مجلة الرسالة/العدد 201/بعد مؤتمر الامتيازات

مجلة الرسالة/العدد 201/بعد مؤتمر الامتيازات

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 05 - 1937


الآن يبدأ الاستقلال!

كان يوم السبت أول أمس آخر أيام المؤتمر، فغابت في أقصى الحلوق الألسنةُ التي كانت تجادل وتقاتل للمنفعة، وانبسطت من القلوب ألسنة معسولة كانت تجامل وتدامل للعاطفة. وجدوى المدنية على الإنسان، أنها خلقت له لسانا مع اللسان، إذا جرح هذا، لعق دم جرحه ذاك. وجملة القول في المؤتمر أنه ألغى الامتيازات إلا ذيلا سينسحب في ردهات المحاكم المختلطة اثني عشر عاماً ثم ينقطع. ومصر التي كابدت رهق هذا النظام المهين في الأعمال والأموال والأنفس، تدرك أن هذا الاتفاق المدني مع الدول الممتازة، أبلغ شانا وأبعد مدى من ذلك الاتفاق العسكري مع الدولة المحتلة؛ فإن الاحتلال الإنجليزي كان محصوراً في ثكنتين وقلعة، يطل من نوافذها الضيقة إطلال المتقحم الغاصب، فلا يرى إلا النظر الشزر، ولا يسمع غير الهتاف العدو؛ وكان وجوده الباطل تحدياً لرجولة الشعب فتيقظت فيه عواطف الوطنية والقومية والحرية، فدافع بمواهبه حتى نضجت فيه الكفاية، وضحى بدمائه حتى نبغت فيه البطولة. وأما الاحتلال الدولي فقد كان معتمداً على اتفاقات موروثة ومساومات مكتوبة وامتيازات مكتسبة، فتدخل في كل عمل، وتغلغل في كل مكان. وأخذ على الأهلين سبل العيش وموارد الرزق فتعطلت في نفوسهم الملكات المنشئة، وسكنت في رءوسهم النوازي الحافزة، ورضوا من بلادهم بالنصيب الأخس ضراعة وذلة؛ وكان نظام الامتيازات الذي استتبع هذا التفاوت في نظام الحياة، إيحاء ملحاً بأننا دون الأجنبي في القوة والقدرة والخلق، فخضعنا خضوع التابع، وقنعنا قنوع المحروم، وتأخرنا في ميدان الاقتصاد بقدر ما تقدمنا في ميدان السياسة. فإذا أنقذ الوفد بهذا الاتفاق كرامتنا من الذل، وسيادتنا من العجز، وثروتنا من الغبن، واستقلالنا من النقص، كنا أحرياء بأن نفخر بسمائنا التي لا تعبس، وبأرضنا التي لا تيبس، وبنيلنا الذي لا يُحلف

الآن يبدأ الاستقلال؛ لأن الاستقلال الصحيح أن تقول صادقاً في وطنك: أنا السيد؛ وفي محكمتك: أنا القاضي؛ وفي أرضك: أنا المستغل؛ وفي مالك: أنا المتصرف. على أن (بَدَأَ) ليس معناها (تم)؛ وتسجيل الاستقلال عمل من أعمال الحكومة، ولكن تثبيته عبء من أعباء الشعب؛ وإذا كان المدافع عن جهته السياسية جنود الدولة، فإن المدافع عن جهاته الأخرى شباب الأمة. هذه مياديننا الحيوية تعج بالجيوش الغربية، ليس لنا من بينها جندي ولا قائد، وليس لنا من ورائها فخر ولا مغنم إنما يتنافسون ونحن الخصوم ويتقاتلون ونحن القتلى. فمن الذي يحتل هذه الميادين المغصوبة، ويغزو هذه الجيوش الغاصبة؟ وهذه طبقاتنا العاملة تفتك بنشاطها الفطري جراثيم الجهل والفقر والمرض؛ فمن الذي ينبه عقولها بالعلم، ويشد أيديها بالمال، ويمسح على أبدانها بالعافية؟ الشباب هم الجواب عن هذين السؤالين وعن غيرهما من كل ما يخطر بالبال من مسائل الاستقلال ومشاكل البلد

ستقرأ في (رسالة الشباب) من هذا العدد كلمة لشاب كريم يقترح فيها على إخوانه التجنيد المدني لزحف اجتماعي عام يهاجم عوامل الضعف في العلم والأدب والسياسة والاقتصاد والأخلاق والنظم، وجعل لهذه الغزوات الأدبية خمسة أعوام تحشد فيها الجنود وتنصب القادة وتوضع الخطط وتوزع الفرق وتعين الميادين ويتم النصر، وليس أجدى ولا أجدر في الحال التي نحن فيها من هذه الفكرة. فقد وقفنا طويلا نقنع المكابرين أننا أمة لها وجود مستقل، ودولة لها سلطان سيد، فجر علينا هذا الوقوف أن تخلفنا عن الأشباه تخلفا لا يسوغه مجد الماضي ولا طموح الحاضر. فسبيلنا إلى اللحاق أن نتهالك في السير لا نتراخى ولا نتريث، نبصر هدانا على رأى الشيوخ، ونحمل ضعفنا على قوة الشباب، ونستمد حوافزنا من الذكرى، ونرسل مطامعنا مع الأمل.

هذا الاقتراح طبيعي تقتضيه الحال بعد أن فرغنا من الإنجليز بمعاهدة الزعفران، ومن الدول باتفاق مونترو، فلم يبق ما يشغل الرءوس والأيدي إلا أمورنا الداخلية، ومشاكلنا الاجتماعية. فكيف السبيل إلى تحقيق هذا المقترح؟ أنكتفي بجهاد الطلاب من الشباب في أوقات الفراغ وأيام العطلة، يزورون المدن ويرودون القرى فيثقفون العامل ويعلمون الفلاح وينفثون من روحهم الوثابة حياة في النفوس، وصحة في الجسوم ويقظة في المدارك؟ أم نؤلف فرقا دائمة من الشباب المتخرج يكون فيها المعلم والطبيب والمهندس والزراعي والواعظ، فيسيرون بعتادهم وخيامهم (روادا) يغشون القرية بعد القرية، يدرسون أحوالها، ويكشفون أدواءها، ويعالجون كل شيء بما يساعد على صلاحه، أو يعين على نجاحه؟ أم نعبئ جيشاً سلمياً نظامياً من المتعلمين المتعطلين نُعدهم إعداداً خاصا للدعاية والإرشاد والدفاع، ونمدهم بالكفاف من المال، ونجعل بعضهم مع الزراع، وبعضهم مع العمال، وبعضهم مع الطلبة، يروضون جسومهم على الدفاع المنظم، ونفوسهم على الخلق الصالح، وأيديهم على الإنتاج الصحيح؟ ثم ماذا تكون صلة هذه الفرق بالحكومة والأمة؟ لمن القيادة؟ على من النفقة؟ أللحكومة؟ أعلى الأمة؟ أم لهما وعليهما معا؟

ذلك اقتراح جدير بأن يقسَّم فيه الرأي ويُحكم له التدبير؛ وقد عرضه صاحبه هناك وعرضناه نحن هنا لنستعين على تمحيصه بأقطاب الرأي، وعلى تنفيذه بأرباب العزيمة.

أحمد حسَن الزيات