مجلة الرسالة/العدد 203/ذكرى المولد النبي

مجلة الرسالة/العدد 203/ذكرى المولد النبي

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 05 - 1937



من مشاهد عكاظ المؤثرة

للأستاذ سعيد الأفغاني

استيقظت مكة ذات صباح، بعد عام الفيل بأربعين، على جرس حلو ساحر، يرسله محمد الأمين داعياً قومه إلى الله وحده، وأن ينبذوا ما هم فيه من عبادة أصنام ووأد بنات وقتل أولاد، وأن يقبلوا على ما يشبع فيهم المحبة والسعادة ويوطد لهم المجد والعزة في العالمين.

استمع مشركو مكة إلى هذا الرجل الذي كان حبيباً إلى قلوبهم، عظيم المنزلة في صدورهم، مضرب المثل بينهم في علو الخلق وطهارة السيرة وصفاء السريرة، فنظر بعض إلى بعض مكبرين ما أتي به ابن عبد المطلب سيد فتيان هاشم ورجل مكة المنتظر.

ونزت في تلك الرءوس حمية جاهلية استعصى قيادها على البيان الساحر والعقل الوافر والحرص المخلص، فعظم عليها أن تترك ما ألفت، وتألبت قوى أهل مكة جيوشاً متضافرة تكيد لهذا الداعي إلى الخير ولأولئك القانتين المخبتين من الضعفاء والنساء والصبيان، الذين ملكت عليهم الدعوة الجديدة شعورهم وتغلغل صوت الإله في أعماق نفوسهم فصفاها وأخلصها، ليكون منها الهدف الأول الذي يصمد في سبيل العقيدة الحق للأذى والتشريد والتجويع والتعذيب بصبر عجيب وإيمان صليب واغتباط متزايد، كأنما يجدون في هذه الآلام نعيماً ولذائذ. فكانت مصابرتهم وثباتهم خير ما ضمن نجاح الدعوة وتقاطر الناس عليها فيما بعد.

إلا أن الأذية عظمت، وأنى المشركون إلا إصراراً واستكباراً وصداً عن سبيل الله من آمن به، وكادت تتسرب شوائب من يأس إلى بعض تلك النفوس العظيمة، لولا بارقة أمل لاحت لهم في قصد قبائل العرب بالمواسم في عكاظ ومجنة وذي المجاز.

وقف رسول الله بعد مبعثه بثلاث سنين في عكاظ، يدعو الناس إلى الخير والهدى والسعادة. وقد لزمه منذ قيامه بالدعوة حزن عميق على قومه الذين كفروا بنعمة الله، وآلمه ألا يراهم مسارعين إلى ما به صلاحهم، فعزم ليقصدن المواسم وليأتين فيها القبائل، كل قبيلة بمنزلها، وكل جماعة في حيهم، يعرض عليهم هذا الدين الجديد. ولقد حرص الحرص كله على أن يهتدوا، وكان أسفه يشتد كلما ألح قومه بالصد.

قام في عكاظ يقول:

(يا أيها الناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتنجحوا)

ويتبعه رجل له غديرتان كأن وجهه الذهب وهو يقول:

(يا أيها الناس، إن هذا ابن أخي وهو كذاب فاحذروه.)

فعرف الناس أن هذا (الصاد عن سبيل الله) هو عمه أبو لهب ابن عبد المطلب، يكذبه كلما قال كلمة الحق.

عاود والرسول الدعوة مراراً فلم يجب ولم ييأس، ورجا أن يجد فيهم الحامي والمجير على الأقل إذ لم يجد المجيب، فكان يقول للحي في موسم عكاظ:

(لا أكره منكم أحداً على شيء: من رضي الذي أدعوه إليه قبله، ومن كرهه لم أكرهه؛ إنما أريد أن تحوزوني مما يراد بي من القتل، فتحوزوني حتى أبلغ رسالات ربي ويقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء.)

كان الناس يعجبون من أمره وأمر عمه، وهم بين راض وغاضب، ومتعجب يرى بعينه ثم يمضي كأن الأمر لا يهمه. منهم من لا ينكر ما يسمع، ومنهم من يرد أقبح الرد، ومنهم من يقول: قومه أعلم به.

كان هذا دأبه أبداً، يوافي به القبائل سنة بعد سنة، حتى إن منهم من قال له: (أيها الرجل، أما آن لك أن تيأس؟!) من طول ما يعرض نفسه عليهم.

انتهى رسول الله في تطوافه على القبائل في عكاظ، إلى بني محارب ابن خصفة، فوجد فيهم شيخاً ابن عشرين ومائة سنة، فكلمه ودعاه إلى الإسلام وأن يمنعه حتى يبلغ رسالة ربه؛ فقال الشيخ: (أيها الرجل قومك أعلم بنبئك. والله لا يؤوب بك رجل إلى أهله إلا آب بشر ما يؤوب به أهل الموسم. فأغبن عنا نفسك.) وإن أبا لهب لقائم يسمع كلام المحاربي.

ثم وقف أبو لهب على المحاربي فقال.

ولو كان أهل الموسم كلهم مثلك لترك هذا الدين الذي هو عليه، إنه صابئ كذاب.)

قال المحاربي: (أنت والله أعرف به، هو ابن أخيك ولحمتك.)

ثم قال: (لعل به يا أبا عتبة لمماً، فإن معنا رجلاً من الحي يهتدي لعلاجه.) فلم يرجع أبو لهب بشيء.

روى عبد الرحمن العامري عن أشياخ من قومه قالوا: أتانا رسول الله ونحن بسوق عكاظ فقال:

- ممن القوم؟

قلنا: - من بني عامر بن صعصعة.

- من أي بني عامر؟

- بنو كعب بن ربيعة.

- كيف المنعة فيكم؟

- لا يرام ما قبلنا ولا يصطلى بنارنا.

فقال: إني رسول الله، فإن أتيتكم تمنعوني حتى أبلغ رسالة ربي ولم أكره أحداً منكم على شيء؟

قالوا: - ومن أي قريش أنت؟

- من بني عبد المطلب.

- فأين أنت من بني عبد مناف؟

هم أول من كذبني وطردني.

قالوا: - ولكنا لا نطردك ولا نؤمن بك، ونمنعك حتى تبلغ رسالة ربك)

فنزل إليهم والقوم يتسوقون، إذ أتاهم بجرة بن قيس القشيري فقال:

- من هذا الذي أراه عندكم أنكره؟

قالوا: - هذا محمد بن عبد الله القرشي.

- ما لكم وله؟

- زعم لنا أنه رسول الله، يطلب إلينا أن نمنعه حتى يبلغ رسالة ربه.

- فماذا رددتم عليه؟

- قلنا في الرحب والسعة، نخرجك إلى بلادنا ونمتعك مما نمنع به أنفسنا.

قال بجرة: - ما أعلم أحداً من أهل هذه السوق يرجع بشيء أشر من شيء ترجعون به. بدأتم لتنابذكم الناس وترميكم العرب عن قوس واحدة. قومه أعلم به، لو آنسوا منه خيراً لكانوا أسعد الناس به. تعمدون إلى رهيق قوم قد طرده قومه وكذبوه فتؤوونه وتنصرونه؟ فبئس الرأي رأيتم.

ثم أقبل على رسول الله فقال: (قم الحق بقومك، فوالله لولا أنك عند قومي لضربت عنقك).

فقام رسول الله إلى ناقته فركبها، فغمز الخبيث بجرة شاكلتها فقمصت برسول الله فألقته. وعند بني عامر يومئذ ضياعة بنت عامر بن قرط، كانت من النسوة اللاتي أسلمن مع رسول الله بمكة، جاءت زائرة إلى بني عمها فقالت: (يا آل عامر ولا عامر لي! أيصنع هذا برسول الله بين أظهركم لا يمنعه أحد منكم؟)

فقام ثلاثة نفر من بني عمها إلى بحرة، وثلاثة أعانوه، فأخذ كل رجل منهم رجلاً فجلد به الأرض ثم جلس على صدره، ثم علقوا وجوههم لطما، فقال رسول الله:

(اللهم بارك على هؤلاء، والعن هؤلاء.)

فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم قد كان أدركته السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم الموسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه سألهم عمن كان في الموسم فقالوا:

(جاءنا فتى من قريش ثم حدث أنه أحد بني عبد المطلب يزعم أنه نبي، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به معنا إلى بلادنا.)

فوضع الشيخ يده على رأسه ثم قال: (يا بني عامر: هل لها من تلاف؟ هل لذناباها من تطلب؟

فوالذي نفس فلان بيده، ما تقولها إسماعيلي قط؟ ألا إنها الحق؛ فأين كان رأيكم؟.

هذه الأسواق الثلاث: عكاظ ومجنة وذو المجاز، التي كانت تقوم في أيام الحج ويؤمها العرب قاطبة من كل حدب وصوب، شهدت إلى جانب مناظر البيع والشراء والمفاخرة والإنشاد، مشهداً من أفظع مشاهد الجفاء والتنكر والأذى لصاحب الشريعة الإسلامية . وابتلعت تلك الأصوات بضجيجها وما كانت تعج به من حوادث، صوت الدعوة الإسلامية فيما ابتلعت من دعوات، وغاب صوت صاحبها في ذلك الصخب والزحام؛ فلقد مكث الرسول بمكة مستخفياً ثلاث سنين، ثم أعلن في الرابعة ودعا الناس إلى الإسلام عشر سنين يوافي فيهن المواسم كل عام، (يتبع الحاج في منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز يدعوهم أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه، فلا يجد أحداً ينصره أو يجيبه، حتى إنه ليسال عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة فيردون عليه اقبح الرد، ويؤذونه ويقولون له: قومك أعلم بك)

كان قاصد هذه الأسواق أيام الحج موزع السمع بين داع إلى ثأر وناشد ضالة، ومنشد قصيدة، وخطيب، وعارض بضاعة، وحامل مال لفك أسير، وقاصد شريف لإجارة أو حمالة، وداع إلى عصبية، وآمر بمنكر. . .، فيجد شيئاً معروفا قد ألفه منذ عقل وأبصر الدنيا. لكنه بعد عام الفيل بثلاث وأربعين سنة يجد أمراً لم يألفه قط، ولا سمع بمثله: رجلاً كهلاً وضيئاً عليه سمات الوقار والرحمة والخير، يسأل عن منازل القبائل قبيلة قبيلة: هذه بنو عامر بن صعصعة، وهذه محارب، وتلك فزارة، والرابعة غسان، وهناك مرة وحنيفة، وسليم، وعبس، وهنا بنو نصر وكندة، وكعب، وعذرة، وهؤلاء بنو الحارث بن كعب وأولئك الحضارمة. . . الخ.

يؤم منازل كل قبيلة، ويقصد إلى شريفها يدعوه بالرفق إلى الله وفعل الخير فيتجهم له هذا ويعبس ذاك، ويجبهه ذلك، ويحقره آخر. . فيلقى من الصد ألواناً يضيق ببعضها صدر الحليم، فلا يؤيسه ما لقي، ولا يكفه ما أوذي، فيمضي متئداً حزيناً إلى قبيلة أخرى وشريف آخر: يعرض عليهم نفسه ويقول:

(هل من رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي. فلا يجد مجيباً، حتى تدارك الله نبيه بوفد الأنصار.

هذا ما حفظته لنا كتب السيرة من مشاهد مؤثرة، فرأينا أن تلك الأسواق لم تخل من دعوة إلى خير، فقد تردد في أجوائها الصوت الضعيف الخافت، يطلب حماية وإجابة. ولئن صدف عنه الناس وأزوروا في أسواق الجاهلية، إنه ملأ فيما بعد ما بين المشرق والمغرب، وطبق الخافقين بآثاره التي بثها في العالمين رحمة وعدلاً وعلماً، وإنسانية وسعادة ومثلاً عليا.

وما زال يستجيب لهذا الصوت كل يوم أفواج من أمم الحضارة والعرفان، في أسيا وأوروبا وأمريكا. صد عنه قديماً أجلاف البادين، وهرع إليه اليوم زمر المتحضرين، من كل عالم ومخترع ومصلح وأديب وسياسي ومفكر. . من يستضيء بعلمهم وفكرهم الملايين من الخلق.

فلنأخذ من هذه الأسواق العبرة، ولنحفظ هذا الدرس؛ فأن الحق مهما بدا ضعيفاً وبدا خصيمه الباطل قوياً صائلاً، لا بد أنه ظافر في النهاية عليه. فليس في الدنيا شيء يصمد للحق، لا الجيوش ولا الأساطيل، ولا النار ولا الحديد، لا شيء له العقبى إلا الحق. وأهون بعد ذلك بالمعاهدات والمراسيم وصكوك الانتدابات وسائر القصاصات من أوراق الزور. كل أولئك يضمحل ويذوب متى سلط عليه الإخلاص والثبات وصلابة العقيدة والإيمان. وما نرى في أيامنا هذه من استضعاف الباطل المعتز بالصولة، لأناس وقفوا يدعون النضال في سبيل الحق، واستخذاء هؤلاء له، وطواعيتهم في يديه، ناشئ من فقدان الإخلاص والعقيدة فيما يضمرون. ولعل كثيراً منهم يظهر دفاعاً عن حق، ويبطن سعياً إلى منصب أو استدراراً لمال. وما أسرع ما ينزع الزمان الأثواب المزورة عن هذا الفريق فيظهر للناس ما يخفون.

ولنعلم بعد أن اليأس لا ينبغي أن يجد سبيلاً إلى قلب المؤمن، وأنه: (لا ييأس من روح الله إلى القوم الكافرين)

(دمشق)

سعيد الافغاني