مجلة الرسالة/العدد 200/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 200/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 05 - 1937



قصة المكروب كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور أحمد زكي

مراقب مصلحة الكيمياء

الرصاصة المسحورة

- 1 -

بدأنا هذه القصة بلوفن هوك، بهذا الرجل الذي لا يعرف إلا الحقيقة الواقعة يتوجه إليها قدما دون مداورة أو محاورة، وبدأناها به لأنه منذ نحو من مائتين وخمسين عاماً نظر بعين من السحر، نظر بعدسه، فرأى المكروبات أول من رأى. نقول بعين من السحر، وهو لو سمعنا نصف مكرسكوبه بأنه من السحر لشخر ونخر كما قد يفعل اليوم بعض مواطنيه الهولانديين استهزاء بنا واحتقاراً لوصفنا

وهانحن أولاء نختتم هذه القصة ببول إرليش وهذه خاتمة مباركة سعيدة، والخواتيم المباركة السعيدة لابد منها لكل قصة جدية ذات بال. كان صاحبنا رجلاً مفراحاً، وكان يدخن في اليوم الواحد خمساً وعشرين لفيفة من لفائف التبغ الطويلة الثخينة وكان مشغوفاً بشرب كوب من البيرة على الملأ مع خادم معمله القديم، وأكواب كثيرة أخرى مع زملائه من ألمانيين وإنجليزيين وأمريكيين. ومع إنه جاء في العصر الأخير الحديث إلا إنه كان به شيء كبقية من العصور الوسطى، فقد كان يقول: (يجب أن نتعلم صيد المكروب برصاص من عبقر) فضحك الناس منه. وأما أعدائه فصوروه صوراً مضحكة وكتبوا تحتها (الدكتور فنتازس)

على أنه مع هذا قد صنع حقاً رصاصة من عبقر. وكان له مزاج الكيمياويين القدماء الذين يحيلون الرصاص إلى الفضة ويستخرجون من خسيس المعادن الذهب، ولكنه صنع فوق ما حسب هؤلاء أنهم صانعوه: قلب سماً معروفاً مألوفاً يتخذه القتلة المجرمون لإبادة الأنفس، فصيره دواء وشفاء وخلاصاً لتلك الأنفس من داء من شر داءاتها. طبخ الزرنيخ طبخة ومزجه مزجة أحالته إلى عقار يذهب عن مرضى بني الإنسان بلعنة ذلك الداء الكريه ذي المكروب اللولبي، ذلك الداء القبيح الاسم الذي هو جزاء الخطيئة الكبرى. وكان لإرليش خيال غريب عجيب مقلوب، لا يتصل بالمألوف في هذه الأرض، ولا بالمعروف في العلم، فأعانه هذا الخيال فدار بصياد المكروب في طرائق البحث دورة جديدة، وطلع بهم وبعلم المكروب في صحراء المجهول طلعة جديدة كشفت لهم من فوق رابية عن وديان من الأرض جديدة، ولكنهم وآ أسفاه لم يدروا إلا القليل منهم ماذا يصنعون بالوديان الخصيبة الجديدة التي حلوها ولهذا السبب سنختتم هذه القصة بأرليش

وليس معنى هذا إن بحث المكروب انتهى وجاء ختامه، فأنا مؤمن، كإيماني بطلوع الشمس غداً، بأن أبحاث المكروب لم يجيء بعد ختامها، وبأن الغد كفيل بخلق قوم كإرليش يأتون من عبقر بمثل رصاصته التي أتى. ولعلهم يكونون كإرليش رجالاً برغم ابتكارهم مفاريح مماريح مهازير مفاكيه، فالأدوية الرائعة لا تستخرج من العمل الجد المتواصل والمعمل البديع وحدهما. . . أما اليوم فلا يوجد من صياد المكروب رجال إذا هم اقتنعوا بالذي يرونه ركبوا رؤوسهم في سبيله واقتحموا كل معارضة لبلوغ مقصدهم منه ولو خالف المألوف واصطدم بالشائع المعروف. فهكذا إرليش، ينظر في عينيك بوسعي عينيه محدقاً محدجاً يريد أن يقنعك بأن الاثنين تضاف إلى الاثنين فتجعل منها خمساً. وولد في سيلسليا في مارس عام 1854 فلما شب أرسلوه إلى المدرسة الثانوية في مدينة برسلاو فسأله أستاذه أن يكتب مقالة إنشاء موضوعها: الحياة حلم. فكتب هذا الصبي اليهودي الذكي يقول: إن الحياة تعتمد على الأكسدة العادية. . . والأحلام مظاهر من مناشط المخ، ومناشط المخ ليست إلا أكسدة. . . إن الأحلام أشبه شيء بفسفرة مُخّيَّة!)

وبالطبع كان حظه من هذا الإنشاء رقم خسيس، ولكن هذا لم يعكر عليه صفوه، فقد كان مرن على هذه الأرقام الخسيسة عن أعماله المدرسية. ومن المدرسة الثانوية ذهب إلى مدرسة للطب، بل إلى ثلاث مدارس للطب أو أربع. هكذا كان إرليش وهكذا تعلم. وفي كل مدرسة ممتازة في الطب دخل من استراسبورج إلى فرايبورج إلى ليبزج، ارتأى فيه الأساتذة أنه طالب غير عادي وارتأوا فيه أنه طالب سيئ بالغ أقصى درجات السوء، وذلك لأنه أبى أن يحفظ 10050 كلمة طويلة زعموا أنه لابد من حفظها لعلاج المرضى. كان إرليش ثائراً، وكانت ثورته جزءاً من الثورة التي بدأها بستور وطبيب القرية كوخ وسأله أساتذته أن يقطع جثث الموتى ويتعلم أجزاءها. ولكنه بدل هذا قطع جزءاً من جثة واحدة، وقطعه سليخة سليخة، وجعل هذه السلائخ غاية في الرقة ثم أكب على تلوينها بشتيت من أصباغ أنلينية بديعة اشتراها أو اقترضها أو سرقها على عين مدرسه

ولم يكن يدري هو نفسه لم يفعل هذا. وبقى إلى آخر أيامه يجد متعته الكبرى قي النظر إلى كل لون بهيج وصناعة كل صبغ زاه جميل. أقول متعته الكبرى ولا أذكر تلك المتعة الأخرى التي كان يجدها في الجدل الجموح والنقاش الشرود الذي كان يتعاطاه على مناضد البيرة ومن فوق أكؤسها

وكان يكره التربية الكلاسيكية ويعد نفسه من نصراء الجديد، ومع هذا كان يحسن الإلمام باللاتينية، ومن هذه اللاتينية كان يصوغ تلك الجمل الجامعة المقلمة التي كان يدعو بها كلما خاض غمار حرب، واستعدى العقول في الحملة على الخصماء. فبتلك الجمل الصارخة كان يعنى أكثر من عنايته بالمنطق. كان يصرخ: أي (إن الأجسام لا تعمل إلا بعد تثبيتها) وكان في صرخته يضرب المنضدة بيده حتى ترقص الصحاف التي عليها. فظلت تلك الصرخة بتلك الجملة تقوي قلبه وتحيي أمله في ثلاثين سنة لم يكن له فيها غير الخيبة. وكان إذا حدثك بهذه اللاتينية يلوح في وجهك بنظارته في إطارها القرني وهو يؤكد معناه في نفسك ويقول: (لعلك سامع! لعلك فاهم!)، ولو إنك أخذته بجده لحسبت إن هذا الهراء اللاتيني لا عقله البحاث هو الذي أفضى به إلى النجاح أخيراً. وعندي أنه أفضى بعض الشيء إلى هذا النجاح يقيناً

وكان إرليش أصغر من كوخ بعشر سنوات، وكان يعمل في معمل كنهايم في اليوم الذي عرض فيه كوخ على الناس بشلة الجمرة لأول مرة؛ وكان أرليش زنديقاً لا يؤمن بالله، فلما افتقدت السماء رباً يعبده توجه بعبادته إلى رب في الأرض، فكان كوخ. وبينا هو يصبغ بألوانه كبدا مريضه وقع على جرثومة السل ورآها قبل أن يراها كوخ بزمن، ولكن لجهله، ولقصور ذكاءه عن ذكاء كوخ، ظن تلك القضبان الملونة التي رآها بلورات جامدة، فطاش سهمه بعد أن كاد. ولما جاء مارس عام 1882 وجلس في بعض أمسائه في تلك الحجرة في برلين يستمع إلى كوخ وهو يشرح كيف أكتشف جرثومة السل، أهتز للذي سمع وأتضح لعينه ما كان غم عليها، ورأى الحقيقة واضحة صريحة. ووصف هذه الحادثة فقال: (إنها أكبر الحوادث أثراً في نفسه في كل ما صادف في حياته العلمية)، قالها بعدها بزمن طويل. وعلى أثرها أعتزم أن يتصيد المكروب هو أيضاً، فذهب إلى كوخ وأطلعه على طريقة بديعة يصبغ بها مكروب السل فيتراءى في العين سهلاً واضحاً - وهذه الطريقة لا تزال تتبع إلى يومنا هذا بلا تغير يذكر. ولزمه وهو يشتغل بمكروب السل حماسه الصاخب، فلوث نفسه من قدمه إلى رأسه بالمكروب، فأصابه السل فكان لابد له أن يذهب إلى مصر ففعل

- 2 -

وكان عمره إذ ذاك أربعاً وثلاثين سنة، ولو أنه مات عندئذ في مصر، إذن لنسي أمره بدون شك، أو إن هو ذكر فإنما يذكر بأنه رجل مِفراح ممراح أحب الألوان وأغرم بالخيالات ثم خاب، وكان كالمولد الكهربائي في جهده الفياض ونشاطه المتواصل. وأعتقد إنه يستطيع الجمع بين صيادة المكروب ومعالجة المرضى. وتعين رئيساً للأطباء في دار للعلاج شهيرة في برلين، ولكنه كان مرهف الحس مضطرب الأعصاب لا يقوى على استماع صراخ المرضى وأنين من يوشك منهم أن يموت بعد أن استعصي دواءهم وعز علاجهم.

نعم علاجهم. علاجهم الحق. علاجهم الشافي لا علاج الظن والتخمين، ولا العلاج بالتأسية الكاذبة والتلطف الفارغ عند سرير المريض ثم ترك الأمر للطبيعة عساها تحل العقدة التي أعجز الطب حلها. وساورته هذه الأفكار وأمثالها فأفسدت عليه صناعة التطبيب فكان طبيباً مخيباً، ذلك لأن المؤاساة ولو كانت كاذبة صفة لابد منها للأساة، أما اليأس من الأمراض ولو موئسة وقطع الأمل وتقطيعه على أسماع المرضى فلا يؤدي بالطبيب إلا إلى الخيبة. وعدا هذا فقد ساء إلريش طبيباً عندما لعبت برأسه لواعب الأحلام: كان ينظر إلى جسم المريض فينفذ ببصره إلى ما وراء جلده وكأنما يستعير لعينه مجهراً بالغ التكبير، فتتراءى له مادة الخلية المرتعشة وقد ارتسمت في عينه رمزاً كيمياوياً كبيراً لمادة كيمياوية معقدة. وتراءت له حلقات البنزين وسلاسلها الجانبية في تلك الخلايا بمثل ما تراءت له في رموز أصباغه، ونحى جانباً أحدث النظريات في علم وظائف الأعضاء، واصطنع لنفسه كيمياء للأجساد غريبة قديمة فجاءت كالثوب ذي الزي العتيق تلبسه في غير عصره. واختصاراً تستطيع أن تصف إرليش بما تحب إلا أنه مطبب عظيم، ولو أنه كان طبيباً فحسب إذن لحقت عليه الخيبة ولمات ذكره. . . . ولكنه لم يمت!

وصاح إرليش: (إن في اعتزامي أن أصبغ الحيوانات وهي حية، ولم لا وكيمياء أجسامها لا تختلف عن كيمياء أصباغي؟ وصبغها وهي حية قمين أن يكشف لي عن كل شيء فيها) وعلى هذا تناول صبغته الحبيبة، وهي أزرق المثلين وحقن قليلاً منها في وريد بأذن أرنب، وتتبع بعينه انسياح الصبغة الزرقاء في دم الأرنب وجسمه فوجدها تمر بكل جزء منه ثم تنقشع فلا يصطبغ بها شيء إلا أطراف الأعصاب الحية. فعند هذه الأطراف وحدها وقفت الصبغة وصبغتها دون سائر ما مرت عليه فكأنما تخيرتها تخيراً! ألا ما أغرب! ألا ما أعجب! ونسى علمه الأصيل برهة، وأغري بالمداواة وازدهته الطبابة لمحة، فقال في نفسه: (ألا من أدراني، فلعل هذه الصبغة الزرقاء تقتل الألم!) وما نطق بهذا حتى صدق نفسه وأخذ يحقن هذه الصبغة في المرضى وهم يتوجعون. ولعل آلامهم خفت بعض الشيء من جراء هذا، ولكنه ما لبث أن اعترضته في سبيل ذلك صعوبات لو تحكى ما خلت حكايتها من المتعة والفكاهة، فأجفل مرضاه من الصبغة؛ ومن ذا الذي يلومهم؟

خاب إذن إرليش فيما اعتزمه إيجاد دواء يقتل الآلام تواً، ولكنه اهتدى إلى تلك الحقيقة الغريبة عن أزرق المثلين: أنه يقع من أنسجة الجسم ومادته الحية على أشتات مئات مختلفات فلا يتعلق إلا بواحدة منها؛ ومن هذه الحقيقة ابتدع فكرة أشبه بالخيال قادته أخيراً إلى اختراع رصاصته المسحورة.

وتحدث في أحلامه قال: (هذه صبغة بين يدي لا تصبغ من أنسجة الحيوان جميعها إلا نسيجاً واحداً. وإذن فلابد من وجود صبغة لا تصبغ من أنسجة الإنسان شيئاً، ولكن مع هذا يكون من شأنها أن تصبغ المكروبات التي تعدو على الإنسان فتقتلها. وعاوده هذا الحلم خمس عشرة سنة أو تزيد قبل أن تتهيأ له الأمور لتجربة الفكرة التي تضمنها

وفي عام 1890 عاد من مصر ولم يكن مات هناك من السل وحقنه كوخ بدوائه الفظيع المزعوم للسل رجاء شفائه، ولكنه لم يمت من هذا أيضاً. ولم يلبث أن بدأ العمل في معهد كوخ ببرلين في تلك الأيام العظمى التي كان فيها بارنج يقتل الخنازير الغينية في سبيل خلاص الأطفال من الدفتريا، وكان فيها كيتا ساتو الياباني يصنع العجاب بالفئران ذوات الكزاز الفكي. دخل إرليش هذا المعهد الذي أثقله الوقار وأناخت عليه الرزانة بكلكلها فكان روحه الحي وفيض حياة ثوارة فيه. وكان له معمل تدخله فلا تكاد تجد سبيلك فيه لشدة امتلائه ولتبعثر الأشياء فيه، تتألق فيه صفوف الزجاجات وتتلألأ وتزهو بالذي فيها من أصباغ كثيرة ضاق وقته عن استعمالها. ويدخل كوخ على تلميذه وهو في هذا الامتلاء وعلى هذا التبعثر ليرى ماذا يصنع، وكوخ ذو سلطان في معهده كسلطان قيصر في دولته. وما كان كوخ يرى في أحلام إرليش عن رصاصته المسحورة إلا أنها بعض أحلام خرفة. أقول يدخل كوخ على إرليش في معمله فيقول: (أي عزيزي إرليش خبرني ما الذي خبرتك به تجارب اليوم). فيأتي الرد من إرليش متدفقاً مضطرباً يفسر هذا ويوضح ذلك في غزارة وتلاحق كأنه عين ماءٍ ثرة تدفعت أمواهها ساخنة إلى السماء. وذات مرة كان إرليش يبحث في الحصانة التي تأتي الفئران ضد السم الكائن في حبوب الششم والخروع إذا هي تعاطته، فلما دخل عليه كوخ فسأله في ذلك تدفع يقول: (إني أستطيع أن أقدر بالضبط مقدار السم الذي يقتل في ثمان وأربعين ساعة فأراً زنته عشرة جرامات. فهذا المقدار دائماً واحد. . . والآن أستطيع أن أخط خطاً بيانياً يرينا كيف تزيد الحصانة في الفأر - إنها تجربة تضارع في دقتها تجارب علم الفيزياء. . . . أملق سيدي سمعك إلي؟ ووجدت أيضاً كيف يقتل السم الفئران. إنه يجبن كرات الدم في شرايينها، وهذا كل تفسيرها. . .) وهو في أثناء ذلك يلوح بأنابيبه الزجاجية وقد امتلأت بدم الفئران المنجمد القاني في وجه رئيسه العظيم مؤكداً له أن مقدار السم الذي جبن هذا الدم هو عينه الذي يكفي لقتل الفأر الذي جاء هذا الدم منه. ولا يلبث كوخ أن يجد نفسه بين أرقام وتجارب تنصب عليه انصباباً فلا يكاد يلاحقها. ثم إذا هو يقول لإرليش

(ولكن مهلاً يا عزيزي إرليش، فإني أكاد أجاريك. أرجوك أن تزيد تفسيرك وضوحاً). فيجيب: (على العين والرأس يا سيدي الدكتور فأنا أعطيك المزيد من ذلك فوراً) ولا ينقطع كلامه برهة، بل هو يختطف قطعة من الطباشير ويرجع على ركبتيه ويخط على أرض المعمل أشكالاً هائلة توضح آراءه. ثم ينظر إلى كوخ فيقول: (والآن يا سيدي أفهمت ما عنيت؟ أواضح تفسيري لك الآن؟)

(يتبع) أحمد زكي