مجلة الرسالة/العدد 199/على هامش كتاب

مجلة الرسالة/العدد 199/على هامش كتاب

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 04 - 1937



نظام الطلاق في الإسلام

للأستاذ محمود حمدان

كنت من زمن أرى أن ما تعارف الناس من أمر إيقاع الطلاق جملة، وفي أي مناسبة، ويميناً، وتعليقاً - عبث لا يتفق مع الحكمة، ويجعل أقوى العقود رباطاً، وأقدسها حرمة، وأهمها في الحياة قدراً، أوهن من بيت العنكبوت. فما كان الله ليجعل المرأة الضعيفة تتقاذفها الأهواء كالريشة في مهب الهواء

وكنت قد طلبت الفقه على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه فما وجدت في الكتب التي بين يدي. ولا عند الأشياخ الذين تلقيت عنهم جواباً عما يخالجني. فكنت أسكت وفي النفس شيء لا أستطيع أن أبوح به. وكنت كلما وقع بيدي مقال لبعض المصريين حول موضوع الطلاق أقرأه بشغف لعلي أجد فيه ضالتي، فلا أجد إلا ثرثرة متحذاق فأطرحه كاسف البال

وبعد أن تركت الأزهر الشريف كان يتاح لي في بعض الأحيان أن أقرأ للمرحوم الأستاذ رشيد رضا مواضيع مختلفة، فصرت ألمس روحاً غير الذي كنت ألمسها في الأزهر: صرت ألمس روح الحرية في الفهم وتحكيم العقل والرجوع إلى القرآن الكريم، فاطمأن قلبي وشعرت بنور الإسلام يغمرني ويكونني خلقاً آخر

قلت أذن لتحل مشاكلنا على ضوء العقل الذي وهبنا الله، ونور القرآن الكريم الذي حفظه الله كما انزل ليكون حجة على الخلق إلى يوم الدين، لا على رأي غيرنا، ولا بمقتضى كتب لم يكتب الله لها العصمة

ورجعت إلى مشكلة الطلاق فاقتنعت بأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع إلا واحدة ولا يقع ثلاثاً لمخالفة ذلك لمقتضى اللغة ولصريح القرآن وللعقل أيضاً، لأنه حصل فسخ عقد النكاح بقول المطلق: أنت طالق. فلم يبقى محل لإيقاع الفسوخ الأخرى بالوصف العددي، وأفتيت بهذا مراراً. وأثناء اشتغالي بالمحاماة الشرعية أفتيت في حادثة من هذا القبيل لو وصلت إلى المحكمة لقضي بالتفريق بين الزوجين ببينونة كبرى كما يقولون

بيد أنه لم يتح لي دراسة هذا الموضوع دراسة وافية من جميع نواحيه حتى علمت من قراءتي للرسالة الغراء - نفع الله بها وحفظ صاحبها - بصدور كتاب (نظام الطلاق في الإسلام) للعلامة المجتهد الشيخ أحمد محمد شاكر القاضي الشرعي. فقلت: ابن بجدتها، علم غزير، وذكاء وفير، والمهنة مستوجبة للدرس، والظروف مؤاتية.

قرأت الكتاب بشغف قوي وبما يستحق من عناية وإنعام نظر، فرأيته - ولا أريد أن أمدح - نعم الكتاب هو، وافياً بالغرض، قائماً على الحجة القوية من كتاب الله وسنة رسوله مسترشداً بالعقل وقوانين اللغة، بعيداً عن اللغو ومواطن الزلل، ورأيت الإخلاص للحق مماثلاً فيه بدليل توفقه - بأسلوب سهل - للإحاطة بأطراف الموضوع في موجز كهذا (وهو بالنسبة لخطورة الموضوع وجيز) وبدليل بعده عن الخوض في (سب سادات مضوا) شأن كثير ممن يتعرضون للكتابة في مواضيع اختلفت فيها الآراء وتشعبت الأقوال.

ومسأله الكتاب: إخراج الطلاق من حيز العبث الذي أدخله فيه الناس إلى حيز الحكمة التي ابتغاها الشارع الحكيم من مشروعيته، واعتباره علاجا لإصلاح ما قد يطرأ على الرابطة الزوجية من أمراض تنغص العيش، وتذهب بالسكينة المنشودة من الزواج (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها) والذي يجعل لإصلاح العلاقة الزوجية لا يستعمل لقطعها إلا إذا تعذر الإصلاح وكان العلاج هو القطع. ومن هنا أذن الله للرجل في الطلاق وجعل له فيه أداة ومهلة يتروى فيها ويراجع نفسه (لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً) وبهذا تتجلى حكمة الطلاق ويبدو أنه تشريع منظم غاية التنظيم.

وقد حرص المؤلف على تقرير هذا المعنى في المواضيع المناسبة؛ غير أن ما أشترط لصحة وقوع الطلاق غير كافي للحيطة من العبث به وتعجيل الفراق. فقد أشترط في طلاق المدخول بها أن يكون الطلاق في طهر لم يمس فيه وقال: (فإذا رد الرجل مطلقته في عدتها إلى عصمته بالرجعة تجدد العقد بينهما، فكأنه وصله بعد إذ قطعه، فيمكن قطعه وفسخه مرة أخرى، وكذلك الثالثة. ص 72) وهذا كله يتصور في طهر واحد، كأن يطلق في طهر لم يمس فيه ثم يراجع نفسه فيرجعها بشروط الرجعة - ثم يرى طلاقها فيطلقها في نفس الطهر قبل أن يمس ثم يعود إليه صوابه فيرجعها، ثم يرى طلاقها في نفس الطهر أيضاً قبل أن يمس فيطلق. وحينئذ يقع الفراق الذي لا رجعة بعده في طهر واحد، ويكون قد تعجل الطلاق وخالف الحكمة في تفريقه. وليس فيما حقق الأستاذ ما يمنع المطلق من إيقاع الطلاق على الصورة الذي ذكرنا أو ما يبطل طلاقه لو فعل.

والذي أراه يتمشى مع الحكمة هو التمشي مع نصوص القرآن الكريم، وذلك بعدم إجازة الرجعة التي تترتب عليها صحة الطلاق الثاني إلا عند نهاية العدة لقوله تعالى: (فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف) وقوله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف) فإنه رتب الإمساك (وهو الرجعة) على بلوغ الأجل. وبلوغ الأجل في حق الرجعة يراد منه قرب بلوغ الأجل لأن الرجعة لا تصح بعد بلوغه

وحرمان الزوجين من بعضهما مدة العدة أدعى للوفاق بينهما فيما بعد. لأن الزوجة بسبب هذا الحرمان تصلح من شأنها، والزوج بسببه لا يقدم على طلاق آخر إلا إن كانت الضرورة ماسة جداً خلاف ما لو راجع حالا فإنه لا يشعر بشيء يزجره ويذيقه بالفعل خطورة ما أقدم عليه

وقرب بلوغ الأجل، أي نهاية العدة، يكون في الحيض الأخير أو الطهر الذي قبله، فإن حصلت المراجعة في الطهر الذي قبل الحيض الأخير ومست الحاجة للطلاق الثاني طلق إن شاء قبل أن يمس كما في الحديث. وإن حصلت الرجعة في الحيض الأخير صحت الرجعة ويطلق في الطهر الذي بعدها إن شاء قبل أن يمس. وهكذا في الطلقة الثالثة

وبهذا النظام لا تقع الفرقة النهائية إلا في ظرف واسع كاف للتروي ومراجعة الرأي. وهو وقت يقرب من ثلاث عدد. ومن لم يحسن العشرة فيه كان مستحقاً لعقاب الحرمان الأدبي من رفيقه، أو ألا يرجع إليه إلا بعد زوج آخر، وهو ما لا ترضاه النفوس غالباً

بقي: هل يبطل الطلاق في الحيض أو يقع ويحرم؟

رجح المؤلف بطلانه، وهو رأي بعض الأئمة؛ ورجح غيره حرمته فقط، وسمي بالطلاق البدعي. استدل المؤلف بحديث ابن عمر من روايات متعددة ذكرها فيما بين الصفحة 23 والصفحة 28، واحتج القائلون بالوقوع بحديث ابن عمر نفسه من روايات أخرى قال المؤلف عنها: (ليس فيها شيء صريح وألفاظها مضطربة وهي تخالف ما ثبت صريحاً بالروايات الصحيحة، وتخالف أيضاً ما يفهم من ظاهر القرآن)

وأنا أصدق المؤلف فيما قال في الروايات التي تمسك بها خصوم رأيه، ولم أطالعها، ولكنني أقطع النظر عنها وأقول: إن الروايات التي تمسك بها هو لا تساعده على رأيه لأن قوامها:

1 - ما روى مالك في الموطأ عن نافع (أن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله ، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله عن ذلك، فقال رسول الله : مره فليراجعها، فليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسكها بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس. فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء)

2 - وما روى ابن وهب في كتابه الجامع: (قال ابن أبي ذئب أن نافعا أخبرهم عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر رسول الله عن ذلك، فقال: مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد ذلك وإن شاء طلق قبل أن يمس. فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء. وهي واحدة)

وهذان الحديثان هما من لفظ النبي وقد صرح فيها بقوله فليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر ثم إن شاء أمسكها بعد وإن شاء طلق. فلو كان الطلاق الأول الذي طلقه ابن عمر غير واقع لم يكن فائدة لقوله فليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، بل كان ينبغي أن يقول فليمسكها حتى تطهر ثم إن شاء ثم إن شاء طلقها قبل أن يمس، ولا داعي لتعدد الحيض والأطهار

وأعجب للمؤلف كيف يقول: (فلو كانت الروايات التي يحتج بها القائلون لوقوع طلقة ابن عمر في الحيض صحيحة لكان الأمر بمراجعتها تم التربص بها إلى أن تطهر ثم يطلقها إن شاء الله في الطهر الثاني قبل أن يمس - أمراً بإطالة عدتها زمناً أكثر مما أريد من الرفق بها) أعجب له لأن التربص بها إلى أن تطهر الأطهار المعدودة في الحديث ثم يطلقها إن شاء هو مناط الحكمة في تفريق الطلاق (لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً) وليس لإطالة عدتها بل لاحتمال رجوعه عن إرادة الطلاق فيما بعد. أما الطلاق الأول فقد وقع والتربص عدة حيض وإطهار كما في الحديث دليل على وقوعه، وإلا فهو حر في طلاقها حين تطهر الطهر الأول. وقوله في الحديث وإن شاء طلق قبل أن يمس فيظهر أنه إن شاء طلاقاً ثانياً، ولا ينافيه قوله بعد ذلك (وهي واحدة) لأن الضمير فيها للطلقة الأولى المفهومة من سياق الكلام والتي هي محط السؤال، فلا جرم يكون الجواب عنها بالإضمار ولا يمتنع ذلك، وهو أسلوب عربي صحيح، ولا نسلم للمؤلف (أنه لا يمكن أن يعود الضمير إليها).

وأما الروايات الأخرى التي أستند إليها المؤلف فاثنتان وهما:

1 - رواية ابن جريج عن ابن الزبير (وقال عبد الله فردها علي ولم يرها شيئاً)

2 - ورواية مسلم والنسائي بحذف كلمة ولم يرها شيئاً

فهاتان الروايتان ليستا من لفظ النبي عليه السلام، بل هما من فهم عبد الله بن عمر بحسب سماع ابن الزبير وفهمه، والأخذ بلفظ النبي عليه السلام أولا من الأخذ بفهم غيره

والرواية الثالثة وهي رواية الأمام أحمد (. . فقال رسول الله : ليراجعها فإنها امرأته) تحتمل على الأقل الوقوع والأمر بالمراجعة. وعدم استعمال لفظ المراجعة في القرآن بهذا المعنى لا ينفي استعماله في الحديث

وبعد فهل الروايات التي تمسك بها القائلون بوقوع الطلاق في الحيض، أو بالتالي هل وقوع الطلاق في الحيض يخالف ما يفهم من ظاهر القرآن كما قال المؤلف؟

الجواب عندي أن حديثي مالك وابن وهب الذين تمسك بهما المؤلف يفهم منهما ما يساعد على تأويل القرآن الكريم بما لا يخالف وقوع الطلاق في الحيض

فالذي يفهم من الحديثين أنه أوقع الطلقة الأولى وكانت في الحيض، وأمر بالتريث حيضاً وأطهاراً بين هذه الطلقة وبين إيقاع الطلقة الثانية إن شاء المطلق ذلك وقال (فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء)

فالطلاق للعدة المأمور به في القرآن معناه أن تطلق المرأة الطلقة الثانية بنهاية العدة من الطلقة الأولى، ويكون تفسير أية الطلاق هكذا:

(يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) أي الطلاق المعهود في قوله (الطلاق مرتان) من سورة البقرة وهي أول سورة نزلت بالمدينة، (فطلقوهن لعدتهن) أي أوقعوا الطلقة الثانية لعدة الأولى أي بنهاية عدتها كما فسر ذلك الحديث حيث أوقع الأولى وأحصى العدة بتعداد الحيض والأطهار وقال بعد ذلك (فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء)

وليس غريباً أن يكون هذا هو التفسير فالقرآن يفسر بعضه بعضا فالحديث مبين للقرآن (لتبين للنساء ما نزل إليهم)

فمن آيات الطلاق مع الحديث يؤخذ أن الطلاق لا يقع إلا متفرقاً بين كل طلقة وأخرى مقدار عدة، وإن الرجعة لا تصح إلا بنهاية العدة.

وحيث كان الطلاق يختل نظامه إذا لم يراع فيه ذلك فقد أكد الله هذا المعنى بتكريره في آيات الطلاق فقال تعالى في سورة البقرة (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف) فرتب الإمساك والتسريح على بلوغ الأجل. وذكر مثله في سورة الطلاق.

والحاصل أنني أستنتج من هذا البحث ثلاثة أمور:

الأول: وقوع الطلاق في الحيض.

الثاني: أن الرجعه لا تصح إلا قرب نهاية العدة

الثالث: وهو مترتب على الثاني - أن الطلاق الثاني لا يقع إلا قرب نهاية العدة من الطلاق الأول، والطلاق الثالث لا يقع إلا قرب نهاية العدة من الطلاق الثاني

وبذلك يصبح نظام الطلاق في الإسلام ثابتاً لا يتسرب إليه الخلل ولا يمكن العبث به مهما حاول ذلك المحاولون.

فأرجو من فضيلة الأستاذ العلامة الجليل الشيخ أحمد محمد شاكر مؤلف كتاب (نظام الطلاق في الإسلام) أن يتفضل بالجواب عما رآه هذا العاجز سواء بالسلب أو بالإيجاب مع الأدلة الوافية لنستنير برأي الراجح، وله منا جزيل الشكر ومن الله عظيم الثواب

داود حمدان