مجلة الرسالة/العدد 202/في التاريخ السياسي

مجلة الرسالة/العدد 202/في التاريخ السياسي

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 05 - 1937



مصر والامتيازات الأجنبية

كيف ألغيت الامتيازات في مونترو بعد أربع قرون على قيامها

لباحث دبلوماسي كبير

انتهت المفاوضات التي تجري بين الحكومة المصرية وبين الدول منذ الثاني عشر من شهر أبريل في مونترو - في مسألة إلغاء الامتيازات الأجنبية بعقد اتفاق جديد بين مصر والدول حققت فيه مصر أمنيتها الكبرى، وهي إلغاء الامتيازات الأجنبية.

والامتيازات الأجنبية التي وفقت مصر إلى إلغائها في مونترو هي من تراث الدولة العثمانية الذاهبة، وترجع إلى أوائل القرن السادس عشر، حينما بدأ السلطان سليمان بعقد معاهدة مع فرانسوا الأول ملك فرنسا، منحت فيها للرعايا الفرنسيين الذين يقيمون في أراضي الدولة حقوقاً ومزايا خاصة؛ واستطاعت معظم الدول الأوربية بعد ذلك أن تحصل تباعا من سلاطين تركيا على منح مماثلة لرعاياها؛ ولم يأت القرن الثامن عشر حتى كانت هذه الامتيازات التي اتخذ منحها في البداية صورة التفضل والمنحة الاختيارية قد غدت بالنسبة للأجانب حقوقاً مكتسبة تغل سلطة الباب العالي نحو الأجانب في كثير من الشؤون المالية والقضائية

ولما كانت مصر بحكم خضوعها للدولة العثمانية في تلك العصور تخضع لنظام الامتيازات الأجنبية الذي يطبق في جميع الأراضي التابعة للدولة، فقد بقي هذا النظام سارياً فيها حتى بعد أن حصلت على استقلالها في عصر محمد علي، ولم تستطع أن تتحرر منه بعد أن رسخت جذوره على كر العصور وغدا معقلا لرعايا الدول الممتازة يحتمون به، ويتمتعون في ظله بكثير من الحقوق وضروب الإعفاء القضائية والمالية

وكانت الدول تعمل تباعا على توسيع هذه الحقوق والامتيازات حتى غدت في النهاية عبئاً ثقيلا على كاهل مصر يحد من سيادتها في كثير من النواحي، ويعرقل حريتها وتقدمها، ويحدث الخلل والاضطراب في شؤونها القضائية والمالية والإدارية. وتفاقمت هذه الحالة في عهد الخديو إسماعيل ففكر وزيره نوبار باشا في مفاوضة الدول في إنشاء نظام خاص ومحاكم خاصة للأجانب، وانتهت هذه المفاوضات إلى إنشاء المحاكم المختلطة في سنة 1875، لتختص بالفصل في قضايا الأجانب المختلفي الجنسية والأجانب والمصريين، وجعل أغلبية قضاتها من الأجانب، ووضعت لها لوائح وقوانين جديدة مستمدة من القانون الفرنسي؛ والدول ذوات الامتيازات التي عقدت مع مصر هذا الاتفاق هي: بريطانيا العظمى؛ الولايات المتحدة (أمريكا)، فرنسا، ألمانيا، النمسا والمجر، إيطاليا، الروسيا، السويد والنيرويج، إسبانيا، البلجيك، اليونان، هولنده، الدنماركة، البرتغال.

وهذه خلاصة القواعد الأساسية لاختصاصات المحاكم المختلطة.

أولاً - تختص بالفصل في المنازعات المدنية والتجارية بين المصريين والجانب، سواء في المسائل العقارية أو المنقولة

ثانياً - تختص بالفصل في المنازعات المدنية والتجارية بين الأجانب المختلفي الجنسية؛ وكذلك بين الأجانب المتحدي الجنسية في المسائل العينية العقارية فقط.

ثالثاً - إذا وجد رهن عقاري لأجنبي على عين ثابتة تختص المحاكم المختلطة بالفصل في صحة الرهن وكل ما يتعلق به ويترتب عليه.

رابعاً - تختص بالفصل في التعويضات التي يطلبها الأجانب من الحكومة المصرية عن الضرر الناشئ عن أعمال الإدارة إذا مست هذه التصرفات حقوقا مكتسبة أو مقررة.

خامساً - أما في المواد الجنائية فلا تختص المحاكم المختلطة إلا بالفصل في بعض الجنح والمخالفات البسيطة، وبالأخص الجرائم التي تقع على قضاة المحاكم المختلطة وموظفيها

وإلى جانب المحاكم المختلطة بقيت المحاكم القنصلية مختصة بالفصل في المواد الجنائية المتعلقة بالأجانب، وفي المنازعات المدنية والتجارية المنقولة بين الأجانب المتحدي الجنسية وفي قضايا الأحوال الشخصية، كل قنصلية بالنسبة للرعايا التابعين لها.

وهذا كله إلى جانب ضروب الإعفاء والحصانة التشريعية والمالية والبوليسية التي يتمتع بها الأجانب، فليس في وسع الحكومة المصرية أن تصدر تشريعاً يسري عليهم إلا بموافقة دولهم، وفيما بعد بموافقة الجمعية العمومية لمحكمة الاستئناف المختلطة؛ وليس لها أن تفرض عليهم أية ضريبة إلا بموافقة دولهم، وليس للبوليس أن يهاجم منازلهم أو محالهم في المسائل الجنائية أو يفتشها إلا في حالة التلبس أو بموافقة القنصل، وليس له أن يقرر إبعاد أجنبي غير مرغوب فيه لا بموافقة القنصلية التابع لها.

وقد كان الأمل معقوداً بأن يكون إنشاء المحاكم المختلطة خطوة موفقة في سبيل الإصلاح، وفي سبيل تخفيف الأغلال التي تحد من السيادة المصرية، ولكن ظهر بمضي الزمن أن المحاكم المختلطة جاءت بالعكس عبئا باهظاً على السيادة المصرية وإنها ذهبت في أحكامها، وفي تفسيراتها القضائية وفي مزاعم اختصاصها إلى حدود غير معقولة حتى غدت أشبه بدولة داخل الدولة، وغدت حصناً للنفوذ الأجنبي، وسياجا منيعا لحماية المصالح الأجنبية؛ وابتدعت المحاكم المختلطة نظرية الصالح المختلط، فادعت الاختصاص في كل قضية وكل نزاع فيه صالح أو شبة صالح لأجنبي، وتوسعت في تفسير كلمة أجنبي بحيث شملت كل الأجانب التابعين للدول الممتازة وغير الممتازة والرعايا المحميين وغيرهم، وأضحت رقيبا على السلطة التشريعية فيما تصدره من قوانين يراد سريانها على الأجانب مهما كان نوعها وغرضها.

وشعرت الحكومة المصرية وشعرت مصر كلها بفداحة هذه الأغلال المرهقة التي تقيد سيادتها وسلطاتها من جراء هذا النظام الشاذ الذي فرضته عليها الامتيازات الأجنبية، والذي غدا بما يسبغه على الأجانب من الحقوق والمنح الاستثنائية، وصمة في جبين الأمة تؤذي شعورها وكرامتها؛ هذا فضلا عن كونه قد غدا بما يسبغه على سفلة الأجانب وأفاقيهم من ضروب الحماية غير المشروعة، وما يمكن لهم من ضروب العيث والفساد والإجرام الدنيئة - خطرا على الأمن والنظام والصحة والأخلاق العامة. لذلك لم تنس البلاد، منذ اضطرمت بحركتها الوطنية الكبرى أن تعتبر قيام الامتيازات الأجنبية كارثة قومية لا تزول إلا بزوال هذه الامتيازات.

- 2 -

ولما وفقت مصر بعد طول الكفاح إلى التفاهم مع بريطانيا العظمى واستطاعت أن تفوز منها بوثيقة استقلالها بعقد المعاهدة المصرية الإنجليزية في أغسطس الماضي، كانت مسألة الامتيازات الأجنبية ضمن المسائل الجوهرية التي تناولتها، ووضعت قواعد خاصة لحلها.

فقد نص في المعاهدة المصرية الإنكليزية في المادة الثانية عشرة على ما يأتي:

(يعترف صاحب الجلالة الملك والإمبراطور بأن المسئولية عن أرواح الأجانب وأموالهم في مصر هي من خصائص الحكومة المصرية دون سواها، وهي التي تتولى تنفيذ واجباتها في هذا الصدد).

ونصت المادة الثالثة عشرة على ما يأتي:

(يعترف صاحب الجلالة الملك والإمبراطور بأن نظام الامتيازات القائم بمصر الآن لم يعد يلائم روح العصر ولا حالة مصر الحاضرة.

ويرغب صاحب الجلالة ملك مصر في إلغاء هذا النظام دون إبطاء.

وقد اتفق الطرفان المتعاقدان على الترتيبات الواردة بهذا الشأن في ملحق هذه المعاهدة).

وخلاصة الملحق المشار إليه، هو أن مصر ترمي إلى اتخاذ التدابير التي تمكنها من إلغاء نظام الامتيازات وما يترتب عليه من القيود التشريعية والمالية بالنسبة للأجانب في أقرب وقت وإقامة نظام انتقال لمدة معقولة لا تطول بلا مبرر تبقى فيها المحاكم المختلطة وتباشر الاختصاص المخول الآن للمحاكم القنصلية في المواد الجنائية والمدنية فضلا عن اختصاصها الحالي ثم تلغى نهائيا بانتهاء فترة الانتقال، ولتحقيق هذه الغاية تتصل الحكومة المصرية بالدول ذوات الامتيازات للاتفاق على ما تقدم. أما فيما يتعلق ببريطانيا العظمى، فإنها بصفتها من الدول العظمى، وبصفتها حليفة لمصر لا تعارض مطلقاً في التدابير المشار إليها، وتعد فوق ذلك بان تعاون مصر على تحقيق غايتها وذلك باستعمال نفوذها لدى الدول الممتازة، فإذاتعذر وصول مصر إلى غايتها بطريق التفاهم مع الدول، فإنها تحتفظ بحقوقها كاملة إزاء نظام الامتيازات والمحاكم المختلطة، أو بعبارة أخرى تصبح حرة في إلغائها من تلقاء نفسها.

وينص الملحق المذكور فوق ذلك على بعض المبادئ العامة التي اتفق على اتخاذها أساساً لوضع الاتفاق المذكور، ومنها أن أي تشريع مصري يطبق على الأجانب يجب إلا يتنافى مع مبادئ التشريع الحديث ويجب ألا يتضمن تمييزاً مجحفاً بالأجانب، وأن تبقى مسائل الأحوال الشخصية الخاصة برعايا الدول الممتازة من اختصاص المحاكم القنصلية لمن ترغب ذلك من الدول، وأن يعاد النظر في القوانين الحالية وأن يصدر قانون جديد لتحقيق الجنايات.

وقد بادرت الحكومة المصرية مذ أبرمت المعاهدة المصرية الإنكليزية في ديسمبر الماضي، إلى اتخاذ الخطوات لسريعة لتنفيذ هذا البرنامج. ففي السادس عشر من يناير سنة 1937 وجهت الحكومة المصرية إلى الدول ذوات الامتيازات مذكرة أولى تدعوها فيها إلى المثول في المؤتمر الذي اعتزمت عقده للبحث في مسألة إلغاء الامتيازات الأجنبية في مدينة مونترو بسويسرا في 12 أبريل. وفي الثالث من فبراير وجهت إليها مذكرة أخرى تفصل فيها المبادئ التي ترى مصر من جانبها أن تتخذها أساساً للاتفاق المنشود، وخلاصتها أن يحال اختصاص المحاكم القنصلية سواء الجنائية أو في منازعات الأجانب المتحدي الجنسية إلى المحاكم المختلطة، وأن لا يشمل اختصاص هذه المحاكم سوى الأجانب الذين هم فعلا رعايا الدول ذوات الامتيازات، وأن يلغى التوسع الصوري الواقع في تفسير كلمة أجنبي وفي مسألة الصالح المختلط، وأن يكون للمحاكم الأهلية أن تنظر في قضايا الأجانب الذين يرغبون في اختصاصها، وأن تمتنع المحاكم المختلطة عن النظر في القضايا الخاصة بسيادة الحكومة وألا تفسر أو تفصل في صحة أي قانون أو أمر أداري، وألا يكون هناك تمييز بين القضاة الوطنيين والأجانب في مسالة تنظيم الدوائر ورياستها، وأن تحرر الأحكام باللغة العربية مع إحدى اللغات الأجنبية المقررة. . . الخ

وقد قبلت الدول الممتازة دعوة الحكومة وأبلغتها في الوقت المناسب أسماء مندوبيها في المؤتمر؛ وهذه الدول هي بريطانيا العظمى، فرنسا، والولايات المتحدة (أمريكا) وإيطاليا، والسويد، والنرويج، وأسبانيا، والبلجيك، واليونان، وهولنده، والدنماركة، والبرتغال. أما ألمانيا فقد فقدت امتيازاتها بمقتضى معاهدة فرساي في سنة 1919، وتعاقدت فيما بعد بمعاهدة صداقة مع مصر منحت فيها بعض الامتيازات المؤقتة لحين إلغاء الامتيازات، وكذلك فقدت إمبراطورية النمسا والمجر (وهي الآن مكونة من النمسا، والمجر، وتشيكوسلوفاكيا) امتيازاتها بمقتضى معاهدة سان جرمان (معاهدة الصلح أيضاً)، ولكن النمسا عقدت مع مصر معاهدة صداقة منحت فيها امتيازات مماثلة لامتيازات ألمانيا؛ وكذلك فقدت روسيا السوفيتية امتيازاتها نهائيا، ولم تعترف الحكومة المصرية بها إلى اليوم

وعقد مؤتمر مونترو في موعده المحدد أي في الثاني عشر من أبريل سنة 1937؛ وكان وفد مصر مؤلفا من مصطفى النحاس باشا رئيس الوزارة، والدكتور أحمد ماهر رئيس مجلس النواب، وواصف غالي باشا وزير الخارجية، وعبد الحميد بدوي باشا رئيس أقلام قضايا الحكومة؛ واستمر المؤتمر منعقدا حتى اليوم الثامن من مايو حيث تم توقيع الاتفاق الذي انتهت إليه مصر والدول؛ وكانت فرنسا اشد الدول صلابة وتمسكا؛ وقد دافعت مصر عن وجهت نظرها ما استطاعت، وتمسكت بالأخص بالنقط الأساسية التي تتعلق بالسيادة المصرية؛ بيد أنها اضطرت إلى التساهل في بعض التفاصيل والضمانات الخاصة بفترة الانتقال؛ وجاز المؤتمر كثيرا من الأزمات الدقيقة التي أثارتها فرنسا بتشددها وفداحة مطالبها. وهذه خلاصة للمبادئ الهامة التي تم الاتفاق عليها:

أولا - وافقت الدول على إلغاء الامتيازات الأجنبية وكل ما يترتب عليها من الحقوق والمزايا الخاصة إلغاء تاماً شاملاً

ثانيا - ألغيت جميع القيود التي كانت قائمة في سبيل التشريع المصري بما ذلك التشريع المالي على الأجانب، واصبح من حق مصر أن تطبق على الأجانب جميع القوانين التي تطبقها على الوطنين، وألغى حق الإشراف الذي كانت تزاوله المحاكم المختلطة في تطبيق هذه القوانين وفي الحكم بصحتها

ثالثا - رضيت مصر بتنظيم فترة للانتقال حددت مدتها باثني عشرة عاما، يحتفظ خلالها بالمحاكم المختلطة، ويضاف إلى اختصاصها اختصاص المحاكم القنصلية في المواد الجنائية والمدنية؛ وكذلك في مواد الأحوال الشخصية بالنسبة للدول التي ترغب في نقل الأحوال الشخصية إليها

رابعا - يقتصر اختصاص المحكم المختلطة أثناء هذه المدة على رعايا الدول ذوات الامتيازات، وكذلك رعايا الدول الآتية: ألمانيا، النمسا، تشيكوسلوفاكيا، المجر، يوجوسلافية، سويسرا، بولونيا، رومانيا؛ ويتناول اختصاصها الرعايا المحميين أيضاً في المواد الجنائية. أما في المواد المدنية فلهؤلاء الرعايا أن يختاروا بين المحاكم الأهلية والمختلطة. وفي الأحوال الشخصية بالنسبة للرعايا الذين ينتمون إلى طوائف دينية معينة يبقى الاختصاص الطائفي. ولا امتيازات لرعايا سوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن

خامسا - يحظر على جميع المصريين أن يلجئوا إلى حماية أية دولة أجنبية

سادسا - في نهاية فترة الانتقال تلغى المحاكم المختلطة وذلك في 12 أكتوبر سنة 1949، كما تلغى المحاكم القنصلية ويخضع جميع الأجانب المقيمين بالقطر المصري للقضاء المصري في جميع الأحوال المدنية والجنائية والشخصية

هذه هي المبادئ الجوهرية التي انتهى إليها اتفاق مونترو بين مصر والدول لحل مشكلة الامتيازات الأجنبية

ويعتبر اتفاق مونترو بالنسبة لمصر حادثا عظيما في تاريخها لا يقل في أهميته عن المعاهدة المصرية الإنكليزية ذاتها؛ وقد تحطم صرح الامتيازات الأجنبية بعد أن لبث زهاء أربعة قرون كابوسا مرهقا، يحد من سلطان مصر وسيادتها حدا أليما، ويجعل الأجانب سادة في أرضها يتمتعون بحقوق ومنح لا يتمتع بها أبناء البلاد أنفسهم. نعم أن مصر اضطرت نزولا على مقتضيات الظروف الدولية أن تقبل فترة انتقال يبقى فيها هذا النظام أثنى عشرة عاما أخرى تستعد المصالح الأجنبية فيها لاستقبال العهد الجديد؛ ولكن نظام الانتقال يعتبر بصورته التي بسطناها نظاما مخففا معقولا بالنسبة للامتيازات القديمة، ولا يحد من السياسة المصرية حدا خطيرا، هذا فضلا عن أن أثنى عشرة عاما ليست شيئا مذكورا في حياة الأمم

(* * *)