مجلة الرسالة/العدد 198/الفلسفة الشرقية

مجلة الرسالة/العدد 198/الفلسفة الشرقية

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 04 - 1937



بحوث تحليلية

بقلم الدكتور محمد غلاب

- 1 -

هل الفلسفة الإغريقية وليدة الفلسفة الشرقية؟

تمهيد

تشغل الباحثين منذ أقدم عصور التاريخ مشكلة لم يهتدوا إلى حلها حتى اليوم حلاً حاسماً يقف تيار الاعتراضات من الجهات المعارضة. وإن كانت بحوث المستشرقين والمستمصرين في العصر الحديث قد وصلت إلى ترجيح إحدى كفتي الميزان في هذه الفكرة العويصة التي يترتب عليها تغيير اتجاه الحكم على اليونان وعلى الشعوب الشرقية القديمة إلى ناحية غير التي كان يسير فيها قبل ظهور نتائج هذه البحوث. تلك المشكلة هي: هل الفلسفة اليونانية ابتدعت في يونان وليس لها أية صلة بالشعوب الشرقية؟ أو هي تراث نظمه الإغريق؟ وإذا كانت الأولى، فهل يرجع مبدؤها إلى القرن السادس فقط كما زعم (أرسطو) حين قرر أن (تاليس) هو أول الفلاسفة جميعاً؟ أو يمكن اصعاد الفلسفة إلى عصور غابرة إغريقية محضة؟ وإذا كانت الثانية، فما هو أول تلك الشعوب الشرقية الذي نشأت الفلسفة بين ربوعه؟

قرر أرسطو أن الفلسفة نشأت للمرة الأولى في تاريخ العقلية البشرية في تلك المستعمرة اليونانية التي تدعى (أيونيا) والتي سبق أن أسسها قوم من الإغريق القدماء الذين هاجروا في عصور ما قبل التاريخ إلى آسيا الصغرى وأسسوا بها تلك المدن التي لم يلبث الإغريق الأصليون أن احتلوها وبسطوا عليها سلطانهم السياسي والأدبي، فأفسحوا بذلك الطريق أمام العقل الإغريقي الجبار، وحلوا عقاله الذي كان قد أمسكه في آسيا عن الصولان في عصور ما قبل الاستعمار الجديد. وأول من بدأت العقلية الإغريقية القديمة تتمثل فيه هو: (تاليس المليتي) أول فيلسوف في الدنيا. وإذاً، فالفلسفة إغريقية الأصل والعنصر، وهي لا تصعد في رأي أرسطو إلى ما وراء القرن السادس قبل المسيح، ولكن (ديوجين لاإرس) المؤرخ الإغريقي الشهير الذي عاش في القرن الثالث قبل المسيح يحدثنا في كتابه (حياة الفلاسفة) عن فلسفة المصريين والفرس في العصور الغابرة حديثاً ممتعاً يدل دلالة قاطعة على أن الشرق قد سبق الغرب إلى الفلسفة بزمن بعيد. وأنه كان أستاذه في كل ما وراء الطبيعة كما كان أستاذه في العلوم الطبيعية والرياضية بأنواعها، وأن الغرب جلس في الأزمان المظلمة مجلس التلميذ المستلهم من الشرق العالم المستنير.

فأنت ترى تعارض هاتين الفكرتين وتصادمهما منذ أكثر من ثلاثة وعشرين قرناً، وترى كذلك أن لكل منهما أشياعاً ومؤيدين، ففريق يسلك منهج أرسطو فيؤكد أنه ليس للشرقيين فضل في هذه الثروة العقلية العظيمة إلا ما ظهر لفلاسفتهم بعد الإسلام من مجهودات في شرح الفلسفة اليونانية وتوجيهها؛ أما في العصور الأثرية فلم يعرف التاريخ عنهم إلا الدين المقيد بالوحي ولم يحفظ لنا عنهم مجهودات شخصية تشرف العقلية البشرية، بل إنهم نسبوا كل شيء عندهم إلى السماء، حتى تلك المتناثرات الأخلاقية المنتزعة من الفضائل العملية والمصوغة في حكم مقتضبة، ويتخذون دليلاً على هذا ما تزدحم به كتب التاريخ من ازدهار الدين وإجداب الفلسفة في الشرق كل هذا الوقت الطويل الذي تلا العصور الأثرية، ويقولون: إنه لو كان للشرق فلسفة لشملها ناموس التقدم ولشاهد العالم تطوراتها المختلفة كما حدث في بلاد الإغريق. ومن أشهر أصحاب هذا الرأي في العصور الأخيرة (بارتلي سانت - هلير) إذ يقول في مقدمة ترجمته (للكون والفساد) ما نصه: (أما من جهة الفلسفة الشرقية فإننا لا نعرف، بل ربما لن نعرف أبداً من أمرها شيئاً معيناً بالضبط فيما يختص بعصورها الرئيسية وانقلاباتها، فإن أزمنتها وأمكنتها وأهلها تكاد تعزب عنا على سواء. إنها مستعصمة دون إدراكنا مدعاة للشكوك لما يغشاها من كثيف الظلمات، حتى لو عرفنا منها هذه التفاصيل مع الضبط الكافي لما أفادنا ذلك إلا من جهة إرضاء رغبتنا في الاطلاع دون أن يتصل بنا أمرها كثيراً. إن الفلسفة الشرقية لم تؤثر في فلسفتنا مع التسليم بأنها تقدمتها في الهند وفي الصين وفي فارس وفي مصر فإننا لم نستعر منها كثيراً ولا قليلاً. فليس علينا أن نصعد إليها، لنعرف من نحن ومن أين جئنا

ثم قال:

ولقد تصديت فوق ذلك لتبيين أن العبقرية الإغريقية هي التي دانت العالم بهذا النفع العلمي الجليل دون أن تكون مدينة فيه لغيرها، فإذا كانت الشعوب المجاورة لها آتتها شيئاً من العلم فما هو إلا مدد مبهم غاية في الإبهام. لا مراء في أن المصريين والكلدان والهنود لهم في ماضي الإنسانية مقام كبير، ولكنهم مع ذلك في الفلسفة أو في العلم بعبارة أعم ليسوا شيئاً مذكوراً في جانب الإغريق الذين لم يكونوا ليتعلموا منهم.

وقال أيضاً: (وإن العلم على جميع صوره كان معدوماً في الشرق فأخترعه الإغريق ونقلوه إلينا).

ولهذا الرأي مقلدون في مصر كما هي الحال في كل فكرة تطعن على الشرق.

وفريق آخر يذهب إلى ما نقله (لاإرس) من أن الفلسفة الإغريقية ليست إلا تراثاً شرقياً متغلغلاً في القدم ويستندون في هذا إلى براهين أهمها ما يأتي:

1 - إن جهود المستشرقين قد وضعت أمام أنظارنا مدنيات شرقية ضاربة في التقدم بسهم نفاذ كمدنيتي مصر والعراق مثلاً، وأنبأتنا بأن هذه المدنيات سابقة على مدنية الإغريق بعدة قرون. وأثبتت لنا علائق متينة بين بعض ما تحتويه هذه المدنيات وبين الفلسفة الإغريقية ممثل علاقة نظرية (تاليس) الشهيرة القائلة بأن أصل الكون هو الماء بأنشودة خلق الكون الدينية العراقية التي تصرح بأن كل شيء في الكون منشئوه الماء إذ تقول في مطلعها ما ترجمته: (حين لم تكن السماء العليا بعد قد فازت باسمها ولم تكن الأرض هي الأخرى قد تسمت بهذا الاسم كان أبوهما: (أبسو) وأمهما (تياما) وهما: (الماء) أو جوهر كل شيء ممتزجين امتزاجاً تاماً قصد التناسل والإخصاب).

فإذا لاحظنا أن الأنشودة العراقية كانت قبل (تاليس) بعهد بعيد، وأن سيادتها في القرن السادس قبل المسيح كانت على أتم ما تكون قوة وتغلغلاً في النفوس، ولاحظنا الصلات التجارية والاجتماعية في ذلك العصر بين العراق وأيونيا استطعنا أن نرجح في سهولة كفة تأثر تاليس بتلك الأنشودة العراقية القديمة، بل استطعنا أن نجزم بأن من المستحيل أن يكون تاليس قد ابتدع نظريته في أصل الكون.

2 - إن العلماء المشتغلين بالبحث في الإنسان وخواصه والفروق الموجودة بين طوائفه المختلفة قد قرروا أنهم التقوا أثناء بحوثهم بأدلة قاطعة على أن بعض النظريات الإغريقية لا يمكن أن تكون من أصل إغريقي، لأنها توفرت فيها جميع شرائط العقلية الشرقية وخواصها.

3 - إن الباحثين الأثريين قد عثروا على كلمات: العدالة والفضيلة والنفس الحياة الأخرى في الشرق قبل مبدأ تاريخ وجودها في الغرب بقرون لا يعرف مداها، بل إنهم قد تأكدوا من أن الغرب لم ينطق بهذه الكلمات إلا بعد اختلاطه بالشرق.

4 - إن علماء الرياضة قد فرغوا من تقرير أنه من غير الممكن أن تبنى الأهرام في بلد لم تقطع فيه الهندسة العلمية أشواطاً بعيدة.

وفي هذا رد بليغ على الذين يزعمون أن مصر لم يكن فيها هندسة علمية، وإنما كان فيها هندسة عملية فحسب.

5 - هناك أدلة أخرى لم تصل من القوة العلمية إلى ما وصلت إليه الأدلة السابقة، وإن كان أنصار هذا الرأي يستأنسون بها مثل رحلة تاليس إلى مصر والشرق الأقصى، ومثل وجود العناصر الأولى من منطق أرسطو في المدارس الهندية السابقة لعصره، ومثل وجود الكلام عن الجوهر الفرد في المدارس الهندية كذلك أو وجود فكرة التناسخ عند المصريين والهنود وغير ذلك ممن يسند هذا الرأي الأخير ويقويه.

إذا عرفنا كل هذا وتبينا أن هذه الفلسفة اليونانية العظيمة إنما هي وليدة الأساطير الشرقية. فقد وجب على كل باحث في الفلسفة أن يبدأ بحوثه بفلسفة هذه الشعوب الشرقية، ليكون على بينة من العناصر الأساسية التي تكون منها الجسم المراد درسه

غير أن هناك عقبات ومصاعب اعترضت ولا تزال تعترض سبيل دارس الفلسفة الشرقية وتقفهم موقف الحروجة والعسر مثل:

1 - ما يزعمه بعض المتحاملين من المحدثين من أن فكرة بدء الخلق في الشرق تستمد عناصرها من الدين أكثر مما تستمدها من الفلسفة: وإن شئت فقل: إن الدين والفلسفة في الشرق شيء واحد، ولهذا لم يعرف للتاريخ نظرية فلسفية ظهرت في الشرق القديم مستقلة عن الدين، وإنما مهد النظريات الحرة البعيدة عن كل التأثيرات الدينية من غير استثناء هو بلاد الإغريق. وهذا هو الباعث الأول الذي قلل من أهمية دراسة الفلسفة الشرقية في نظر علماء العصور الحديثة وحط من قيمتها عندهم.

2 - إن المصادر التي وصلت إلينا عن فلسفة تلك الشعوب الشرقية قليلة لا تكفي لإشباع الرغبة العلمية عند الدارس المتقصي الذي لا يرضى من المشكلة بأقل من الإحاطة بجميع نواحيها، وإن كانت هذه الندرة في المراجع لم تحل بين الباحثين المحدثين وبين معالجة هذه الفلسفة الشرقية ووضع المؤلفات الضخمة عنها مثل كتب:

(أ) (هيكل تاريخ الفلسفة الهندية) تأليف (ماسون أورسيل) وقد ظهر في سنة 1923.

(ب) (تاريخ فكرة وحدة الوجود الهندية) تأليف (أولتترامار) ظهر في سنة 1923.

(ج) (تاريخ الديانات) تأليف (دينيس سورا) ظهر في سنة 1924.

(د) (أصول الديانة الإسرائيلية): (الجيوفية القديمة) تأليف (س. كوسان) ظهر في سنة 1931.

(هـ) (تاريخ الفلسفة الصينية) تأليف (زانكير) ظهر في سنة 1933.

على أن هاتين العقبتين المتقدمتين لا تمنعاننا من أن نعتبر دراسة الفلسفة الشرقية هي أول ما يجب على المشتغل بدراسة الفلسفة الاعتناء به، أما امتزاج الفلسفة بالدين الذي كان من عوامل حروجة دارس موقف الفلسفة الشرقية فسنجتهد في حله بأن نعين مهمة كل من هذين الممتزجين اللذين عقد امتزاجهما الموقف وجعله من المشاكل العويصة.

ولكن قبل أن نعالج هذا الموضوع ينبغي لنا أن نشير إلى أن تلك العقبة الأولى الناشئة عن امتزاج الفلسفة الشرقية بالدين ليس مسلماً بها من جميع العلماء والباحثين المحدثين، إذ يصرح بعضهم بأن هذا الامتزاج ليس خاصاً بالشرقيين في العصور القديمة، وإنما هو طبيعة إنسانية عامة كما وجدت في مصر والعراق في الأزمان الغابرة، كما وجدت كذلك في أوربا في القرون الوسطى. وليس القديس (أوجستان) والقديس (توماس) والقديس (أنسلم) - وهم من مشاهير فلاسفة المسيحيين في أوربا - إلا مظاهر لهذه الفترة البشرية التي نشأت على مزج الدين بالفلسفة، بل إن (ديكارت) و (اسبنوزا) و (كانت) أنفسهم - وهم أعلام فلاسفة العصر الحديث - ليسوا إلا مظهراً آخر من مظاهر هذا الانعطاف الطبيعي. وإذاً، فرمى الشرق القديم وحده بهذه النقيصة - إن صح إنها نقيصة - ضرب من العنت والجور اللذين يجب أن يتنزه عنهما الباحث المحايد.

وسواء أصح الرأي الأول أم الثاني، فإننا سنحاول هنا أن ندرس الفلسفة الشرقية الممتزجة بديانات الشعوب التي ظهرت فيها، عاملين - كما قدمنا - على تمييز الفلسفة من العقيدة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.

وسنبدأ دراستنا بأقدم هذه الديانات الوثنية عهداً، وهي الديانة المصرية التي لم يعرف التاريخ أعرق منها في أغوار الماضي البعيد.

(يتبع)

الدكتور محمد غلاب

-