مجلة الرسالة/العدد 200/في الأدب المقارن

مجلة الرسالة/العدد 200/في الأدب المقارن

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 05 - 1937



الوصف

في الأدبين العربي والإنجليزي

للأستاذ فخري أبو السعود

الوصف من صميم الفن ولباب الأدب وأدل ضروب القول على صدق الشعور وذكاء القلب، إذ أن روائع المشاهدات وطرائف المحسوسات وجديد المرئيات من أشد الأمور تأثيراً في نفس الأديب، واستجاشة له إلى التأمل، ودفعاً له إلى القول؛ وليس خير الوصف ما أحاط بكل حقائق الموصوف وأحصى كل دقائق أجزائه، كما تحصي الصورة الشمسية كل صغيرة وكبيرة منن الشيء المصور، وإنما خير الوصف ما أظهر المهم الرائع من أجزاء تلك الصورة، وأبان عن أثرها في النفس، وما تبعثه فيها من ذكريات وأطياف وأشجان وإطراب، وارتحال الأديب من صقع إلى آخر، ومن بلد إلى سواه ومن دواعي لجوئه إلى الوصف، يعرض فيه ما يتوالى على عينيه وحواسه من آثار ومظاهر؛ ومن ثم كانت الرحلة من أهم الأحداث في حياة الأديب بل من أهم مكونات شخصيته.

والوصف من أشد آثار الأدب إمتاعاً للنفس واستدعاء لانتباهها وإرضاء لغرائزها: إذ هو يرضى من الإنسان غريزة التقليد والحكاية لشتى المرئيات والمحسوسات، ويروي منه الميل إلى الإحساس صدى عواطفه لدى الآخرين، فهو يستريح إلى الأديب الذي يصف من المشاهدات ويروي من الاحساسات ما قد يكون القارئ مر به في مختلف أطوار حياته. والوصف أيضاً يحرك الخيال ويمتعه ويفسح له مجال العمل، ويبعد به وراء حدود الحياة اليومية الحاضرة. ومن ثم نرى البيت أو البيتين يعرضان في القصيدة الطويلة مشتملين على وصف رائع لمنظر أو حادث أو إحساس، فيكونان غرة القصيدة وأحب أبياتها إلى النفوس.

ولما كان الوصف ضرباً من القول فنياً صميماً، وكان يحتاج لتجويده إلى إطالة النظر وطول التقصي ورياضة الكلام، وكانت موضوعاته أكثر من أن تعد وأوسع من أن تفنى، كان الوصف يبلغ أوج ازدهاره حين يبلغ الأدب طوره الفني، باستقرار الأمة وتحض مجتمعها وذيوع الثقافة بين أبنائها، واستعمال الكتابة الخطية وتوفر الفراغ للتروي والمعالجة والمعاودة للمنشئات الأدبية فالوصف من أهم أبواب القول التي تتسع وتترقى في طور الأدب الفني ذاك. ومصداق ذلك واضح في الأدب اليوناني قبل ازدهار الحضارة وبعده: ففي أشعار هوميروس لا يأتي الوصف إلا عرضاً ولا يوصف من الأشياء إلا ما دعت إليه الضرورة، وأكثر الاهتمام مصروف إلى القصص؛ فلما جاء شعراء الدراما واستغلوا نفس موضوعات هوميروس أحياناً، وشوها ببديع الأوصاف الفنية المقصودة لذاتها.

وفي الشعر العربي الجاهلي شذرات من الوصف رائعة، إذ كان ذلك الشعر بلغ من الفنية حداً لا باس به؛ وكان لبعض الشعراء إلمام بالموصوفات يبدون فيه ما عرف به العربي من توقد القريحة ونفاذ البديهة وبلاغة الإيجاز؛ ولهم أوصاف حسنة لبعض أنواع الحيوان ولاسيما الجياد والإبل والظباء، وللمواقع والأطلال والأنواء، وفي المعلقات نماذج لكل ذلك ممتعة، حيث يصف كل من عنترة وامرئ القيس جواده ويصف لبيد ناقته، ويصفون جميعاً أطلال ديار أحبتهم

ومن أجود أوصاف الحرب في الشعر الجاهلي قول القائل:

صريف أنيابها صوتت الحديد إذا ... قض الحديد بها أبناؤها الوقر

في جوها البيض والماذي مختلط ... والجرد والمرد والخطية السمر

جاءت بكل كمي معلم ذكر ... في كفه ذكر يسعى به ذكر

لهم سرابيل من ماء الحديد ومن ... نضح الدماء سرابيل لهم أخر

مضاعفات عليهم يوم بأسهم ... لونان جون وأخرى فوقهم حمر

وبانتشار الحضارة وذيوع الثقافة اتسع باب الوصف في العربية أعظم اتساع، ووصف الشعراء مظاهر العمران والترف وقصور الملوك ومواكبهم وحدائقهم وجيوشهم وسفائنهم، ووصفوا الخمر ومجالس الشرب والطرب، ووصفوا الجواري والغلمان، ووصفوا الصيد والسباق، وأولع الجاحظ وبديع الزمان بوصف الأحوال الاجتماعية، فصورا مناظر في الحمام وفي السوق ومواقف التخاصم والتقاضي، وأجريا الحوار بين شتى الأشخاص عالهم وسافلهم. وأشتهر أبو نواس بوصف الخمر، والبحتري بوصف القصور، والمتنبي بوصف الحروب، وابن الرومي بوصف الفواكه والمآكل وتصوير الشخصيات الهزلية

ولما تغلبت الصناعة وطلبت البراعة اللفظية والنكتة المعنوية والتأنق والتظرف، انعدم الحس أو كاد في الوصف، وتعلق الأدباء بوصف توافه الأشياء كالمحبرة أو الإسطرلاب أو القلم أو الكأس، أو ما شابه ذلك مما هو في غنى عن الوصف، وما وصفه إلا تحصيل حاصل وإضاعة وقت، فإن الأصل في الوصف الفني كما تقدم أن يكون له باعث من شعور صميم، لا أن يكون الغرض منه حكاية تفاصيل باردة فاترة. وقد أولع بذلك الضرب من الوصف النظري ابن المعتز وابن خفاجة وكشاجم؛ فلما أوغل الأدب في التصنع وجانب الأدباء كل ذوق وكل معقول في التعمل والأغراب، انقلب الوصف في أيدي أكثرهم ألغازاً، فألغزوا في أنواع المآكل والأسماء والآلات، وبأمثلة هذا الضرب من الأحاجي السقيمة تمتلئ مقامات الحريري وأشعار ابن نباتة المصري وأضرابه

والأدب الإنجليزي حافل منظومه ومنشوره بمحاسن الأوصاف؛ بيد أن باب الوصف فيه مخالف للوصف في الأدب العربي من وجوه شتى: فهما مختلفان في الموضوعات التي اتخذها كل منهما مادة وأدمن طروقها؛ فقد تناول الأدب العربي - كما تقدم - وصف أنواع من الحيوان، ووصف مظاهر اللهو والرفاهية، وتناول بعد ذلك قليلاً من وصف الطبيعة والمجتمع؛ أما الأدب الإنجليزي فهو أحفل بوصف هذين الأخيرين منه بوصف أي شيء آخر، فالطبيعة كانت قبلة أكبر شعرائه وكتابه وشغلهم الشاغل، ووصفها كان دأبهم أياً طرقوا من موضوعات القول، فامتلأ الأدب الإنجليزي بكنوز من أوصاف الطبيعة، تكاثر ما قيل في أي باب آخر من أبواب الشعر والنثر؛ فالوصف الطبيعي مادة جانب عظيم من الشعر الإنجليزي، كما إن الوصف الاجتماعي مادة جانب عظيم من القصص والدرامات

وفي الأدب الإنجليزي ضرب آخر من الوصف يستأثر به دون الأدب العربي، على إنه من صميم الفن وأعلق نواحيه بالإنسانية الشاملة والشعور العميق، ذلك هو وصف آثار الأقدمين من عمائر وحصون وتماثيل وصور وأبناء وعظائم، ففي ذلك كله منادح للخيال ومجال للابتداع ومذاهب للفكر، وتأملات في أحوال الإنسان وتقلب العصور والأحداث، وتعظيم لقدرة الإنسان وتقدير للفنون، وكل ذلك يكاد يكون معدوماً في الأدب العربي، والمثل الرائع الفريد في هذا الباب هو سينية البحتري التي لو كثرت مثيلاتها في الأدب العربي لكان أرفع قدراً، وكان أعلامه أسير في العالمين ذكراً

ولم يقتصر أدباء الإنجليزية على آثار التاريخ يستوحونها ما فيها من منادح الوصف الشائق والتصوير المجسم، بل عمدوا إلى الخرافة ولعلها أحفل بذلك من التاريخ، إذ كانت أحفل منه بآثار الخيال وأحلام الإنسانية ومثلها العليا في القوة والجمال والسعادة، فاتخذ الشعراء والقصاصون تلك الخرافات مادة وهيكلا لمنشآتهم، ورصعوها بما شاءت لهم براعتهم من أوصاف ووجدوا في أشعار هوميروس وفرجيل وقصص العصور الوسطى وأساطير الشرق والغرب مجالاً لفنهم، فأعادوا سرد ما راعهم من حوادثها ومواقفها سرداً فنياً مسهب الوصف مشبعاً بجميل المناظر والعواطف.

وكما يختلف الوصف في الإنجليزية عنه في العربية في الموضوع اختلافاً كبيراً، يخلفه في الوسيلة مخالفة معدودة، ففي العربية أوصاف بالغة من الكمال والإمتاع، بيد أنها جميعاً تعتمد على المعنى دون اللفظ، وعلى التشبيهات والمجازات، وتحتوي على كأن أو كاف التشبيه ظاهرة أو مستترة، أما في الإنجليزية فيستعين الشعراء بجنب هاتيك جميعاً على وسيلة أخرى، ليست أقل أداء للغرض وتصويراً للمنظر وإشباعاً للخيال والحواس، تلك هي الملاءمة بين صوت اللفظ وبين المعنى المصوغ فيه

وهذه الطريقة التي يلجأ إليها الإنسان عمداً وعن وعي في طور الأدب الفني، قد لجأ إليها في عهوده البدائية، أيام كان يصوغ ألفاظ لغته ويطلق كلاً منها على كائن من الكائنات، أو صوت من الأصوات، أو عمل من الأعمال، أو غير ذلك. فألفاظ الرشاش والشواظ والسلسبيل والسكون وغيرها، تدل بنطقها على مدلولها لأن الأقدمين إنما اشتقوها من هيئة مدلولاتها، فعلوا ذلك عفواً وبداهة، حتى إذا ما بلغ الأدب الطور الفني واستعان الشعراء والكتاب بالتدوين وأطالوا التجويد لما ينشئون استرعت الألفاظ انتباههم بعد أن كان جل اهتمامهم موجهاً إلى المعاني؛ وعند هذا الحد من التطور افترق الأدبان العربي والإنجليزي في طريقة استخدام الألفاظ. فأما الأدب العربي فجعل اللفظ غاية في ذاته، وجعل التأنق فيه مطمحاً مستقلاً، وأما الأدب الإنجليزي فعالج اللفظ وراضه وتأنق في صياغته، ولكن لا على أنه غاية في نفسه، بل على أنه وسيلة للمعنى لا أكثر

فإذا كان في المنظر المراد تصويره حركة كجريان نهر أو عدو جواد، استخدم الشاعر الإنجليزي بحراً من بحور الشعر يلائم تلك الحركة، وإذا كان به صوت أو أصوات مختلطة كهدير الأمواج أو قصف المدافع، اختار من الألفاظ تلك التي تحتوي على حروف خشنة قوية، وإذا كان يصف منظراً ساكناً وادعاً لم يذكر ذلك في القصيدة ذكراً، وإنما استعمل الألفاظ ذات الحروف اللينة كالسين مثلاً، وهناك عدا هذا وذاك ضروب شتى من الملاءمة بين الصيغة والمعنى يفتن فيها الشاعر الوصاف ما شاء له فنه، ككثرة العطف أو القطع، وتكرار الحروف أو الكلمات أو التراكيب أو الشطور أو الأبيات الكاملة. وقد اشتهر بالتفنن في هذا التصوير اللفظي تنيسون وسبنسر وملتون، بل سائر أقطاب الشعر الإنجليزي، بل جاراهم في ذلك بعض الكتاب مثل ستيفنسن

وقد وقع شيء من ذلك في بعض أشعار الوصف في العربية، ولكنه كان إلهاماً محضاً أو اتفاقاً عارضاً ساقت الشاعر إليه الصدفة السعيدة أو السليقة المجيدة، دون أن يتعمده عن وعي أو يتكلف فيه عناء كالذي تكلفه في استخراج ما به من تشبيه ومجاز. ويتجلى الفرق بين الأدبين في هذا الصدد في علم البديع فيهما: فالبديع في العربية يشمل الجناس والسجع وهلم جرا، وهي محسنات للفظ مستقلاً بنفسه وليست لها علاقة بالمعنى، أما علم البديع في الإنجليزية فيشمل الملاءمة بين جرس الألفاظ وبين المعاني التي تؤديها، ويشمل تشابه الحروف الأولى في جميع ألفاظ الجملة الواحدة لأداء المعنى بطريق الجرس أيضاً، وغير ذلك من حيل بلاغية ليست لها مصطلحات تترجم إليها في العربية، لأنها لم تكن من مألوف أدبائها

واللغة العربية بغزارة مادتها وتلاطم عبابها وتعدد أوزانها وقوافيها، وجمعها بين وعر الألفاظ ولينها، ودقيق الأوصاف وجليلها، وما لها من مرونة في التراكيب ورحب في الأساليب ومطاوعة لفن الأديب، هي خير معوان له على إبراز شتى الصور من جرس الحروف وتتابع الألفاظ وتجاوز التراكب، وتدفع الأوزان ورنين القوافي. انظر إلى الوزن كيف ساعد على إبراز المعنى في قول بشار في صوت مغنية:

تميت به أرواحنا وقلوبنا ... مراراً وتحييهن بعد هجود

وقول ابن المعتز في خيل السباق:

خرجن وبعضهن قريب بعض ... سوى فوت العذار أو العنان ترى ذا السبق والمسبوق منها ... كما بسطت أناملها اليدان

ساعدت السليقة المواتية أو الجد الموفق بشارا، فجاء بيته ذاك ببحره الطويل وحروف اللين المتتالية الوئيدة الحركة في (تميت) و (أرواحنا) و (قلوبنا) و (مراراً) و (تحبيهن) و (هجود) أصدق مصور لصوت المغنية إذا هي مددته وخالفت بين المدات فيه والقصرات، ويبدو ذلك جلياً إذا قرء البيت على مهل. كذلك حالف التوفيق ابن المعتز فاختار لبيتيه البحر الوافر المتدفق تدفق الخيل في مجالها، وحالفه التوفيق مرة أخرى فذكر العذار والعنان، وفضلاً عن تتابع هذين اللفظين مما يزيد الحركة جلاء فإن ذكرهما مما يزيد الصورة تجسماً، فإن ذكر جزء من الصورة دون بقية الأجزاء كثيراً ما يزيد الصورة وضوحاً، ويبعث من تلقاء نفسه باقي الأجزاء إلى الخيال. ولذلك مثال آخر في قول جميل:

ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح

فذكر الأعناق هنا بلاغة فائقة، فهو يستسيغ إلى المخيلة منظر الإبل والأباطح والركب، ويرسم حركة المطي معا. ومما يزيد الحركة تصويراً اختيار الشاعر البحر الطويل البطيء النغم. وهناك وسائل أخرى لتجسيم الحركة البطيئة، منها كثرة العطف ففيها دلالة على التطاول والتواني، ومنها كثرة الألفاظ القصيرة فإنها تستغرق نفس القارئ حتى يكاد يلهث بعد قراءتها، ومن ثم يشعر بالبطء في المعنى تبعاً للبطء في اللفظ. ومثال الوسيلة الأولى قول امرئ القيس في تتطاول الليل

فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل

ومثال الثانية قول المتنبي:

خميس بشرق الأرض والغرب زحفه ... وفي أذن الجوزاء منه زمازم

فقد احتوى بيت امرئ القيس على ثلاث جمل معطوفة، واحتوت الشطرة الأولى من بيت المتنبي على خمس كلمات كلها قصير، إذا قرأها القارئ متروياً جاءت بطيئة مشعرة ببطء الجيش أو موحية بضخامته، فلم يذكر المتنبي صراحة ومباشرة أن الجيش كان (ضخماً) فيعتمد على المعنى وحده في إعطائنا الصورة، بل أوحى إلينا بمعنى الفخامة بوساطة كلمات الشرق والغرب والزحف، ولا علاقة لهذه الكلمات في غير هذا البيت بالضخامة قط، وبذلك استخدم المتنبي اللفظ ونطقه لأداء المعنى وهي هي الوسيلة التي استغلها أدباء الإنجليزية قصداً وعمداً أكبر استغلال وأبدعه. أما الحركة السريعة فيؤديها البحر الكامل المتدفع، وهو لذلك خير ما يصور فيه عدو الجياد، كما في قول المتنبي

أقبلت تبسم والجياد عوابس ... يخبن بالحلق المضاعف والقنا

وقول ابن هانئ الأندلسي:

وفوارس لا الهضب يوم مغارها ... هضب ولا الوعر الحزون حزون

ففي هذين البيتين تصوير رائع لعدو الخيل. وقد ساعد التوفيق الشاعرين في ألفاظهما بجانب الوزن الذي اختاراه، فتكرار حرف الباء في بيت أبي الطيب مما يزيد وقع حوافر الخيل في بيته جلبة ووضوحاً، وتكرار كلمتي الهضب والحزون في بيت ابن هانئ يوحي إلى المخيلة تتابع الهضاب والروابي أثناء عدو الفوارس، حتى يكاد يتخيل الإنسان سيقان الخيل وهي تنهب تتلك الحزون وتقفز من ربوة إلى ربوة. ويكاد البيت يعرض أمامك شريطاً سينمائياً متحركاً، ومتى بلغ الشاعر هذا المدى من دقة التصوير وروعته، فقد أوفى على الغاية من الفن والشاعرية، كذلك نرى الوزن واللفظ قد اصطلحا على إبراز المعاني في قول مسلم بن الوليد في مفازة:

تمشي الرياح بها حيرى مولّهة ... حسرى تلوذ بأطراف الجلاميد

وقول ابن حمديس:

وراقصة لقطت رجلها ... حساب يد نقرت طارها

وقول المتنبي:

في سعة الخافقين مضطرب ... وفي بلاد من أختها بدل

ففي بيت مسلم تكاد تحس الرياح المحرقة تلفح وجوهنا ونتمثلها تضرب جوانب الصخور؛ وفي بيت الصقلي تتمثل حركة الراقصة السريعة الخاطفة؛ وفي البيت الثالث تتمثل المتنبي على ظهر ناقته وهي تخالف بين أظلافها ممعنة في الذهاب. لما يمتاز به بحر المنسرح من اضطراب الحركة واندفاعها، على حين يمتاز بحر الخفيف بالتؤدة وزنة الحزن، مما يجعله أليق البحور بالمرائي والوجدانيات، وهو من أهم أسباب سيماء الوقار والشجن التي تتسم بها دالية المعري المشهورة التي مطلعها: غير مجد في ملتي واعتقادي ... نوح باك ولا ترنم شاد

وصفوة القول أن الأدبين العربي والإنجليزي قد احتويا على بدائع من الوصف، هي غذاء اللب ومتاع الخيال؛ بيد إن آثارها في الأدب الإنجليزي أغزر، ونواحيها أكثر تعدداً، ونصيب الطبيعة منها أوفر، ووسائلها أكثر عدداً واختلافاً، وأدباء الإنجليزية كانوا أكثر بصراً بها وأطول رياضة لها، وكان نجاحهم فيها راجعاً إلى المجهود المتبصر الواعي، بجانب الطبع الصادق المواتي على حين كان نجاح أدباء العربية الذي مرت بعض أمثلته راجعاً في أكثر الأحيان إلى عفو الخاطر وهداية البديهة، وما ذاك إلا لأن أدباء الإنجليزية كانوا أكثر عكوفاً على فنهم، وتفرغاً لأدبهم، على حين كان أدباء العربية يولون الأمراء وذوي الهبات من اهتمامهم وتفرغهم ما كان فنهم به أحق، وشاعريتهم به أولى

فخري أبو السعود