشككوا في ذلك الحكم ويزعموا للناس أن ليس في الدين ما يمنع مما يريدون؛ فإذا قيل لهم إن الحكم ثابت عن طريق الإجماع أنكروا الإجماع إن يكون أصلا من أصول الدين، أو طالبوك بأن تثبت انعقاد الإجماع؛ فإذا جئت لهم بالنص على انعقاده تجده في بطون الكتب، جوزوا أن يكون الكتاب قد أخطأ أو أن يكون صاحبه قد كذب، أو احتجوا لرأيهم برأي شاذ لبعض من كان لعله مثلهم في ماضي الإسلام من الخارجين عن جماعة المسلمين. ولو كان الحكم لا يثبت في الدين لرأي شاذ يراه واحد ولو كان من أهل العلم ما انعقدت بيعة أبي بكر، فإن خلاف سعد بن عبادة وهو من كبار الصحابة في أمر تلك البيعة معروف، بل إذا كان الحكم في جماعة ما يمكن تعطيله بمثل حجتهم الواهية هذه ما أمكن تنفيذ حكم أو دستور في أمة من الأمم في هذا العصر أو في أي عصر، ولكان قولهم هذا أبلغ ما يبرر به حكم الفرد، إذ يصير حكم الفرد في هذه الحالة هو البديل الوحيد من الفوضى
فإذا كان في الحكم نص من السنة الكريمة واحتججت للحكم بذلك النص شككوا في السنة وقالوا إن الذي وضع على الرسول كثير، فلعل هذا من المكذوب الموضوع. فإذا قلت إنه قطعا ليس من الموضوع لأنه وارد في الصحاح، قالوا إن الحديث الصحيح لا يمكن الجزم بأنه ثابت قطعا عن الرسول، فإن ما ثبت قطعاً عن الرسول هو المتواتر وهذا محدود معدود
ويحاولون أن يشككوك في الحديث جملة باستغلال أمانة علماء الحديث ومبالغتهم في التدقيق عند تمييز درجات الحديث، إذ جعلوا الاحتمال العقلي البعيد للسهو أو النسيان أو الخطأ فارقا بين الصحيح وبين ما لا يمكن أن يتطرق إليه إلا ذلك الاحتمال وهو المتواتر مع أن حديث الرسول قد محص بما لم يمحص به حديث أو رأي أو فعل صدر عن بشر كائنا من كان، وأن هذا الحديث الصحيح قد صح عن الرسول بالسند الممحص المنقود فاختبر عن طريق تمحيص السند من بين مئات الآلاف من الأحاديث فلم يتجاوز عدده بضعة الآلاف، منها كثير مشترك. والمبالغة في التدقيق فقط هي التي تجيز عقلا من بعيد ألا يكون مثل هذا الحديث مقطوعا بصدوره عن الرسول برغم ذلك التمحيص الدقيق. ولو كان مثل هذا الاحتمال مسقطا للحديث لسقط التاريخ كله ولكان من العبث الاعتماد على تاريخ، أو كان هذا الاحتمال يجيز إهمال الحديث فلا يعمل به لجاز إهمال كل ما هو في مرتبة دون مرتبة اليقين في العلم وفي الفلسفة، مع أن العلم يتمسك بالنظرية الراجحة حتى يثبت بطلانها؛ وأولئك المشككون أنفسهم يستندون في تدعيم آرائهم إلى آراء ونظريات هي من ناحية الثبوت في العلم أو الفلسفة دون مرتبة الحديث الصحيح بكثير من ناحية الثبوت في الدين. على أن الإجماع منعقد بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم بوجوب الأخذ في الأحكام بالحديث الصحيح، بل إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يأخذون في أحكامهم بالحديث يثبت عن الرسول عن طريق فرد ذكر أو أنثى، وكانوا يرجعون عما عساهم يكونوا ارتأوه أو حكموا به مما يخالف ذلك الحديث كما ترى توجيه ذلك مفصلا في الرسالة التي كتبها الإمام الشافعي مقدمة للأم في الأصول
ويلتحق بهذا النوع من كيد أولئك المشككة المعطلة ما يحاولونه من تعطيل القرآن وإبطال مفعوله عند المسلم بالتوسع في تأويله وصرف الآي عن وجهه وتخصيص عمومه وتخريجه على نحو يوافق ما يريدون ويعتقدون من آراء الغرب ونظرياته. ولقد لطفت حيلتهم في هذا حتى وقع في أحبولتها بعض قصيري النظر ممن ينتسبون إلى الدين من المسلمين؛ ووقوع ولو واحداً من رجال الدين في أحبولتهم تلك دليل على مبلغ الخطر الذي يحف بالإسلام اليوم في بلاده وصميم أهله. وإذا لم ينهض المسلمون لدرء هذا الشر ويصدقوا الله الجهاد فيه غير متوانين ولا متواكلين ولا مسوفين، فسيجزيهم بتراخيهم ذلة في الدنيا، ويستخلف من بعدهم قوماً آخرين يؤيد بهم دينه الكريم (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز).
محمد أحمد الغمراوي