مجلة الرسالة/العدد 203/خاتمة المأساة الأندلسية:

مجلة الرسالة/العدد 203/خاتمة المأساة الأندلسية:

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 05 - 1937



الصراع الأخير

بين الموريسكيين وأسبانيا

للأستاذ محمد عبد الله عنان

- 1 -

حدث أثناء المفاوضات التي جرت في مونترو بين مصر والدول لإلغاء الامتيازات الأجنبية أن تقدم الوفد الإسباني بطلب يختص باليهود (السفرديم) المقيمين بمصر، هو أن يعاملوا كالرعايا الإسبانيين وأن يمنحوا مزية التقاضي أمام المحاكم المختلطة أثناء فترة الانتقال، وشرح أحد أعضاء الوفد بواعث هذا الطلب لممثلي الصحف، فقال: إن هؤلاء اليهود (السفرديم) هم من ذرية اليهود الإسبانيين الذين طاردتهم مجالس التحقيق (محاكم التفتيش) في القرن السادس عشر وشردتهم عن وطنهم في مختلف البلاد، وأن إسبانيا الجمهورية التي تحررت من نزعات التحامل والتعصب تريد أن تقدم ترضية لسلالة هذه الطائفة التي نكبت في عصور الظلم والتعصب والطغيان.

وهذه الملاحظة تثير الشجن، ذلك أن إسبانيا النصرانية تعترف بعد أربعة قرون بزلتها التاريخية الكبرى، وتلعن مع التاريخ ذكرى ديوان التحقيق. بيد أن هذا الاعتراف ليس إلا لمحة بسيطة من الحقيقة المروعة؛ ذلك أن إسبانيا النصرانية ما كادت تظفر بتحقيق سياستها الوطنية القديمة في سحق إسبانيا المسلمة والاستيلاء على تراثها كله والظفر بغرناطة آخر معاقلها، حتى وضعت برنامجها الشائن لمحو تراث الأندلس، وسحق الإسلام وكل ذكرياته وآثاره، وإبادة هذه البقية الباقية من سلالة المسلمين والعرب الذين لبثوا سادة في الجزيرة زهاء ثمانية قرون؛ وكان اليهود الذين عاشوا وازدهروا في ظل الدولة الإسلامية، كالمسلمين ضحايا هذه السياسة البربرية؛ وكانت محاكم التحقيق تنشط لمطاردة الضحايا، وكانت محارقها تسطع في مختلف القواعد الأندلسية القديمة حتى قبل سقوط غرناطة؛ وكان سقوط غرناطة في فاتحة سنة 1492م نذير المأساة المروعة التي لم تستطع إسبانيا النصرانية في حمى الظفر وغلوائه أن تقدر عواقبها المخربة؛ وكان المسلمو المغلوبون قد أخذوا على الظافرين قبل التسليم كل ما يستطيع أن يأخذه الضعيف على القوي من العهود النظرية، لتأمين النفس والمال والعرض، والدين والتراث القومي؛ ولكن هذه العهود التي لا سند لها إلا إرادة الظافر، لم تكن شيئاً مذكوراً في نظر إسبانيا النصرانية؛ فلم تمض سوى أعوام قلائل، حتى كشفت إسبانيا النصرانية عن سياستها ونياتها الحقيقية فسحقت العهود المقطوعة وأرغمت المسلمين على التنصر، ولم تدخر وسيلة من الوسائل البربرية، من سجن وحرق وتشريد وتعذيب إلا استعملتها لتحقيق هذه الغاية، وسطعت محارق ديوان التحقيق في غرناطة كما سطعت من قبل في غيرها من قواعد الأندلس لتلتهم المخالفين والمارقبين، وغدا أبناء قريش ومضر نصارى يشهدون القداس في الكنائس ويتحدثون القشتالية، واختفت آثار الإسلام والعربية بسرعة، واستحال الشعب الأندلسي إلى مجتمع جديد هو مجتمع الموريسكيين أو العرب المنتصرين.

ولقد كان استشهاد الموريسكيين من أروع مآسي التاريخ، وكان هذا الشعب المهيض الذي أدخل قسراً في حظيرة النصرانية، والذي أنكرته مع ذلك إسبانيا سيدته الجديدة وأنكرته الكنيسة التي عملت على تنصيره، يحاول أن يروض نفسه على حياته الجديدة، وأن يتقبل مصيره المنكود بإباء وجلد؛ ولكن إسبانيا النصرانية كانت ترى في هذه البقية الباقية من الشعب الأندلسي المجيد عدوها القديم الخالد، وتتصور أن هذا المجتمع المهيض الأعزل، الذي أحكمت أغلالها في عنقه مصدر خطر دائم على سلامها وطمأنينتها، وتشتد في مطاردته وإرهاقه بمختلف الفروض والقوانين والمغارم، وتمعن في انتهاك عواطفه وحرماته وفي تعذيبه وتشريده، وتنكر عليه أبسط الحقوق الإنسانية؛ وكانت محاكم التحقيق تحمل هذه الرسالة الدموية المخربة، وتعمل على تنفيذها بوحشية لم يسمع بها؛ واستطالت هذه الوندالية منذ سقوط غرناطة أكثر من قرن. بيد أن الموريسكيين يحملهم اليأس العميق، وغريزة الدفاع عن النفس ولمحة باقية من عزم النضال القديم، لم يخلدوا إلى هذا الاستشهاد المؤسي، دون تذمر، ودون انتقاض، فقد ثاروا غير مرة على الطغاة والجلادين، وحاولوا مقاومة هذه السياسة الوندالية والخروج على فروضها؛ ولكن يد الطغيان القوية مزقتهم وسحقتهم بلا رأفة، وتركتهم أشلاء دامية.

وكانت أعظم ثورة قام بها الموريسكيون في وجه إسبانيا النصرانية سنة 1569م. أعني بعد سقوط غرناطة بثمانية وسبعين عاماً؛ وكان التنصر قد عم الموريسكيين يومئذ وغاضت منهم كل مظاهر الإسلام، ولكن قبساً دفيناً من دين الآباء والأجداد كان لا يزال يجثم في قراره هذه النفوس الأبية الكليمة؛ ولم تنجح إسبانيا النصرانية بسياستها البربرية في اكتساب شيء من ولائها المغصوب، وكان الموريسكيون يحتشدون في جماعات كبيرة وصغيرة في بسائط غرناطة وفي منطقة البشرات الجبلية تتوسطها الحاميات والكنائس، لتسهر الأولى على حركاتهم، وتسهر الثانية على إيمانهم وضمائرهم، وكانوا يشتغلون بالأخص بالزراعة والتجارة، ولهم صلات تجارية وثيقة بثغور المغرب.

وكانت بقية من التقاليد والمظاهر القومية لازالت تربط هذا الشعب الذي زادته المحنة والخطوب اتحاداً وتعلقاً بتراثه القومي والروحي؛ وكانت الكنيسة تحيط هذا الشعب العاق الذي لم تنجح تعاليمها في النفاذ إلى أعماق نفسه بكثير من البغضاء والحقد؛ فلما تولى فيليب الثاني الملك ألفت فرصتها في أذكاء عوامل الاضطهاد والتعصب. وكان هذا الملك المتعصب حبراً في أعماق نفسه، يخضع لوحي الأحبار والكنيسة، ففي سنة 1563 ظهرت بوادر السياسة الجديدة إذ صدر قانون جديد يحرم حمل السلاح على الموريسكيين إلا بترخيص الحاكم العالم؛ فأثار صدوره سخط الموريسكيين؛ بيد أنه كان مقدمة لقانون بربري جديد أعلن في غرناطة في يناير سنة 1567 وهو الشهر الذي سقطت فيه غرناطة واتخذته إسبانيا عيداً قومياً تحتفل به كل عام وكان القانون الجديد يرمي إلى القضاء على آخر المظاهر والتقاليد التي تربط الموريسكيين بماضيهم وتراثهم القومي، فحرم عليهم أن يتكلموا العربية أو يتعاملوا بها، وأن لا يستعملوا سوى القشتالية في التخاطب والتعامل وذلك في ظرف ثلاثة أشهر من صدور القانون، وألا يتخذوا أسماء عربية، أو يرتدوا الثياب العربية، وحظر التحجب على النساء وألزمن بارتداء الثياب الأوربية المكشوفة وذلك في ظرف عام، وأن تبقى بيوتهم مفتوحة أثناء حفلات الزواج وغيرها ليستطيع القسس ورجال السلطة أن يروا ما يقع بداخلها من المظاهر والمراسيم المحرمة، وألا ينشدوا الأغاني العربية أو يزاولوا الرقص العربي، وفرضت للمخالفين عقوبات فادحة تختلف من السجن إلى النفي والإعدام.

أعلن هذا القانون في غرناطة في ميدان باب البنود أعظم ميادينها القديمة في يناير سنة 1567؛ ونستطيع أن نتصور وقعه لدى الموريسكيين فقد فاضت قلوبهم سخطاً وأسى ويأساً، وحاولوا أن يسعوا بالضراعة والحسنى لإلغائه أو على الأقل لتخفيف وطأته، فاجتمع أعيانهم وقرروا التظلم للعرش، وحمل رسالتهم إلى فيليب الثاني والى وزيره الطاغية اسبنوسا، سيد إسباني نبيل من أعيان غرناطة يدعى الدون خوان هنريكس، وقد كان يعطف على هذا الشعب المنكود ويرى خطر السياسة التي اتبعت لإبادته؛ ولكن وساطة ذهبت عبثاً وحملت سياسة العنف والتعصب وكل شيء في طريقها، ونفذت الأحكام الجديدة في المواعيد التي حددت لها، وأحيط تنفيذها بمنتهى الصرامة والشدة.

عندئذ بلغ اليأس بالموريسكيين ذروته، فتهامسوا على المقاومة والثورة والذود عن أنفسهم إزاء هذا العسف المضني أو الموت قبل أن تنطفئ في قلوبهم وضمائرهم آخر جذوة من الكرامة والعزة وقبل أن تقطع آخر صلاتهم بالماضي المجيد والتراث العزيز.

- 2 -

وهنا يبدأ الصراع الأخير بين الموريسكيين وإسبانيا النصرانية؛ ومن الأسف أننا لم نتلق عن هذا المرحلة المؤسية من تاريخ إسبانيا المسلمة شيئاً من الروايات العربية، وكل ما انتهى إلينا منها عن المأساة أثر صغير يسمى (أخبار العصر في انقضاء دولة بني نصر) كتبه فيما يظهر مسلم أو موريسكي من أشراف غرناطة وذلك سنة 947هـ (1542م) أعني بعد سقوط غرناطة بخمسين سنة. وفيه يصف حوادث سقوطها وما تلا ذلك من إرغام المسلمين على التنصر، ومن مطاردتهم وإرهاقهم وتعذيبهم، ويجمل لنا مأساة التنصر في هذه الكلمات المؤثرة.

ثم بعد ذلك دعاهم (أي ملك قشتالة) إلى التنصر وأكرههم عليه وذلك في سنة أربع وتسعمائة، فدخلوا في دينهم كرهاً، وصارت الأندلس كلها نصرانية، ولم يبق فيها من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، إلا من يقولها في قلبه وفي خفية من الناس، وجعلت النواقيس في صوامعها بعد الآذان، وفي مساجدها الصور والصلبان بعد ذكر الله وتلاوة القرآن. فكم فيها من عين باكية وقلب حزين، وكم فيها من الضعفاء والمعذورين لم يقدروا على الهجرة واللحوق بإخوانهم المسلمين قلوبهم تشتعل ناراً، ودموعهم تسيل سيلاً غزيراً، وينظرون أولادهم وبناتهم يعبدون الصلبان ويسجدون للأوثان ويأكلون الخنزير والميتات ويشربون الخمر التي هي أم الخبائث والمنكرات، فلا يقدرون على منعهم ولا على نهيهم ولا على زجرهم، ومن فعل ذلك عوقب بأشد العقاب وعذب بأشد العذاب، فيا لها من فجيعة ما أمرها ومصيبة ما أعظمها وطامة ما أكبرها.

بيد أن هذه الرواية العربية الوحيدة تقف في تتبع حوادث المأساة عند هذا الحد؛ وإذن فليس لدينا لتتبع حوادث هذا الصراع الأخير بين الموريسكيين وبين إسبانيا النصرانية سوى المصادر القشتالية؛ وإذا كانت هذه المصادر النصرانية، تتأثر في كثير من المواطن بالعوامل الدينية والقومية، فإنها مع ذلك تعرض هذه الحوادث المؤسية في أسلوب مؤثر، ولا تضن في بعض المواطن والمواقف بعطفها وأحياناً بإعجابها على ذلك الشعب الباسل الذي لبث يناضل حتى الرمق الأخير عن كرامته وعن تراثه الروحي والقومي.

(للبحث بقية)

(النقل ممنوع)

محمد عبد الله عنان