مجلة الرسالة/العدد 206/أدب الرافعي أدب ممتاز

مجلة الرسالة/العدد 206/أدب الرافعي أدب ممتاز

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 06 - 1937



للسيد كمال الحريري

للمرحوم فقيد الأدب مصطفى صادق الرافعي في وصف الجمال وصوره والتعبير عن آثاره في النفس والروح طريقة ممتازة هو فيها طراز وحده بين أدباء العربية في جميع عصورها. فأنت من وصفه الجمال الإنساني أمام لوحات بيانية سحرية، تكاد الحياة والعاطفة والروح تنطق مجتمعة من خلالها. وهو في الوصف الروحي العاطفي للجمال الإنساني المادي، صاحب مدرسة سدت في فراغ الأدب ثغرة ما أغنت استعاراته وتشابيهه عن سدها شيئاً. ولا غرو فإن روح التعبير عن الجمال التي تسللت إلى أنامل فيدياس الإغريقي فأنشأت له من الصخر الأصم هياكل وتماثيل بشرية في عاطفتها وحيويتها وروحها، قد هبطت بعد أجيال على قلم الرافعي، فأوحت إليه تحفه الأربع في فلسفة الجمال والحب. وأنا في هذا الحوار الذي دار بيني وبين صديقي الرسام إنما أعرض لوناً جديداً حيوياً من أصباغ وصف الجمال البشري، للأستاذ الرافعي وحده فضل استكشافه وفرضه على الأدب، ولوددت أن الأدباء غمسوا فيه ريشاتهم حين رسمهم لوحات الجمال الإنساني. ولا بأس أن أحتكم في تذوق هذا اللون أو النفور منه إلى أدباء الرسالة ليقولوا فيه كلمتهم.

لي صديق فنان في الرسم، وريشته لسانه، وترجمانه ألوانه، أسمعته جملة لي في وصف أبي نواس وهي: لقد كان أبو نواس في حدائق الكرخ فراشة شاعرة ترتع بين أغصان القدود وأوراد الخدود. ثم وقفت عند هذه الجملة منتظراً أن تروقه هذه الاستعارة. ولكنه زاد علي أن قال: صعب علي يا صديقي أن أتصور كيف يتجرد صاحبك أبو نواس من هيكله البشري ليتجسد في جسم فراشة شاعرة ترتع بين أغصان القدود ووردات الخدود. وهل القدود مما تنبت الأيكة والخدود مما تتفتح عنه خميلة الورد؟

قلت دهشاً: أين يذهب بك يا صاح؟ إن هي إلا استعارة بديعة يلجأ إليها الأدباء حين يشبهون اعتدال القد بالغصن وحمرة الخد بالورد. قال: إن أصحابك يسيئون إلى الخدود الموردة والقدود المتأودة حين يشبهون الأولى بالورد والأخرى بالغصن. الغصن جميل والورد فتان ولكن جمالها مادي لا يقاس إلى جمال خد العذراء حين يتورد وقوام الحسناء حين يتأود.

وأمامي الآن - وهنا أشار إلى لوحته - منظر فتاة حسناء تقطف من خميلة وروداً زاهية حمراء. فأيهما أجمل وأنضر وأحلى وأملح؟ هذه الورود في يديها أم هذه الحمرة في خديها؟. إن حمرة خديها الملتهبين بدماء النضارة والصبا حرام أن تشبه بحمرة الورد. فليس في الورد خدود تلتهب التهاباً، ولا وجنات ترف نضارة وشباباً. وكيف يستوي خد الورد البارد الجامد الذي لا يحرك إحساساً ولا يثير عاطفة، وخد الفتاة المضرم من نار الصبى، المتوهج من حرارة العاطفة، المشبوب من خمرة الروح، المطلول من ندى الشهوة، يثير في كل قلب ألواناً من المشاعر الراقدة، وضروباً من الأحاسيس الهامدة؟

وعيون النرجس على ما بها من جمال وتناسق بليدة جامدة فليس فيها هدب طويل يثير، ولا جفن كحيل يغري. وأين من مقل النرجس (مغناطيس) العيون (وكهرباؤها) وسحرها وإغراؤها؟

الجمال بسره الكامن وجوهره الرمزي إنما هو فن الروح والعاطفة، فكيف تعبر عنه وردة محمارة أو غصن أملود أو طاقة نرجس أو سبيكة ذهب أو فضة مجلوة أو ما شئت من هذه التشابيه النفسية المادية التي خلقت لإمتاع النظر اللهيف وإرضاء الحاسة الرغيبة؟ أما تمثيل الجمال وتصوير الحلاوة ففن تلعب فيه الروح أهم دور وأخطره، وليست كل هذه التشابيه من فن الروح في مراح ولا مغدي. قلت: ولكن الجاحظ يقول في وصف جارية حسناء (وكأنها طاقة نرجس أو كأنها ياسمينة أو كأنها خرطت من ياقوتة) ثم ينقطع به نفس الوصف فلا يجعل للروح وفنها بالاً ولا ذكراً. قال صديقي ولكن ما عجز عنه الجاحظ من الوصف الروحي للجمال المادي أدركه نابغة كتاب هذا الجيل الرافعي. وهمك به من أديب يستعلن بالأدب العربي على آداب الأمم الراقية ويقول (أنا أدب لغة القرآن).

ولقد لبثت زمناً أبتغي من الأدب العربي صوراً بيانية لوصف الجمال الإنساني تكون في دقة تعبيرها كلوحات الزيت أو صور الفوتوغراف، فلا أظفر منه إلا بهذه الاستعارات (الزهرية) أو التشابيه الجوهرية حتى قرأت للمرحوم كتبه الثلاثة في فلسفة الحب والجمال فألقيت عصاي وآمنت بمعجزات الرافعي.

قال الأستاذ رحمه الله في كتابه حديث القمر:

يا رحمة لهذا الجمال! وجه وضئ الطلعة كأنه السعادة المقبلة يصل إليه دم الشباب من القلب فيتحول فيه إلى جمال وفتنة، وكأن معاني الحسن التي تتحير في خديه حقيقة إلهية تطل على النفوس من وراء الشفق. فيه عينان تنظران والله بروح تكاد تنطق ولا يفهم عنها إلا كأنها ناطقة. وتفيضان دلالاً وتفتراً فكأنما تلقيان على الروح فترة تحلم فيها من أحلام السماء وتستيقظ. وخدان تحير فيهما الجمال فوقف يتلفت عن يمين وشمال، وتراهما أسيلين بارزين، فيالله! هل هما ثديان صغيران من الورد يرضعان كفل الحب؟ قال: صديقي فكم بين هذا الوصف الساحر الدقيق العاطفي وبين وصف صاحبك الجاحظ المادي السطحي (وكأنها طاقة نرجس وكأنها ياسمينة)؟. إن هذه التشابيه على ما بها من جمال المادة والعطر واللون مادية لا ترسم حور العين وسحر الجفون ولا تصور تواثب النهود والحياة الكامنة في الخدود. أتدري لماذا؟ لأن لغة العواطف يا صاحبي غير لغة الورود، وتمايل الأغصان لا يشبهه تأدد القدود.

(حلب)

كمال الحريري