مجلة الرسالة/العدد 205/ذكريات. . .

مجلة الرسالة/العدد 205/ذكريات. . .

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 06 - 1937



للأستاذ علي الطنطاوي

هما موقفان لا أزال اذكرهما، أو تغمض عيني كف الغاسل:

أما الأول فعلى ضفاف بردى، في الثامن والعشرين من سبتمبر 1936

وأما الثاني فعلى شاطئ دجلة في الخامس من مايو 1937

كان بردى يخطو على مهل، متهللاً منطلق الوجه، يرد على الشمس الوليدة أول تحياتها، وهي تغمره برشاش من عطر أشعتها الحمراء. . . وكنت في السيارة الفخمة، انظر إلى جموع المودعين من الصحب والرفاق، الذين خرجوا من بيوتهم في هذا الصباح، ليودعوني قبل نزوحي إلى العراق فأقلب النظر في وجوههم، شاكراً لهم فضلهم، حزيناً لفراقهم، ثم أتأمل بردى صديق الصبا وسمير الوحدة ونجي النفس، فأبصر في خلاله ظلال الحور والصفصاف تميس دَلاً وتيهاً، وارى ظلال المآذن البعيدة السامقة تضطرب في الماء فابصر فيها ذكرياتي حية تطالعني وتحدثني، وتعيد على مسمعي قصة حياتي، وتتلو علي تاريخي فأحس بلوعة الفراق، وأشعر في تلك الساعة باني احب دمشق. . . دمشق مثوى ذكرياتي، ودنياي من الدنيا، وغاية أملي في حياتي. . . ثم يطوي المرج هذه الصور كلها، ولا يدع حيال عيني إلا صور اخوتي، فأتأملها بعين دامعة وقلب واجف خائف من الفراق، ثم تجتمع كلها في وجه واحد، هو احب الوجوه إلي وأدناها إلى قلبي. . . والمح في الماء مشهداً طال عليه العهد ونأى به الزمان. فأراه ينفض عنه غبار السنين العشر، ويعود حياً جديداً. . .

. . . رأيتني في محطة الحجاز، آية الفن الحديث في دمشق، والمحطة مائجة بأهلها كما يموج البحر بمياهه، فمن مسافر عجل، ومن مودع باك، ومن بائع يصيح. . . ومن آت وذاهب، وطالع ونازل. . . وكنت منزوياً في ركن من أركان القطار المسافر إلى حيفا، وإلى جانبي أختي الصغيرة. . . انظر إلى بعيد، فأرى هناك، في أخريات الناس امرأة تمسك بيديها طفلين، ملفعة بملاءة لا تبدي منها شيئاً، ولكن وراء هذا القناع الأسود عينين تفيضان بالدمع عالقتين بمكاننا من القطار. وخلال تلك الضلوع قلباً يخفق شوقاً، ويسيل دمعاً، ووراء هذه الوقفة الساكنة الهادئة ناراً تضطرم في الجو، وزلزالاً شديداً يدك نفسه دكاً. . .

وصفر القطار الذي يحملنا إلى مصر، فازداد قلبنا خفقاناً واضطراباً، ثم قذف إلى الجو بدخانه كأنما هو حي قد اخذ بموقف الوداع، فزفر زفرة الحزن الدفين، والألم الحبيس ثم هدر وسار وراحت المحطة تبتعد عنها وعني عالقة بيد تلك المرأة التي تلوح لي بمنديل أبيض، حتى غاب عني كل شئ. . .

هنالك تلفت فرأيتني وحيداً، ورأيت القطار يجد لينأى بي عن أهلي وبلدي، فهممت بإلقاء نفسي من نافذة القطار - لولا أن تعلقت بي أختي التي كانت على صغرها اكبر مني، وعلى أنوثتها أقوى واجلد. . .

أردت أن القي بنفسي لأني لم اكن أتخيل أن في استطاعتي الحياة يوماً واحداً بعيداً عن أمي التي كان تعلقها بنا، وتعلقنا بها لا يشبه ما نرى من الأمهات والأبناء، وكان. . . آه ماذا تفيد (كان)، وقد كان ما كان؟. . .

تلك هي أمي، التي مر على (غيابها) عني سنوات طوال، ولكني أحس كان الحادثة كانت أمس - فتحز في نفسي ولا أطيق أن اكتب عنها حرفاً

تلك هي أمي التي كانت لي أماً وأباً، بعد أبي رحمهما الله، وكانت حبيبة وكانت أستاذة، وكانت دنياي وكانت آخرتي. . . وكانت أمي!

تلك هي أمي التي فوجئت كما تفاجأ الشجرة الغضة الفينانة في ربيعها الزاهر، حين تعصف بها العاصفة فتدعها جذعاً مقطوعاً جافاً. . .

تلك هي أمي التي ما نسيتها - علم الله - أبداً، ولم اذكرها أبداً، كأنها تملأ نفسي ولكني لا اجري ذكرها على لساني. أراها في أحلامي حية فاشعر كأني عدت حياً، وأهم بعناقها وافتح عيني فأجد على وجهي حر لطمة الدهر الساخر، ولكني احمل اللطمة. وأغضى على القذى، ولا اخبر اخوتي بشيء، لئلا اذكرهم ما هم ناسون، أو اجدد لهم بالمصيبة عهداً، فأهمل ذكرى أمي ويهملونه. . . ولعل كل واحد منهم يحس مثلما أحس ويكتم مثلما اكتم!

ذكرت ذلك ساعة الوداع، لأني كنت متألماً، وليس لآلامي كلها إلا معنى واحد هو إني اذكر وفاة أمي، ذلك هو الألم عندي لا ألم سواه

فلما صحوت نظرت في وجوه المودعين فلمحت وجه أمي مرة ثانية، ولكني لمحته حياً ماثلاً في وجوه اخوتي الأحباء. فودعته بدمعة من العين، وابتسامة على الفم، وإشارة بالكف، ثم سارت بنا السيارة تطوي الأرض وتستقبل الصحراء. . .

ذلك هو الموقف الأول!

أما الموقف الثاني فقد كان على شاطئ دجلة في الهزيع الأول من الليل؛ وكانت محطة بغداد الغربية زاخرة بعشرات من خير شباب بغداد وزهرة فتيانها تركوا دروسهم وامتحانهم القريب وخرجوا من دورهم في هذا الليل ليودعوا صديقاً احبهم وأحبوه، واخلصوا له الحب واخلص لهم. . . ذلك الصديق هو أنا، وأولئك هم تلاميذي بل اخوتي، جاءوا يودعونني لا قياماً بواجب رسمي، ولا رغبة في ثواب ولا رهبة من عقاب، ولكن وفاء وحباً. والحب اجمل ما في الوجود؛ والوفاء اقدس ما فيه بعد الإيمان. . . وكنت مستنداً إلى نافذة القطار الذي سيحملني إلى البصرة، أصغي إلى خطبهم وأشعارهم التي صبوا فيها عواطفهم، وكتبوها بمداد قلوبهم، أتأمل فلا أرى (والله) إلا بردى ودمشق واخوتي

وغبت عني في شبه ذهول، فما انتبهت إلا وأنا وحيد في القطار، أضم إلى قلبي هذه الهدية التي قدمها إلي تلاميذي. وأطللت من النافذة فلم أجد إلا الظلام. . .

لما دخلت عليهم الصف أول مرة كنت مشتاقاً إلى بلدي كارهاً لغربتي متألماً ملتاعاً، فلم أر في الصف إلا عيوناً جامدة وقلوباً معرضة وأفواهاً مغلقة، وكانوا عندي من العدم لأنه لم يكن لهم في ذاكرتي وجود. ولكن لم ألبث أن وضعت بين أيديهم قلبي فأحببتهم كما يحب الأخ أخاه، (احبهم في مجموعهم لا احب واحداً منهم. . .) واخلص لهم، واحرص على رضاهم وأحس الفرح يغمر نفسي إذا قدمت لواحد منهم خيراً. أو درأت عنه شراً ويتصدع فؤادي إن وجدت أحدهم متألماً، فلا أني اخفف ألمه. وادفع عنه حزنه؛ وكنت أعيش بهم ولهم ومعهم

ووضعت بين أيديهم رأسي أطلعهم على كل ما اختزنته فيه هذه السنين الطوال. استغل اضعف المناسبات لأطلعهم على جمال الأدب العربي، وعظمة التراث الإسلامي، وقيمة التفكير الحديث، واتجاه النقد الجديد، وأعلمهم الاستقلال الفكري، واحفزهم إلى المناقشة، ولا استعمل في إقناعهم سلطة المدرس لان ذلك ضعف، ولكن استعمل قوة المحق ولسن الجدل النظار. واعترف لهم بالحق إذا ظهر على لسانهم؛ واقر باني لا ادري ما لا أكون أدريه. . . وابعث في ملكاتهم المهملة، وأشجعهم على الإنتاج والنشر. . .

وكان زملاؤنا المدرسين يحذرونني عواقب هذه الطريقة لان الطلاب (في رأيهم) لا يقدرون قيمة الحرية واللطف، ويحسونها عجزاً وضعفاً ويتخذونها سبيلاً إلى الشغب ولكني وجدتهم يقدرون قيمتها، ويحترمون المدرس العادل العالم اللطيف، أكثر مما يحترمون المدرس الجبار العنيف، ووجدت هذه الطريقة قد أجدت جدى كبيراً، فاقبل الطلاب على الأدب وقد كانوا عنه منصرفين، وصار احب الدروس إليهم وقد كانوا يكرهونه، ونشأ فيهم كتاب وشعراء ونقاد يؤمل منهم بعث الحياة الأدبية في العراق في بضع سنين. . .

وضعت بين أيديهم رأسي وقلبي، فلما أثمر الثمرة ولما تحركت هذه العيون بالإخلاص، وأقبلت هذه القلوب بالحب وتفتحت هذه الأفواه عن اجمل أحاديث العلم والأدب والود. . . ولما محيت تلك الفروق كلها. وزال التكلف بين المدرس والطلاب، ولم يبق إلا اخوة يعيش الواحد منهم للجميع، ويعمل الجميع للواحد. . . جاء الأمر بنقلي إلى البصرة. . .

وهأنذا الآن في البصرة في هذه الغرفة الصغيرة اذكر مجالسنا على شاطئ دجلة فيخفق قلبي خفقاناً شديداً، وأتمثل أمامي صورة أخي الشاعر وهو ينشدنا أعذب أشعاره التي تشبه في رقتها نسيم الماء الرخي اللين، وفي انسيابها دجلة التي خلع عليها الغروب ثوباً منسوجاً من خيوط النور فيه مائة لون. . . واذكر (ليلة المطر). . . ليلة جلسنا في هذه الحديقة التي تنبسط وراء المطار المدني في بغداد، وأمامنا الفضاء الذي يمتد إلى. . . إلى دمشق، لا يحجبه شئ؛ وكان مصباح المطار الأحمر القوي يريق ضوئه على الحديقة ومن فيها فيجعلها كأنها بقعة من عالم مسحور، لا يشبهه شئ، ولكنه جميل أخاذ يملأ النفس نشوة وسكراً؛ وكانت الطبيعة تبدو أمامنا كأنها لوحة خطتها ريشة ابرع المصورين؛ فهذه الحمرة العجيبة، وزرقة السماء الصافية، وسواد الليل عند الأفق، والنساء بثيابهن الملونة المبرقشة، والنادبون بقمصهم البيض، يمشون على الحشائش. لا يسمع لهم صوت، يتكلمون همساً. . .

وكان النسيم رخياً ناعشاً، تميل منه الأزهار فتفوح من أثوابها رائحة العطر، فتطفو على هذا النسيم والأضواء البعيدة - كأنها تائهة في الظلام فهي ترتجف من الخوف، وقد جمعت الطبيعة في تلك الليلة سحرها كله: صفاء السماء، وسكون الليل: والربيع الذي زخرف هذه الحديقة ورصعها بالورد والزهر، ووضع فيها خلاصة فنه ونتاج عبقريته

وكان كل شئ عاشقاً قد سكر بخمرة الجمال، وراح يحلم. فالصحراء الواسعة قد سكرت وتغلغلت في الظلام منفردة تحلم بالظل والماء، والسهول المجاورة راحت تحلم بربيع دائم، وعاد الأمس حياً حالماً بالخلود، واطل الغد نشوان يحلم بليلة مثل هذه الليلة. . .

وكنت احلم. . . فما راعني وهبط بي من سماء أحلامي إلا ضحكة عذبة رقيقة كأنها رنين الذهب، لم اسمعها بإذني ولكني رايتها بعيني تتدحرج طافية على وجه النسيم الأحمر حتى غاصت في الظلام الساكن، وعاد الصمت. . . وكانت ضحكة عاشقين قد نسيا الوجود وما فيه، وغابا في حلم حي يقظان!

فهاج ذلك صديقي الشاعر فانحنى علي، وألقى في أذني إحدى أغانيه (الجديدة)

(زرعت روض شفتي بالقبل فأزهر واينع، ولكن لم يقطفه أحد فذوى وجف

(وأعددت سرير الحب في قلبي وضمخته بالعطر، ولكن لم يهجع عليه أحد فعلاه الغبار

(كأن الناس لما خلقوا قسموا أنصافاً، ثم نثروا في الحياة، فمن وجد نصفه صار إنساناً، ومن وجد غيره كان مسخاً، ومن لم يجد بقي نصف إنسان

(فأين أنت يا نصفي الآخر؟

(لقد ضاع النصف الذي فيه قلبي، فمن هي التي يخفق قلبي في صدرها

(من هي التي تنظر بعيني، وتسمع بأذني؟

(ومن هي التي لم أرها أبداً، ولا أرى غيرها أبداً؟)

شعرت بأن أغاني الشاعر قد سمت بي إلى عالم كله خير وجمال، وشعرت بنشوة عجيبة وعلمت أن ما أنا فيه غاية السعادة ونهاية السمو، وإذا أنا اسمع نغمة موسيقية فاتنة عادت تسمو بي، حتى رأيت ما كنت فيه أرضاً وهذي سماء، فذكرت كلمة فاجنر: (تبدأ الموسيقى حيث ينتهي الشعر)

واختلط علينا الجمال، فصار باقة واحدة، قد اجتمع فيها همس الحب وألحان الموسيقى بعبق الزهر، وأريج العطر؛ بخيوط الأشعة، وروعة الألوان، فصرنا نسمع ما يرى، ونشم ما يسمع، وصارت الحواس كلها حاسة واحدة. . . هي حاسة الجمال!

وهأنذا اذكر مئات من الذكريات، وأتمثل طلابي كلهم أمامي حتى إني لأمد يدي أصافحهم فلا تقبض يدي إلا الهواء فأرتد مذعوراً واجلس يائساً. . . لقد غدا هؤلاء الفتيان جزءاً مني لأنهم عاشوا في نفسي ذكريات. . . كما عشت في نفوسهم ذكرى، فنحن مجتمعون ولو نأت بنا الديار. . .

وهأنذا آلف هذا البلد الذي كرهته واجتويته، وأصبر على شظف العيش فيه من اجل هؤلاء الطلاب الذين أحبوني هم أيضاً و. . . أحببتهم، وتعلقوا بي، فلا يأتون المدرسة إلا لسماع درسي، فان لم يكن لي درس أقاموا في بيوتهم يجدون ويستعدون للامتحان، ولا يدخرون وسعاً في إسداء يد إلي أو دفع الألم عني. . . ويحرصون على راحتي اكثر من حرصهم على نجاحهم في امتحانهم، ويفضلون كلمة مني على كلمة تقولها القانون. . .

اصبر من اجل هؤلاء الذين اغرس الآن حبهم في قلبي لانتزعه منه غداً وادعه جريحاً. . . أفهذه حياة المعلم؟ ماذا يبقى من قلب في كل مدرسة منه قطعة؟

هنيئا لمعلم ليس له قلب. . . . . .

ويا ويل المعلم إذا كان إنساناً. . . . . .

(البصرة)

علي الطنطاوي