مجلة الرسالة/العدد 201/في تبويب الكتب

مجلة الرسالة/العدد 201/في تبويب الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 05 - 1937



للدكتور محمد عوض محمد

لقد تجري في حياتنا الأدبية الهادئة حادثات ونوادر طريفة تستحق أن تُسَّجلَ وتُثْبتَ؛ ومن ذلك هذه الرسالة التي كتبها صديقنا الأديب إسماعيل بن زيد إلى صديقه الفاضل الأستاذ طه حسين، مُستفَتْيِاً ومداعباً

وصاحبنا إسماعيل يزعم أنه قد تكدست لديه المؤلفات القيمة، ولكنه لا يعرف كيف يقسم كتبه إلى أبواب وفصول، ولذلك لم يستطع نشر شيء من مؤلفاته إلى اليوم. وهو يزعم في هذا أن عناء التأليف والتصنيف ليس بشيء يذكر إلى جانب عناء التبويب والتفصيل.

فلم يكد يطالع في كتاب للأستاذ حسن إبراهيم حسن قِطعةٌ يصف فيها الأستاذ طه حسين بأنه (لا يشق له غُبار في تبويب الكتب) حتى تناول قلمه الرشيق، وأرسل إليه هذا الكتاب، الذي عثرنا عليه بمحض الصدفة، والذي نثبته هاهنا بنصه وفصه:

استفتاء

إلى العميد العظيم طه بن حسين!

نَعِمَ صباحُك أيها العميد!

وبعد فإني أريد أن أستفَتْيِكَ في أمر شهد لك فيه صديقنا حسن إبراهيم حسن بالتقدم والبراعة، حيث قال في غير موضع من رسائله الممتعة إنك لا يشق لك غبار في تبويب الكتب

ولدي أيها العميد العزيز رسائل عديدة في موضوعات جليلة، حرت في أمري وفي أمرها: كيف أجعل لها أبواباً ونوافذ وشبابيك. . . وهي رسائل - وحقك - ذات خطر عظيم وشأن جليل؛ أريد أن أتقدم بها إلى بعض معاهد العلم لكي أحصل بها على ألقاب فخمة، وأسماء ضخمة. .

وما خيرُ حياة، يعيش صاحبها من غير ألقاب ولا أسماء؟ ولقد حدثني من أثق بشهادته أن الألقاب أعظم شيء في الحياة، وأنه أفضل لابن آدم أن يكون له لقب، من أن يكون له أدب. وأن يكون له اسم، من أن يكون له جسم. والألقاب مثلها كمثل الأثواب تستر الهنات، وتكسب الفخامة والجلال.

ألا ترى أن الكُرُنب وهو نبت قليل الخطر، حقير الجوهر، قد سما على سائر النبات، وشمخ بأنفه، ومال بأعطافه؛ وليس له من فضيلة يُدِلّ بها سوى أنه يتألف من ثياب بعضها فوق بعض، فإذا نزعت عنه ثيابه لم تجده شيئاً.

ومثل هذا يقال في الخس والجرجير، وهما الغذاء الأساسي لكبار الكتاب والشعراء. . .

صدقني، أيها العميد! إن الثياب والألقاب هي كل شيء في الحياة.

والآن لابد لك - إن كنت ترعى للمودة حرمة، وتستجيب لداعي الإخاء والصداقة - أن تُفْتِيني كيف أرتب الأبواب لهذه الأسفار التي أريد أن أتقدم بها إلى رجال العلم، إن كنت حقاً لا يشق لك غبار في تبويب الرسائل والأسفار.

فأما الرسالة الأولى فهي (في صيد الضفادع: كيف يكون ومتى يكون) فقد حرْت كيف أبوّب هذه الرسالة. هل يكون الباب الأول منها في الضفادع أم في الصيد. . وقد تراءى لي أن أتحدث عن هذه الكائنات العزيزة؟ هل هي من حيوان البر أم من حيوان الماء؟ وهل نقيقها خارج من الحنجرة والبلعوم أم من الحلق والخياشيم؟ وهل هي أسرع حين تسبح في الماء، أو حين تثب على أديم الغبراء؟ وهل غذاؤها الطحلب الحامض أم الحلو؟ والعشب اليابس أم الطري؟ وهل أرجلها أطيب في المأكل أم أيديها؟ وهل يُمَهَّدُ لصيدها بأناشيد وأغانٍ غربيَّة على طريقة شوبرت، أم بأناشيد شرقية مثل نغمات معبد في الثقيل الأول على مدار البنصر؟ وهل تستطيع ضفدعة أن تسبح في الماء إذا استلقت على ظهرها من شدة الضحك مثلا؟ فإن كانت عاجزة عن السباحة وهي في هذه الحال. جاز لنا أن نفكر جدياً في صيدها وهي تضحك حين نتلو عليها رسالة للجاحظ، أو قطعة لموليير.

كذلك يجب أن تفهمني في أي بابٍ أضع ما كان بين الضفادع ومسيلمة الكذاب، وهل انخدعت بأكاذيبه كما ينخدع الناس بأحاديث الكذابين في كل مكان وزمن. ومتى كانت الضفادع ممن يؤخذ بالأكاذيب؟ فهل يجوز استخدام هذه الحيلة في صيدهن والاستيلاء عليهن؛ أم تلك خدعة لا تليق بالصياد الشريف والباحث العفيف؟

فهلم يا مُبَوِّبَ الكتب! ضع أبوابا ونوافذ ودهاليز لهذه الرسالة ولا تبطئ علي فإني مستعجل.

أما الرسالة الثانية فموضوعها (تعليم الجراد مبادئ الفلسفة) فقد أنبأنا عالم فاضل أن هذه خير وسيلة لتحويل الجراد عن حياة النهب والسلب، إلى حياة الشرف والاستقامة. . وتحولُ عقبات كثيرة دون تثقيف الجراد بهذه الثقافة الفلسفية المنشودة، ذلك أن الجراد لا يستقر لحظة في مكان، فلا تكاد تتحدث إليه عن أفلاطون وتأخذ في شرح القواعد التي تقوم عليها جمهوريته، حتى تستهويه سنبلةُ قمح أو كوز من الذرة، فيتركك في فلسفتك العلوية وينطلق إلى عالمه السفلي. ولقد تظن أنه سيقف على كوز الذرة زمناً طويلاً يمكِّنك من أن تشرح له كتاب الأخلاق لأرسطو، لكنك لا تكاد تفرغ من الفقرة الأولى من الفصل الأول حتى يكون المجرم قد سئم الكوز الأول، ووثب يلتمس كوزا سواه.

غير أن العالِم الجرادي الألماني ميلر قام بعدة تجارب تدل على أن في الجراد ميلا إلى فلسفة ماكيافلي ونيتشه، ولابد من أن نفرد باباً خاصاً لتحقيق هذا الأمر.

وهناك عقبة أخرى تجعل من الصعب إدخال الفلسفة في رأس الجراد، ذلك أنني قد كشفت في ساعة من ساعات الإلهام أن الجراد لا يفهم بعقله، بل بفمه وبطنه. فهل الفلسفة من المواد التي يمكن استيعابها عن طريق البطن والمعدة؟ هذا أيضا باب مهم أرجو أن تفتيني في أي جزء من الكتاب أجعله، وأي الأقسام تليق به ويليق بها، ولابد كذلك من بحث عميق في عادة النهب والسلب عند الجراد: هل ترجع إلى البيئة، أو ترجع إلى الوراثة والغريزة؟ فإن كانت أصيلة في النفس، مغروسة في الطبع، فبأي الوسائل نحتال إلى إدخال الفلسفة في نفوس طبعت على الانتهاب والاختطاف؟

هلم أيها العميد وشمر عن ساعد التبويب، ولا تدعني في حيرتي طويلا!

أما الرسالة الثالثة فهي: (في استخراج أشعة الشمس من قشر الخيار). وهذا موضوع قد أشار إليه الأستاذ (سويفت) ولكنه قصر في متابعته واستقصائه. وفي نظري قد آن لهذا الموضوع أن يقتل بحثا وتمحيصا، حتى لو استنفدنا في سبيل ذلك كل ما في الأرض من خِيارٍ وِقثّاء.

إن أشعة الشمس ضرورية للإنسان والحيوان على السواء؛ فقد حدثنا من نثق بعلمه أن القليل منها إذا أخذ في فنجال على الريق كل صباح يشفي من الأمراض، ويحدث في البليد ذكاء وفي الغبيِّ فَهْما؛ وناهيك بما في هذا من فائدة في زمان ضعفت فيه الأحلام، وصغرت فيه الأفهام. ولئن اعترض معترض بأن هذا الموضوع لا يهمنا لأن بلادنا غنية بأشعتها، فليس في هذا وجاهة؛ لأن الباحث لا يختص ببحثه أرضا ولا بلداً؛ وفي العالم أقطار كثيرة قد حرمت هذه النعمة، ولابد من تزويدها بأشعة مستخرجة من قشر الخيار، ومع هذا فإن هنالك شكا كبيراً في أن الأشعة التي تتأثر بها وتتعرض لها هاهنا، هي من ذلك النوع الخياري الممتاز، وإلا لما انتشرت البلادة في وادي النيل السعيد كل هذا الانتشار. فلقد بات من الثابت المعلوم أن للخيار مقدرة فذة يمتاز بها على سائر الكائنات في استخلاص الأشعة النقية - فوق البنفسجية وتحتها - وتثبيتها في ثنايا قشوره

هذا بحث طويل عريض عميق أرجو أن تسلط عليه غبارك الذي لا يشق، من أجل تبويبه وتفصيله وترتيبه.

بقي البحث الرابع الذي أرجو أن يكون شهياً مُمتعا، وهو (في أثر الموسيقى في طول الأنف وعرضه وارتفاعه) فقد تعلم غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر أن الأنف أشرف الأعضاء وأمثلها، وأن العرب كانت لا تجد مدحا أسمى ولا شرفا أعلى من أن يكون الرجل أشمَّ العِرْنين، ولم تنحط الزَّنج عن سائر الشعوب والأجيال، ولم يستعبدهم الناس استبعادا إلا لما في أنفهم من الفطس. والذين زعموا أن فطس الأنف عند الزنج راجع إلى بيئتهم لم يأتوا بشيء؛ والصحيح عندنا أن هذا راجع إلى موسيقاهم وغنائهم المنحرف كما وصفه ابن خلدون. ودليلنا في هذا محسوس وملموس، ذلك أن الشعوب المتمدنة من أهل أوربا وأمريكا، منذ اتخذوا موسيقى الزنج للهوهم ورقصهم قد استعرضت أنوفهم، واستولى عليها الفطس، كأنما القوم يجلسون على أنوفهم إذا جلسوا لا على مقاعدهم. وقد قام بعض الباحثين المحققين بقياس سعة الأنف وارتفاعه، فبدا له انخفاض محسوس في الأنوف اليوم، بالنسبة لما كانت عليه في أواخر القرن الماضي وخرج من هذا البحث إلى نظريته المعروفة بأن العالم سائر كله إلى الفَطَس، وأن الكبرياء والشمم محكوم عليهما بالفناء وهو يزعم في هذا كله أنه راجع إلى كثرة البُقع في وجه الشمس؛ وهو في تعليله هذا جدُّ واهم، والصواب ما ذكرناه من أن هذه الظاهرة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بانتشار موسيقى الزنج والإقبال الشديد عليها.

كذلك أخطأ نهج الصواب ولم يوفق في بحثه ذلك العالم الذي أرجع هذه الظاهرة إلى انتشار عادة الحكِّ على المناخير التي كانت سائدة أيام الحرب الكبرى وما بعدها، فقد ثبت انتشار هذه العادة في أزمنة أخرى مثل عصر نابليون، فلم يكن لها في المناخير تأثير يذكر.

والراجح ما ذكرناه من اتصال هذا بالموسيقى. والله سبحانه وتعالى أعلم.

والبحث في هذا الموضوع متشعب الفروع والغصون، متعدد المخارج والمداخل، وأريد منك أن تبوِّبه تبويباً يلُمُّ شعثه، ويجمع بين شوارده ونوافره؛ ويجب أن يكون تبويباً مَرِناً نستطيع أن ندخل فيه أية دراسة أنفية جديدة قد تبدو لنا في أثناء التأليف والتصنيف

هذا بعض ما لدينا من الرسائل التي نرغب منك أن تساعدنا في تبويبها. فهلم أيها العميد، واجلس في كرسيك المعهود، ممسكا في يمينك سُبحْتك التي تستعين بها على التسبيح، وربما كانت لك فيها مآرب أخرى - وممسكاً في يسارك سيجارة تبعث الوحي وتفتح أبواب التبويب.

فان فعلت أسديت إلى البحث العلمي يداً يعمل بها ورجلاً يمشي عليها. هداك الله إلى محجة الصواب، وإليه المرجع والمآب

أخوك المخلص: إسماعيل بن زيد

طبق الأصل

محمد عوض محمد