مجلة الرسالة/العدد 196/نفخة شرقية في أدب غربي

مجلة الرسالة/العدد 196/نفخة شرقية في أدب غربي

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 04 - 1937



للأستاذ عبد الرحمن صدقي

كان شاعر الألمان (جوته) يعنى منذ صباه بتاريخ الشرق وشعره. فدرس العبرانية وأدمن مطالعة التوراة. وكان يهتز لها لما يجده بها من أريحية الشعر، وبخاصة (قصة راعوث) و (نشيد الأناشيد). وهو يعتبر النشيد نسيج وحده في الرقة وحرارة الحب، وكان يستروح منه نسمة دافئة تهب من بقاع كنعان، وتتراءى له فيه حياة الحقول الوادعة ومزارع الكروم ومنبسط الرياض ومنابت الطيوب العاطرة. ويأنس من بعيد زحمة المدن ببني إسرائيل، وفيما وراء ذلك جميعه يتخيل ديوان سليمان وأبهة ملكه.

وينتقل جوته من العهد القديم العبري. إلى عصر الجاهلية العربي. حيث يقع على الكنوز المذخورة في المعلقات. تلك القصائد المطولات التي أحرزت الفوز بميدان النزال الأدبي في أسواق الشعر عند العرب. وهو يتمثل منها أهل البداوة الرعاة المقاتلين، لا يبرحون في غارات إثر غارات، يؤججها ما بين قبائلهم من تراث وخصومات. ويقول شاعر الألمان إن المعلقات تحدثه بأقوى بيان عن العصبية التي تربط أبناء القبيلة الواحدة، وعما الطبع عليه العرب من روح الإقدام والبسالة، والتحرز من العار والاستمساك بدرك الثار، وطلاب المجد، والتماس الفخار. وكيف أنهم كانوا يقدمون النسيب بين يدي هذه الفضائل الشديدة فيلطف عرامها وعنفها، بما يبثه من الأسى والحنين ولوعة الهوى وحسن الوفاء. ويزيد هذه القصائد العصماء قيمة عنده أن لكل منها سمة غالبة يلمسها القارئ ولا ينكرها

على أن الذي شغل جوته أكبر الشغل هو شخصية سيدنا محمد. وغير خاف أن العالم المسيحي كان من أيام الحروب الصليبية سيئ الرأي بطبيعة الحال في صاحب الشريعة الإسلامية. وكانت الكنيسة تتجاهل وجود القرآن وتحرم ترجمته، حتى جاء القرن السادس عشر والسابع عشر، فعمد بعض العلماء إلى نشر تراجم له مشفوعة دائما بدحض ما جاء به وتفنيده. ولعل ذلك منهم من قبيل التقية ودفع الشبهة، وحرصا على تزكية عملهم والتكفير عنه عند أهل ملتهم. ثم بزغ على الأثر عصر الشك، أو ما يسمونه عصر النور. وكان دعاته يحملون على الأديان كافة حملتهم الشعواء، ولا يريدون أن يروا في أصحابها إلا دجاجلة مغررين يزعمون للناس أنهم ملهمون. إلا أن الأحوال تعدلت، وانبرى بعض المحققين من جهابذة الغرب إلى هدم التخرصات المنسوبة إلى محمد في العالم المسيحي، وكتبوا سيرته الشريفة بروح عالية توفر لها التجرد عن الهوى والاستغراق في الموضوع فانجلى لكل ذي عينين محمد رجل الدين، الثابت اليقين في الله الواحد الأحد، وعرفوا فيه رسولا من رسل العناية لنشر التوحيد من أقاصي الهند إلى ربوع الأندلس. واطلع شاعرنا جوته وقتئذ على سيرة محمد، وحيا فيه النبي العظيم والروح القوي الأمين، حاطم الأصنام الداعي إلى دين الفطرة

وقرأ جوته القرآن وطبع مختارات منه مأخوذة عن الترجمة الألمانية. وظل طويلا يمعن في درسه إمعان الباحثين. وهو يشير إلى أن القارئ الأجنبي قد لا يحبه لأول قراءته، ولكنه يعود فينجذب إليه، وفي النهاية يروعه ويلزمه الإكبار والتعظم

ويستشهد جوته بآيات الكتاب العزيز في بيان تعاليم الدين (ألم. ذلك الكتاب لا ريب فيه، هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، ومما رزقناهم ينفقون. والذين يؤمنون بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك، وبالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون. إن الذين كفروا سواء عليم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون. ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، ولهم عذاب عظيم)

ويقول جوته إن القرآن يردد هذه التعاليم ويكرر البشير والنذير سورة بعد سورة. ولا يرى جوته في هذا الترديد والتكرار ما يراه النقاد الغربيون. لأن النبي لم يرسل للناس برسالة شاعر للتفنن والتنويع في ضروب الكلام، وعرض الصور المزوقة من الأخيلة والأوهام، لاستحداث اللذة وإدخال الطرب على الأسماع والأذهان. بل هو بنص القرآن بعيد عن هذا الوصف. وإنما هو نبي مرسل لغرض مقدر مرسوم يتوخى إليه أبسط وسيلة وأقوم طريق، وهذا الغرض هو إعلان الشريعة وجمع الأمم حولها وانضواؤهم إلى لوائها. فالكتاب العزيز أنزل ليقتضي الناس الخبوت والإيمان، لا لمجرد المتعة والاستحسان، وإذا ما عرض للقصص فليس المقصد الأول هو التاريخ والأخبار، وإنما ضرب الأمثال للموعظة والاعتبار

وقد أراد جوته تأليف قصة تمثيلية عن محمد، وشرع فيها من أيام شبيبته فنظم منها مناجاة للنبي وهو بالليل وحده في الخلاء تحت السماء الساجية السافرة النجوم. وقد اقتبس فيها هذه الآيات في دحض الشرك: (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة! إني أراك وقومك في ضلال مبين. وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين. فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي، فلما أفل قال لا أحب الآفلين. فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي، فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي، هذا أكبر، فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشكرون، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض، حنيفاً وما أنا من المشركين). ثم أدار جوته حوارا بين محمد ومرضعته حليمة. كما أنه وضع نشيداً على صورة مقطعات يتناوب إنشادها (علي) وزوجه (فاطمة) بنت الرسول. وهو تصوير رائع لقوة هذا الإنسان المبعوث من عند الله، ووصف شعري لفيض الإسلام وسرعة ذيوعه ودخول القبائل والأمم فيه أفواجا أشبه ما يكون بالنبع في الجبل لا يزال يتحدر من النجاد إلى الوهاد، ويزخر بما ينصب فيه من الروافد فيتسع مجراه وينتظم البلاد الواسعة والممالك العظيمة حتى يبلغ المحيط الأعظم

ولم تزل فكرة هذه الرواية ماثلة في مخيلة جوته حتى وضع مشروعها. وعلى مقتضاه تبدأ الرواية بنشيد ينشده محمد وحده بالليل تحت السماء الساجية، ويشعر بنفسه العاكفة على التأمل والتفكير يسمو صعداً إلى الله تعالى الذي تستمد سائر الكائنات وجودها من وجوده. ويكاشف محمد بهذا الهدى زوجه خديجة فتؤمن به عن طواعية أول المؤمنين. ثم في الفصل الثاني يقوم النبي يناصره علي بالدعوة إلى دينه بين قومه فيلقى العطف من فريق، والمعارضة من فريق، كل على حسب طبعه وما ركب في جبلته. ويقع الخلف بين القوم وتشتد الملاحاة ويضطر محمد إلى الهجرة. وفي الفصل الثالث ينتصر محمد على خصومه ويطهر الكعبة من الأوثان. وتستوي دعوته دينا مقررا، وتجتمع له أسباب الجهاد قولا وفعلا. ويظهر الرجل السياسية إلى جانب الرجل الديني. وفي الفصل الرابع يتابع محمد مغازيه، ويتخذ لها عدتها ويتوسل بوسائلها. وتدس له السم امرأة من يهود خيبر ثكلت أخاها. والفصل الخامس والأخير يبلغ فيه محمد أوج كماله وتتجلى عظمته الروحية. ثم تعاود عقابيل السم فينتقل إلى جوار ربه. . . غير أن هذه الرواية وقفت عند حد المشروع، مما نأسف له شديد الأسف.

وقد كان جوته في مدينة (ويمار) - وهي الآن تكريما له عاصمة الريخ الألماني - حين جاز بها الروس المسلمون من شعب البشكير على ظهر جيادهم، ونزلوا بها، واتخذوا أحد معاهد البروتستانت مسجداً للصلاة. ولا تسل عن فرحة جوته بهم وحضوره صلاتهم واستماعه إليهم يرتلون آيات القرآن ومقابلته إمامهم وتحيته لأميرهم في المسرح. وهو يذكر في هزة المحبور أنهم اختصوه من رعايتهم بقوس وسهام لم يزل يعلقها فوق موقده طيلة عمره تذكارا باقيا. وبلغ من حب جوته للشرق أنه كان يعالج محاكاة الكتابة العربية ورسم حروفها، ويغتبط وهو يقيمها ويسطرها من اليمين إلى اليسار على عكس كتابة أهل الغرب

فهل وقف جوته عند هذا الذي عرفه وأحبه في الشرق؟

الواقع أن فيما عرفه جوته حتى الآن عن الشرق وفيما أحبه منه مقنعاً وأي مقنع. ولكن الرجل أبت له نفسه الرحيبة ألا يجتمع فيها الشرق السامي والشرق الآري كما يقولون: شرق العبرانيين والعرب وقد تقدم، وشرق الهند والفرس

فقد أقبل الرجل يتعرف إلى المئات والمئات من آلهة الهند ويشهد في التهاويل والصور وأوثانهم الهائلة المخيفة، واطلع على مطولات أساطيرهم، واحتار بين أتاويه مذاهبهم، وتعجب لاختلاط الشهوات بالقداسات عندهم، والتقاء الحضيض بالسموات في نظرهم. وقد أخرج من ذلك أساطير هندية رائعة منها (الإله والراقصة) و (موبذ البراهمة وزوجه) وغيرهما

وقد أثنى جوته على حكايات الفيلسوف (بيدبا) التي وضعها للملك (دبشليم) على ألسنة الحيوان، ويلاحظ جوته أن الفرس نقلوا هذه دون غيرها عن الهند لعدم اتصالها بالوثنية الهندية الفظيعة، ونفور أذواقهم الدقيقة المهذبة من تلك الفلسفة الدينية العويصة. أما هذه الحكايات عن كليلية ودمنة فهي تقع موقع القبول عند الناس أجمعين، وقد صار لها شأنها الكبير عند الفرس والعرب لما انطوت عليه من الحكمة العملية والخبر بالحياة.

وكان شاعرنا الألماني في ذلك الأوان قد أوفى على الستين، ولكنه مجدد الشباب أبداً كالخالدين. وقد اختار لمطافه الأخير أدب فارس، أدب الجنات والبساتين، أدب الورد والبلابل، والحب الحسي والوجد العلوي. ولقد استغرق جوته في هذا الأدب ونسى عالمه الخارجي وكان يؤثر واحداً بين شعرائه الكثيرين، وقد اتخذه صاحبه ومرشده الديني في هذا الجو الشرقي المشبع بالمتعة والحنين. وهو شمس الدين محمد حافظ الشيرازي أرق شعراء الفرس الغنائيين.

وزاد اعتزال جوته لما حوله، وأبعد بفكره، أميالا بعد أميال، وارتفع أطباقا فوق أطباق، وتخلص من قيود الزمان والمكان وانفتحت له من ديوان حافظ الشيرازي أبواب الشرق، الشرق مهد الإنسانية، بما فيه من أوضاع للشعر والاجتماع والأخلاق والدين تختلف عما يعهد). فخلص جوته من هذه وتلك إلى صميم الحياة، إلى الوحدة والبساطة.

وكانت أشعار حافظ تكشف لجوته عن حياة تمت إلى حياته بأقرب وشائج القربى. حياة حياها هو أيضاً، حياة نفس تتقبل الوجود بمنتهى الحرية والمتعة، وتناجي الغيب دون أن تقطع ما بينها وبين الأرض. وتواجه التعصب والجمود بالتصوف الحي والإحساس بالشمول. لكأنما هي حياة جوته هذه التي يحكيها حافظ. الممالك تنهار ويقوم الحاكمون في إثر الحاكمين فلا تسمع منها غير الغناء يتحوى نفوسهما وأشجانها الحلوة وأسرارها الخالدة. وكلاهما يقف وجهاً لوجه أمام قاهر طاغية - هذا أمام تيمورلنك، وهذا أمام نابليون، فلا تنخذل عبقرية الأدب في وجه عبقرية الحرب. إن جوته لمأخوذ بهذه المشابهة يهتز لها من أعماق نفسه. فهو يعلم ما لهذه اللحظة من خطر. إذ يتصل فيها الجنسان باتصال نفسين كبيرتين من الجانبين. وهذا هو جوته يحس باستكمال شطره الثاني، يحس بالشرق والغرب يلتقيان فيه. وتضمهما دفتا كتاب واحد يخرجه للناس هو (الديوان الشرقي للمؤلف الغربي).

وأبواب الديوان اثنا عشر باباً؛ وهذه هي بأسمائها الشرقية على الترتيب: كتاب المغني. كتاب حافظ. كتاب حافظ. كتاب العشق. كتاب التفكير. كتاب السخط. كتاب الحكمة. كتاب تيمور. كتاب زليخا. كتاب الساقي. كتاب المثل. كتاب الفرس. كتاب الخلد. وفيما يلي ترجمة القليل من روائع هذه الأسفار:

نشيد الهجرة

(الشمال والغرب والجنوب أقطار تتناثر بدداً، وعروشها تنثل وممالكها تنهار. فهاجر وامض إلى الشرق الطهور، تستروح الطيب من الآباء الطيبين. وبالحب والنشوة والغناء يرد عليك ريعان صباك كأنما نضح عليك من نبع الشباب السرمد الخضر عليه السلام.

(هناك في ظل النقاء والصدق تطيب لي الرجعى إلى نشأة الإنسانية الأولى. إلى الأزمان التي تلقى فيها بنو الإنسان كلمة الحق منزلة من الله بلسان أهل الأرض. فلم يقدحوا فكراً ولم يكدوا ذهنا. إلى تلك الأزمان التي كانوا فيها يبجلون السلف. وينهون عن كل دين غير دينهم

(أريد التملي من عصور الفطرة بأفقها الممدود المحدود: فكر قانع وإيمان واسع

(أريد معاشرة الرعاة في المنتجعات، والاسترواح في ظلال الواحات، والارتحال مع القوافل متجرا في الطرح والبن والمسك، طارقاً كل درب من البوادي إلى الحضر

(وسيان أنجدت أو اتهمت، فإن أغانيك يا حافظ تؤنسني في وعثاء السفر، إذ يترنم المرشد بها على ظهر برذونه مأخوذا طربا، وكأنما يوقظ بها النجوم الوسنى، ويرهب قطاع الطريق

(هناك في الشرق في ردهات حماماته وبين جدران خانه، أريد أن أذكرك يا مولانا حافظ وقد رفعت حبيبتي خمارها، وتضوع الطيب من غدائرها المهدلة المضمخة بالعنبر

(وليعلم الذين ينفسون على حافظ جمال حياته وحلاوة شعره، والذين تطوع لهم نفوسهم التعريض بهتانا بكفره، أن كلمات الشاعر لا تبرح حائمة حول جنة الخلد، طارقة في لطف أبوابها تطلب الخلود)

تعويذة

(لله المشرق، ولله المغرب، وفي راحتيه الشمال والجنوب جميعا

(هو الحق، وما يشاء بعباده فهو الحق. سبحانه له الأسماء الحسنى، وتبارك اسمه الحق، وتعالى علواً كبيرا

(ينازعني وسواس الغي. وأنت المعيذ من شر الوساوس. فاللهم اهدني في الأعمال والنيات إلى الصراط المستقيم

(ومهما تضللنا النزعات وتزين لنا الشهوات. فالنفس التي لا تذهب في الغي شعاعا ولا تضيع ضياعا، لا تلبث بالادخار والأباء أن تنطلق عارجة إلى أوجه العلاء

(وللناس في ترديد أنفاسهم آيتان من الشهيق والزفير: هذا يفعم الصدور وهذا يفرج عنها. كذلك الحياة عجيبة التركيب. فاشكر ربك إذا بليت. واشكر ربك إذا عوفيت منن أربع

لكيما يسعد العرب في البيداء، راتعين في بحبوحة الفضاء، وأولاهم المولى ذو الخير العميم مننا أربعة:

أولى هذه المنن: العمامة. وهي زينة أروع من التيجان كافة. ثم خيمة يتحملونها من مكان إلى مكان، حتى ليعمروا كل مكان. ثم حسام بتار هو أمنع من الحصون وشاهق الأسوار. ثم القصيد يؤنس ويفيد، ويسترعي أسماع الخرد الغيد)

الحرية

(دعوني كما أهوى على صهوة جوادي السابح، وابقوا أنتم في بيوت المدر وخيام الوبر! إنني لأنطلق جذلان في الفضاء الشاسع، وليس فوق عمامتي إلا النجوم الزواهر

وما زينت السماء الدنيا بمصابيح، إلا هدى للناس في البر والبحر ولتكون متعة للناظرين أبد الدهر كما ولوا وجوههم قبلة السماء)

عناصر الشعر

(كما العناصر التي يقوم بها القصيد حتى يتملاه العامة ويلذ سماعه الخاصة؟

(إذا قيل الشعر فليكن النسيب المقدم. فإن الحب إذا مازج الشعر زاد نبراته حلاوة وبعدها فليردد الشعر رنين الكؤوس ولتتلألأ فيه كميت الخمر كالياقوت فإنما العشاق والندامى هم وحدهم من ترتاح لهم وتهش لمجلسهم

كذلك يطيب في الشعر سماع صلصلة السيوف ودوي النفير ولجب الوغى حتى إذا انجلى الحظ أبلج أزهر دان الناس للبطل، وغدا بينهم مؤلها بما أصاب من النصر المؤزر

(ولا معدى للشاعر في آخر الأمر عن التنكر لأشياء شتى والتعرض لها بالهجاء. فما كان لمثله أن يلقى القبيح المشنوء. بمثل ما يلقى الحسن المستحب

(فإذا اجتمعت للشاعر هذه المقومات الأربعة. فقد أشاع البهجة والحياة بين الورى أجمعين. إلى أبد الآبدين

أسير:

(هنا كان الطرف الأدعج والثغر الأحوى اللذان حظيت منهما باللحاظ والقبل، قوام سبط، وأعطاف بضة لينة، كأنما هي لحورية من جنة النعيم.

(أكانت هنا حقا؟ وأين مضت؟ أجل، هي بعينها التي جادت بهذا كله، هي التي سمحت ثم ولت هاربة. لقد تيمتني وتركتني ما حييت أسيرها)

كتاب مطالعة:

(سفر ما أعجبه بين الأسفار! ذلك سفر العشق. لقد أمعنت في مطالعته. بضع صفحات من اللذة، وأبواب مستفيضة في الألم. اختص الفراق بجزاء كامل واقتصر اللقاء على فصل وجير. على مقطوعة. وللأشجان مجلدات مذيلة بحواش لا حصر لها ولا آخر)

سلام:

(واها! ما أسعدني!. . . كنت أتمشى خلال الحقول فإذا الهدهد يطفر في طريقي، وكانت بغيتي البحث هنا وهناك عن ودعت متحجرات مما تختلف عن البحر القديم، فاعترضني الهدهد في اختيال ناشرا تاجه متبخترا في هيئة المدل الساخر، وإنه لسخر الحي بالميت. فقلت له: يا هدهد! في الحق إنك لطائر جميل. انطلق يا هدهد وبلغ حبيبتي أني لها وملك يمينها ما حييت. وكذلك كنت يا هدهد من قبل رسول الحب بين سليمان وملكة سبا)

(فقال الهدهد: إن التي أنت موفدي لها، قد أودعتني كامل سرها، في نظرة واحدة من ناعس طرفها. وأنا أغبطك على سعادتك. فأنت محب وأنت محبوب. ودوام الحب الزاهر مقترناً بالقوى الخالدة بقية أيامك قدر لك مقدور وطالع مكتوب)

قارورة العطر

(لكي يتحبب إليك المحب بالعطر العبق، ويزيد في انشراحك وبهجتك، يهلك العطار على النار العدد العديد من أكمام الورد. فلابد له من عالم منها ليستقطر ملء قارورة صغيرة، قارورة مخروطة مستدقة كأناملك لكي تهدي إليك، فهل ترانا نذكر هذه الآلام والعطر يفعم حسنا ويزيد في متاعنا! هيهات. وكم هلكت أنفس لا عداد لها في سبيل عظمة تيمور)

لذة الإحسان

ما أحلى نظرة الجارية ذات الدل وهي تغمر بطرفها. ونظرة النديم تلمح عينه بالرضى وهو يحتسى كأسه. وما أحلى تسليم السيد الآمر بشملك بعطفه. وشعاع الشمس في الخريف ينعشك بدفئه. فليكن أحلى من هذه جميعاً في نفسك حركة الاستعطاف اللطيفة تمتد بها كف الفقير في طلب الصدقة، وتتلقى منك بالحمد الجميل ما تجود به. فما أحلاها وقتئذ نظرة وما أحلاها تحية وما أحلاها بلاغة في السؤال. تأمل هذا فإذا أنت الكريم الجواد على الدوام.

مثل الإيمان

تحدرت من السماء إلى لجة الخضم قطرة مرتجفة، فأنحت عليها الأمواج خفقاً وضربا. ولكن الله جزاها عن صبر إيمانها خيرا. فوهب لقطرة المطر قوة واعتصاما. فاحتوتها الصدفة في حرز حريز. وأتم الله عليها العز والجزاء الأوفى فهي اليوم على تاج الشاه درة تتألق حلوة اللمح سنية البهاء

الدين

من الحماقة التعصب للدين. وإذا كان الإسلام هو التسليم لله فقد وجب أن نحيا ونموت مسلمين أجمعين.

ونحن نقف من الديوان عند هذا الحد. وان كان في الديوان زيادة للمستزيد. ولكن ضيق المقام يمنع من الإفاضة. وفيما تقدم الكفاية للدلالة على ما انطوى عليه هذا الشاعر الغربي من الروح الشرقي.

والعجيب أن شاعرنا هذا كلما تقدمت به السن وآذنت شمس حياته بالغروب كان يزداد تطلعا إلى الشرق

وهذا عجيب، ولكنه من جوته غير عجيب فإن ذلكم الرجل العامر بالحياة كان حتى ساعة إن حضرته الوفاة مولعاً بكل مطلع للنور حسيا كان أو روحيا. وقد قضى نحبه ويده المرتجفة تشير برفع الأستار، وعيناه إلى النافذة وهو يتمتم بهذه الكلمة العليا والمطلب الأخير: المزيد من النور! المزيد من النور

عبد الرحمن صدقي