مجلة الرسالة/العدد 205/رسالة الفن
مجلة الرسالة/العدد 205/رسالة الفن
مكيلانجلو
العبقرية الملهمة
للدكتور احمد موسى
- 2 -
وعاد من بولونا إلى فلورنسا في صيف سنة 1495 بعد أن نحت فيها بعض القطع التي نذكر أهمها (الملاك الراكع) و (القديس بطرونيوس). أما في فلورنسا فقد عمل تمثال (يوحنا الصبي)، وهو التمثال الذي أتمه سنة 1495 كما سبق القول وهو محفوظ ببرلين
وله أيضاً تمثال مشكوك في صحة انتسابه إليه يسمى (أودونيس الميت) لا يزال محفوظاً بمتحف ناسيونال في فلورنسا
وسافر في يونيو سنة 1496 إلى روما لأول مرة، وأقام فيها إلى يونيو سنة 1501، وهناك أنتج أبرز عمل في مرحلة حياته الأولى بناء على طلب أحد الفرنسيين سنة 1499 لعمل مجموعة منظرية تمثل المادونا حاملة جثة المسيح على فخذيها وهي موجودة بكنيسة بطرس بروما. والناظر إليها يرى إشعاع المثل الأعلى ممثلاً خير تمثيل في كل أجزائها، فضلاً عن رجوعها إلى الفن الإغريقي من الناحية المجموعية، إلى جانب حداثتها في قوة الإخراج، وحسن التكوين، والألم والجزع الذي ارتسم على وجه المادونا بالغ حد الإعجاز لغيره
وله أيضاً قطعة أسماها باخوس (إله الخمر) (ش 1) عملها تنفيذاً لطلب السنيور جالي أحد مشاهير النجار في عصره، وبالنظر إليها يتضح الإبداع في التكوين الجسماني الرقيق، كما تظهر لنا الكيفية التي أخرج بها الوجه والشعر المحاط بعناقيد العنب ظهوراً جلياً وبهذا يتم الانسجام المعنوي للتمثال، انظر إلى اليد اليمنى وكيف حملت وعاء الخمر، وتأمل إلى أي حد بلغت رقة إله الخمر في طريقة حمله هذا الوعاء، ثم شاهد الولد الصغير الجالس إلى يمين باخوس حاملاً عناقيد أخرى غطاها بلباسه في شئ كثير من الحرص أشبه بمن يطوق حاجة عزيزة عليه. وقد كون ميكيلانجلو الساق على هيئة ساق الخيل إكمالاً للتعبير عن قصته الإغريقية
وله غير ذلك تمثال كيوبيدو (أو أبولو) محفوظ بمتحف لنسنجتون بلندن
ومن يونيو سنة 1501 إلى مارس سنة 1505 أقام في فلورنسا واتصل فيها بليوناردو دافينشي، بالرغم من اختلاف مشارب كل منهما؛ إلا أنه تأثر به إلى حد بعيد. وله في هذه الفترة تمثال (داود) (ش 2) وهو منحوت من قطعة واحدة من الرخام ومحفوظ بأكاديمية فلورنسا
ولعلك تلمس الفارق الشديد بين تمثال باخوس وبين هذا التمثال من الناحية المجموعية والتكوينية والتفصيلية، وبذلك تستطيع أن تقرر أن هذا العبقري الملهم قد أدى رسالته بأقصى ما يمكن الوصول إليه من النجاح.
وتمثاله (صبي الراعي) لا يقل عن هذين التمثالين روعة، وهو لصبي طويل حسن التكوين إلى أبعد حد، ارتسمت على وجهه مسحة الصلابة والأنفة الريفية. وغير ذلك خمسة تماثيل صغيرة عملها لتحلية هيكل كنيسة سينا والمادونا مع يسوع الطفل بكنيسة لييفراون في بروجه، وهي ويسوع بالحجم الطبيعي تقريباً، وقد جعل ملامح المادونا على غاية البهاء والتناسب
هذا وله منحوتات نصف بارزة مستديرة الشكل للمادونا مع الطفل القارئ ويوحنا، وهي محفوظة بفلورنسا وبأكاديمية لندن
إلى هنا تكون مرحلة إنتاجه في شبابه قد انتهت. ويستقبل مرحلة الرجولة من سنة 1505 عندما استدعاه البابا يوليوس الثاني إلى روما ليشرف على تشييد ضريحه. وقد صادفته عقبات جمة حالت دون تنفيذ هذا المشروع الفني، وقاسى الأمرين. أهمل التصميم الذي وضعه لهذا الضريح بعد المجهود الهائل الذي استنفده. ولم ينفذ إلا بعد انقضاء أربعين سنة بعد كثير من التعديلات والبتر. وأول خطوة لهذه المأساة بدأت عندما أهمل البابا نفسه تصميم ميكيلانجلو مدة سنة كاملة، ولم يطق العبقري هذا التسويف فرحل إلى فلورنسا، لأنه لم يكن قد حضر إلى روما إلا بناء على استدعاء البابا.
وشاءت المصادفة أنه كان يوماً في بولونا، وإذا به يواجه البابا ويصافحه، فطلب إليه ترميم تمثاله البرنزي في هذه المدينة؛ وهو تمثال قيم كان قد أصيب بالعطب من جراء التخريب الذي قام به البولونيون فيها. وبعد انتهائه من العمل عاد إلى روما في ربيع 1508، وهناك كلفه البابا تعديل مصورات السقف ذي الستة عشر حقلاً بالفاتيكان، وفيه انهمك عاملاً أربع سنوات من 1508 إلى 1512.
وبعد موت يولويس بدأ ميكيلانجلو في تنفيذ مشروع الضريح من سنة 1513 إلى 1516، وما قارب الانتهاء حتى فاجأه ليو العاشر خليفة يوليوس بوقف العمل.
وانقضت الأيام وتعاقبت الشهور، فاستأنف ميكيلانجلو العمل في الضريح الشامل لبناء أرضي مربع الشكل ينتهي أحد أضلاعه إلى حائط مجاور؛ كله من الرخام وله ستة نوافذ مستعارة كل منها أشبه بقبلة أقام فيها تمثالاً لإحدى آلهات النصر وجعل السقف محمولاً على رؤوس الأسرى كما هو واضح بالنظر إلى الصورة. هذا عدا التماثيل الحاملة للتابوت، والمحيطة به، منها ستة جالسة وأربعة واقفة، وعدا تمثال البابا نفسه راكعاً أعلى التابوت.
وللبناء الأرضي لهذا الضريح تمثالان لعبدين (محفوظان باللوفر) وفيهما تمثل ألم العبودية تمثيلاً رائعاً، كما أن له تماثيل أخرى لمساجين وهي أيضاً عظيمة.
ولابد لنا من ذكر تمثاله (النبي موسى) وهو الجالس في الوسط (ش 3) وهو تمثال معروف في العالم كله بعظمة إخراجه وقوة إنشائه، ولذلك يعتبر دون حاجة إلى تدليل أعظم تمثال مفرد في مدرسة النحت الحديث. انظر إليه تره جالساً وقد ارتسم على وجهه ألم التفكير في مصير بني إسرائيل، وظهرت بوادر الغيظ على وجه النبي، مما دفع به إلى وضع يده اليسرى على بطنه، وأسند اليمنى على كتابه، مداعباً شعر لحيته الطويل بأصابعه، ألا ترى أن ميكيلانجلو بهذا النحو قد وفق إلى إخراج آية من آيات الفن الخالدة؟ وهل تظن أنه مهما أوتي فنان من سعة الخيال وقوة الإخراج، يستطيع أن يعبر لك عن نبي طائفة من الناس دون وطن معين، بأحسن مما أخرجه ميكيلانجلو؟ تأمل الكيفية التي أخرج بها التمثال العظيم الذي يعد في نظر الدارس معجزة فنية لا يستطيع إنسان أن يأتي بمثلها! ثم انظر إلى اللحية وإلى طول الشعر والبعثرة التي أصابته من مداعبته له بأصابع يمينه كما قلت.
هذا كله لا ينسينا التنويه بعظمة الإخراج الكلي للضريح، الشامل لنقوش على غاية الدقة والانسجام المعاصر
ترك روما إلى فلورنسا في صيف سنة 1517 للشروع في عمل الواجهة البنائية (لسان لورنسو) التي قرر أن يكون لها ثمانية أعمدة واثنا عشر تمثالاً كلها من الرخام، وستة تماثيل نحاسية، وتسعة عشر منظراً نصف بارز، وصادفته صعاب لا تقل عن سابقتها، إلا أن نظرته إليها لم تكن بالحدة الأولى.
ظل مقيماً في فلورنسا، وهناك أتم في سنة 1521 إخراج التمثال الرخامي للمسيح، والذي كان قد وضع منهج العمل فيه سنة 1514 ولعل هذا التمثال أعظم قطعة تمثل فيها النبل والترفع في الإخراج
وله أيضاً في هذه الفترة تمثال مشهور لأبولو، تركه دون إكمال وهو لا يزال محفوظاً بفلورنسا.
أما ثاني إنتاج رائع في حياته، فهو وضعه لتصميم مقابر المديتشي وتنفيذه لما جاء فيها من فن الإعجاز، وهو ما سنتناوله بالدرس في المقام القادم
احمد موسى