مجلة الرسالة/العدد 205/الفلسفة الشرقية

مجلة الرسالة/العدد 205/الفلسفة الشرقية

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 06 - 1937



بحوث تحليلية

بقلم الدكتور محمد غلاب أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين

- 8 -

الديانة المصرية

العلم والأب والفن والقانون

رأى رجال الدين أن الشعب لا يتبع التقاليد الدينية إلا إذا امتزجت تعاليمها بنفوس أبنائه امتزاجاً قوياً، وهذا لا يتيسر إلا إذا بشر بالدين رجال مثقفون فصحاء يملكون أعنة البلاغة ويستولون على أزمة البيان. وإذاً، فهم مضطرون قبل كل شيء إلى أن يفسحوا في مدارسهم للأدب أمكنة واسعة وأن ينزلوه بين معارفهم منزلة عالية وقد فعلوا، فكان من نتائج هذه العناية الفائقة بالأدب أن ظهر كتاب (أفتاح حتب) وزير الملك (إيزيس) الذي هو أقدم كتاب في الدنيا والذي يرى فيه القارئ من الحكم والنصائح والأمر باحترام المرأة وإعزازها والتحذير من إغضاب الملوك والرؤساء والحث على طلب العلم واعتباره أهم ضروريات الحياة وألزم واجبات الأشخاص من كل الطبقات إلى غير ذلك من وصف حلاوة الشباب ولذة القوة ومرارة الشيخوخة وانكسار النفس في أيامها وانطفاء مصباح الآمال والأحلام إلى آخره إلى آخره، مما يجعل من غير الممكن أن يكون كتاب هذا شأنه من منتجات عقول شابة في الأدب، ناشئة في الكتابة والتأليف.

ومن الطبيعي أن الأمة التي يصل فيها الدين والأدب إلى هذه المرتبة الرفيعة تسمو فيها الحالة الاجتماعية سمواً عظيماً يتبعه تقدم في جميع نواحي الحياة، لأن الأمة تنبغ في المخترعات وتبرع في الفنون بمقدار حاجتها إليها، وهذه الحاجة تتعدد تبعاً لتقدم المدنية التي هي أولى مظاهر السمو الاجتماعي. وإذن فالدين يتطلب سمو الأدب، والأدب عامل أساسي في الرقي الاجتماعي، والمدنية أولى مظاهر هذا الرقي، والحاجة إلى الاختراع والفن طليعة نتائج تلك المدنية. وهذه هي الدرجات التي صعدت عليها الدولة المصرية القديمة حتى وصلت إلى قمة سلم الحياة العالية فارتقت فيها الفنون الجميلة على اخت ألوانها حتى وصلت إلى درجة حيرت كبار الفنيين في العصر الحديث.

لم تكن معارف المصريين إبان الدولة القديمة ناشئة ولا في أول عهدها بالحياة كما يزعم الجاهلون، ويدل على ذلك أنه في أواخر القرن الماضي اكتشف عالم من كبار المستمصرين الفرنسيين خلف الهرم الغربي جثة موظف كبير من موظفي الإمبراطورية الأولى كتب على تابوته العبارة التالية: (هذه جثة الحارس الأكبر لدار الكتب الملكية).

وقد علق الأستاذ (ماسبيرو) على هذه العبارة في كتابه (تاريخ الشرق القديم) طبعة أولى بأن هذه المكتبة التي كان هذا الموظف الكبير مديرها أو حارسها كانت تحوي بين جدرانها كثيراً من الكتب في الأدب والفلسفة والأخلاق والتاريخ والاجتماع والقانون والسياسة والطب والحساب والهندسة والفلك والسحر والتنجيم

ويؤكد الأستاذ (ماسبيرو) أن هذه المواد التي كانت موجودة في أدمغة العلماء ومسطرة في أوراق البردي لم تكن أثناء الدولة القديمة في عهد الحداثة والتكوين، بل كانت قد نضجت نضوجاً تاماً وأصبحت في دور الإنتاج العملي المفيد، إذ أن من المستحيل أن تبنى الأهرام في عصر بادئ في الهندسة لم يتعمق أهله - أو العلماء منهم على الأقل - في غامض النظريات ومعقد الرسوم؛ وكذلك من المستبعد عقلاً أن نتصور أن المحاكم التي لا تحكم على المجرم إلا بعد سماع المرافعات الشفوية الطويلة، وقراءة المذكرات التحريرية المقدمة من المتهم يكون قضاتها ومستشاروها حديثي عهد بالقوانين المدنية والجنائية

وإنني أنتهز فرصة هذه المناسبة فأذكر لك مثلاً من أمثلة استقلال هذا القضاء وعدالة الملوك في تلك العصور الغابرة التي نتصور أنها كانت مفعمة بالظلم والاستبداد:

حاولت زوجة (باتوو) الخائنة قتل زوجها عدة مرات قبل أن يجلس على عرش مصر، فلما تولى المملكة لم يشأ أن يقتلها دون تبرير هذا القتل بحكم المحكمة، ولم يكن شئ أسهل عليه من أن ينتقم بالقتل من زوجة مجرمة أثيمة، ولكنه أعلنها بالحضور أمام المحكمة التي تألفت من أكابر رجال القضاء في الدولة، ووقف جلالته خصماً نزيهاً لهذه الخائنة، وتلا مذكرة الاتهام على مسامع القضاة ثم ترك لهم الكلمة، فطلبوا إليها أن تدافع عن نفسها، ولكنها حنت رأسها مشيرة إلى الإفلاس من البراهين وإلى التسليم بالإجرام، فأصدر القضاة حكمهم عليها بالإعدام فأنت ترى هذه الصورة العادلة التي صور بها مؤلف القصة فرعونه العظيم. وقد تكون هذه القصة خيالية، ولكن الذي لاشك في هو أن الكتاب في كل عصر يستمدون مؤلفاتهم مما يقع حولهم من الحوادث ولو في شئ من المبالغة والمغالاة فنحن نستطيع أن نؤكد أنه كان في تلك العصور الغابرة قضاة يستندون في أحكامهم إلى قوانين مدنية وجنائية، وأنهم كانوا يسمعون ويقرأون دفاع المتهمين وشهادة الشهود، بل يبالغ الأستاذ (نوباري) المستمصر الألماني فيؤكد لنا أن القضاء في تلك العصور كان لا يقل عنه في عصرنا الحاضر بحال

وإذا غادرنا القضاء وعنايته بالقوانين وتوجيه العدالة والإنصاف واهتمامه بأنواع الدفاع وضروب المرافعات ثم اتجهنا إلى الطب ألفيناه قد بلغ حد النضوج ووصل إلى درجة توشك أن تلحق بالكمال. ويبرهن على ذلك ثقة الأطباء بأنفسهم وتحققهم من معارفهم إلى درجة المجازفة بحياتهم في سبيل توطيد تلك المعارف، فقد كان الطبيب إذا اخترع نوعاً جديداً من الدواء لم يكن قد سبقه إليه طبيب آخر يرفع اختراعه إلى هيئة الاختصاص حتى إذا نظرت فيه استدعته أمامها وتلت عليه نص الشرط الذي نلخصه فيما يلي: - (للطبيب أن يعالج مريضه بهذا الدواء الذي اخترعه، فإذا شفي وثبت بالكشف الطبي بأن شفي بسبب هذا الدواء، منح مكافأة مادية قدرها كذا وكذا. وأخرى معنوية، وهي تدوين اسمه واسم دوائه في الدواوين الرسمية والكتب العلمية المقررة، وإذا مات المريض مسموماً بدوائه حكم على الطبيب بالإعدام).

فإذا قبل الطبيب هذا الشرط وأخذ منه توقيع بالقبول أمام شهود عدول صرح له بالابتداء في تجربة الدواء.

وفي رأينا أن هذا النظام المصري القديم أدق وأحرص على سلامة الجمهور من نظام القرن العشرين الذي لا يتحرز فيه الأطباء من العبث بأرواح المرضى الذين أصبحوا لهم عبيداً يأتمرون بأوامرهم التي لا يلاحظ فيها قانون ولا تترتب عليها أية مسؤولية رادعة، بل لا يترتب عليها سؤال بسيط من قبل القضاء وضحايا الأطباء والصيادلة الذين لا يعنون العناية الكافية بتركيب الدواء لا تندرج تحت حصر، ومهما يكن من الأمر فهل تتصور أن أطباء ناشئين في الطب أو مبتدئين في الحكمة لم يقتنعوا بعد بتجاربهم العلمية يقدمون على تعريض حياتهم للخطر؟ أحسبك بعد أن صورت لك هذه المنزلة العالية التي ارتقى إليها الطب المصري في العصور القديمة توافقني على أن الآراء القائلة بأن الطب المصري كان نوعاً من الرقي والتعاويذ السحرية أو مشوباً بها كما صرح الأستاذ أمين الخولي في مذكراته صفحة 44 هي ضرب من الخرافات التي ليس لها من الأدلة العلمية مستند ولا دليل

وإذا ألقينا نظرة متأملة على الرسم مثلاً وجدناه لا يقل روعة وجلالاً عن بقية الفنون والعلوم الأخرى التي أسلفنا لك أنها كادت تصل إلى مرتبة الكمال

وأخص ما يمتاز به الرسم المصري هو ما يشاهده عليه الرائي من الحياة لأنك حين تنظر إلى ما يرسمونه من صور لا تشك في أنها حية تستمتع بالحركة والإحساس وذلك لإتقان رسمها وإجادة الفن فيها.

ولقد بلغ هذا التصوير درجة جعله يعم المعابد والمقابر ثم يتخطاها إلى المنازل والمنتديات، والحدائق والمتنزهات والمحاكم والدواوين وينقش على الحوائط والأسوار والسقوف والأراضي وفي غرفة النوم وحجر الاستقبال وقاعات المائدة وفي كل مكان. وإليك ما قاله الأستاذ (بريستيد) في هذا الشأن:

(وبلغت الفنون الجميلة درجة قريبة من الطبيعة. بعيدة عن الأوهام لم تبلغها أية بلدة أخرى في تلك العصور القديمة) إلى أن يقول: (بل كان المصري مغرماً بمظاهر الطبيعة الأصلية فقط كما يراها داخل منزله وخارجه، ولذلك نقش زهر (اللوطس) على أيدي ملاعقه وشرب النبيذ في أقداح زرقاوية اللون على شكل برعوم اللوطس، وصنع أرجل سريره بهيئة أرجل الثيران القوية العضلات ولبسها بالعاج، ورسم سقف منزله بهيئة سماء تبدو منها النجوم ورفعها على عمد شبيهة بالنخيل الباسقة الأغصان أو بسيقان اللوطس المنتهية أعاليها ببراعيم ذلك النبات، وكثيراً ما زين المصري سقوف حجراته برسوم الحمام والفراش الطائرة بين الأشجار. وكان يحلي أرض منزله باللون الأخضر على شكل مستنقعات يسبح بين أعشابها السمك ونشاهد بها أحياناً ثيراناً وحشية طاردة للعصافير المحلقة فوق الأعشاب المائلة، ويرى الناظر أن هذه الطيور تسعى في الوقت نفسه لخلاص صغارها من ابن عرس الذي يريد افتراسها.

أما الأدوات المنزلية المستعملة يومياً في منازل الأغنياء فجميلة متناسبة الأجزاء تشاهد على أبسطها صنعاً مناظر الطبيعة وجمالها المرئيات في خلال القطر المصري).

وليس هذا هو كل شئ في رقي الصناعات العملية في مصر بل إن هناك خوارق ومعجزات ظهرت على أيدي أولئك الصناع المهرة البارعين، فالتاريخ يحدثنا بأن الصائغين قد بلغوا في صناعة الحلي دقة لم يسع فنيي مصر الحديث إلا أن يعترفوا أمامهم بعجزهم الكامل عن مجاراتها، وهو ينبئنا كذلك بأن صناع الكؤوس والأكواب قد وصلوا في صناعتهم إلى حد أن يبتدعوا أكواباً من الصوان تشف عما في دخلها فيرى في وضوح كما يرى ما هو في داخل الزجاج سواء بسواء، وأن النساجين توصلوا إلى صنع غلائل من الكتان شفافة لا تحجب ما وراءها ولا ريب أن هذا هو في الصناعة أعلى مراتب الإعجاز.

ويحدثنا الأستاذ (بريستيد) في صفحة 66 من كتابه (أن مهندسي العمارة والبنائين عرفوا شيئاً كثيراً من علم رفع الأثقال (الميكانيكا) كما يستدل من قبو مقبرة ببيت الخلاف يرجع تاريخها إلى القرن الثلاثين قبل الميلاد وغير ذلك مما يبرهن على أن العلوم العقلية والعملية كانت قد وصلت في مصر إلى أبعد مدى تستسيغه تلك العصور.

هذا، ولما كانت الفلسفة الهندية هي أهم الفلسفات الشرقية جميعها بعد فلسفة مصر من ناحية وأقدمها إلا الفلسفة المصرية من ناحية أخرى فقد آثرنا أن نثني بها بعد أن بدأنا بفلسفة وادي النيل التي هي مبدأ الجميع في رأي أدق العلماء والباحثين.

(يتبع)

محمد غلاب