مجلة الرسالة/العدد 203/هكذا قال زرادشت

مجلة الرسالة/العدد 203/هكذا قال زرادشت

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 05 - 1937



للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه

ترجمة الأستاذ فليكس فارس

العناكب:

هذا هو العنكب، فإذا كنت ترغب في مشاهدته فالمس نسيجه ليتحرك ويسرع بالظهور، أهلا بك أيها العنكب، إنني أرى على ظهرك شعاراً أسود مثلث الزوايا، وما يخفى عني أيضاً ما تضمر من النقمة في سريرتك.

أن للسعاتك بقعاً فاحمة على الجلود ولها سمها المضلل في النفوس، أيها العنكب، فأنا أخاطبكم بالرموز، أيها العناكب المضللون المبشرون بالمساواة. فما أنتم في نظري إلا مستودع لعواطف الانتقام

سأكشف عن مكانكم وأنا أواجهكم بقهقهة تسقط عليكم من الذرى التي أتسنمها. وهأنذا أمزق نسيجكم حتى إذا تملككم الغضب خرجتم من مغاور أكاذيبكم وتدفقت نقمتكم بكلمة العدل التي تتفوهون بها.

لقد وجب علي أن أنقذ الإنسان من عاطفة الانتقام، وهذا الواجب هو المعبر المؤدي إلى اشرف الآمال ينتصب فوقه قوس قزح بعد هبوب العواصف الكاسحات. ولكن إرادة العناكب لا تتجه إلى هذه الغاية، فهم يتناجون فيما بينهم قائلين: لا عدل إلا في عواصف انتقامنا تهب على العالم لتلقي العار على كل من ليس منا.

وهم يقولون أيضاً: ما من فضيلة إلا في طلب المساواة، فلنرفع عقيرتنا ضد كل سلطان.

آي كهان المساواة! لقد تسلط عليكم جنون عجزكم، فهتفتم بهذه المساواة وقد كمنت شهوة عتوكم واستبدادكم وراء ما تعلنون من الفضائل.

إنني أرى فيكم الغرور المتمرمر والحسد المقيم، ولعل الحسد الذي رعى قلوب أسلافكم يتعالى منكم الآن لهباً يندلع بجنون الانتقام، وما الأبناء إلا مظهر ما أضمر الآباء. ولكم أفشى الابن سر أبيه!

إن لهؤلاء الناس مظهر المتحمسين، وما تلهب حماسهم المحبة بل الانتقام. وإذا، وإذاً م بدت لك منهم رصانة ومرونة، فما مصدرهما فيهم العقل بل الحسد. وهو الدافع لهم إلى التفكير. ودليل حسدهم هو أنهم يندفعون دائماً إلى أبعد من مراميهم فيطرحهم العياء على وساد الثلوج.

وما تسمع لهؤلاء الناس أنيناً يخلو من نبرات الانتقام، فكل ما يصدر عنهم من مديح ينطوي على أذية، فهم يرون منتهى السعادة في إقامة أنفسهم قضاة على العالمين. فأصغوا إلى نصيحتي، أيها الأصدقاء: احذروا من تغلبت عليهم غريزة إنزال العقاب. لأنهم متحدرون من أفسد الأنواع وعلى وجوههم سيماء الجلادين.

إحذروا من لا ينقطعون عن ذكر عدالتهم فان نفوسهم خالية من كل صفة حميدة، وإذا ما هم ادّعوا الصلاح والأنصاف فلا تنسوا أنهم لم يتخذوا بين الفرنسيين مقامهم إلا لما يشعرون به من عجز

إنني أربأ بنفسي، أيها الصحاب، أن تنزلوها بين هؤلاء الناس فلا تميزون بيني وبينهم. فهنالك من يذيعون تعاليمي عن الحياة وهم في الوقت نفسه ينادون بالمساواة وينتمون إلى العناكب المسمومة، هم يدافعون عن الحياة ولكنهم يعرضون عنها قابعين في مغاورهم ليتمكنوا من اجتراح الشرور والإيقاع بمن يقبضون على زمام السلطة في هذا الزمان، وقد تعودوا إنذارهم بالسقوط، ولو أن السلطة كانت في يد العناكب، لكانت تعاليمهم تتخذ شكلاً آخر، لأنهم عرفوا فيما مضى، أكثر مما عرف غيرهم، كيف يوقدون المحارق ويرهقون مخاليفهم اضطهاداً وتعذيباً.

لا أريد أن أحسب من هؤلاء المنادين بالمساواة لأن العدالة علمتني: (أن لا مساواة بين الناس) وإنه من الواجب ألا يتساووا؛ وليس لي أن أقول بغير هذا المبدأ وإلا فان محبتي للإنسان تصبح ادعاء ومينا. .

على الناس أن يسيروا على آلاف الطرق وآلاف المعابر مسارعين نحو آتي الزمان فتنشأ بينهم الحروب وتتسع شقة التفاوت بينهم على ممر السنين، ذلك ما ألهمني إياه حبي العميم.

يجب أن يقيم الناس في أعماق سرائرهم مثلاً علياً وأشباحاً يجاهدون في سبيلها فيسير الصالح والطالح والغني والفقير والرفيع والوضيع إلى التصادم بجميع ما في الأرض من نظم فتضطرم الحروب سلاحاً لسلاح ورمزاً لرمز لأن على الحياة أن تتفوق أبداً على ذاتها.

إن الحياة تتجه إلى الارتقاء بدعائمها ودرجاتها، فهي تتطلع إلى الآفاق البعيدة ما وراء الجمال المقتعد عرش غبطته، لتبلغ مستقرها في أعالي الذرى

وبما أن الحياة بحاجة إلى ارتقاء المرتفعات، فهي لا غنى لها عن الدرجات والدركات ليعارض المنخفضون المرتفعون، إنها لفي حاجة إلى التفوق على ذاتها وهي متجهة إلى الارتقاء

انظروا، أيها الصحاب، هاهي مغارة العناكب وقد لاحت فيها خرائب هيكل قديم فأرسلوا عليه نظرات المستلهمين.

والحق أن من جميع أفكاره قديماً ليرفعها صرحاً من الصخر ينطح السحاب كان كأحكم الحكماء عارفا بأسرار الحياة

إن الجمال نفسه ليقوم على التفاوت والمجالدة في القوة والتفوق، وهذا ما يعلمنا إياه هذا الحكيم بأشد الرموز إشرافاً

هنا تتدافع القباب والنوافذ في عراك جلل فتهاجم الظلمة النور ويهاجم النور الظلمة كأنهما إلهان ينازل أحدهما الآخر اقتدوا بهذا الرمز، أنتم أيضا في مجال الجمال والثقة بالنفس. لنكن نحن أيضاً أعداء فيما بيننا أيها الصحاب

وليحشد كل منا قواه ليحارب الآخرين

ويلاه، لقد أصبت أنا أيضاً بلسعة العنكبة عدوتي القديمة فقد توصلت بثقتها بنفسها وبجمالها الإلهي إلى نوال بناني بلسعتها، وهاهي تقول الآن: لا بد من إنزال العقاب، لا بد من أن يأخذ العدل مجراه، فأنك تعنيت بعظمة السرائر، فلن يذهب إنشادك جزافاً.

أجل لقد انتفعت، ويلاه إنها ستوجه نفسي إلى عاطفة الانتقام.

تقدموا أيها الصحاب وقيدوني بهذا العمود كيلا أتحول عن مبدئي، فخير لي أن أصبح تمثالاً جامداً من أن أهب كعاصفة منتقمة.

لن يكون زارا عاصفة وإعصاراً، فما هو إلا رقاص ولكنه ليس رقاص عناكب. . .