مجلة الرسالة/العدد 206/الإسلام والديمقراطية

مجلة الرسالة/العدد 206/الإسلام والديمقراطية

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 06 - 1937



للأستاذ عبد المجيد نافع

بقية ما نشر في العدد الماضي

رأى عمر مرة يهودياً ممسكاً برسول الله يطالبه بدين له، فعظم ذلك عليه وأخذ بخناق اليهودي وقال: دعني أقتله يا رسول الله. فقال: دعه يا عمر إن لصاحب الحق مقالاً

وخطب أبو بكر فقال: القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق إن شاء الله تعالى

واختلف عمر مع أعرابي فاحتكما إلى أبي بكر فقال: قف بجانب خصمك وقص يا ابن الخطاب قصتك. فقام عمر وعلى وجهه أثر الامتعاض. فقال له أبو بكر: أيسوؤك أن تقف بجانب خصمك؟ قال: لا، ولكن ساءني أن كنيتني وفي الكنية تعظيم

ولما أسلم جبلة بن الأيهم ملك غسان وفد على عمر بن الخطاب بأبهة الملك وحشمه فتلقاه عمر بالترحيب، وبينما هو يطوف يوماً وطئ على إزاره أعرابي فضربه على وجهه، فشكاه الأعرابي إلى أمير المؤمنين، فاستدعى عمر جبلة وقال له: إما أن ترضيه وإما أن يضربك كما ضربته. فكبر ذلك على جبلة وقال: ألا تفرقون بين الملك والسوقة؟ قال: لا، قد جمع بينكما الإسلام. فاستمهله إلى الغد ثم أخذ قومه وفر بهم ليلاً، ولحق بالإمبراطور هرقل بالقسطنطينية

وعزل عمر بن الخطاب خالد بن الوليد من قيادة الجيش وقال له: ما عزلتك لريبة فيك، ولكن افتتن الناس بك فخفت أن تفتتن بالناس

على أن نفس خالد كانت متشبعة بمبادئ المساواة، فارتضى أن يهبط من القيادة إلى مصاف الجندية، وأن يكون في الجهاد جندياً بسيطاً

وإن شئت أن ترى آية من آيات المساواة في الإسلام فأنعم النظر في كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري في القضاء حيث يقول: آس بين الناس في مجلسك ووجهك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا يخاف ضعيف من جورك

وكذلك كان يبغي عمر العدالة ومظاهر العدالة

وجمع عمر الناس بالمدينة حين انتهى إليه فتح القادسية ودمشق فقال: إني كنت امرأً تاجراً وقد شغلتموني بأمركم هذا فماذا ترون أن يحل بهذا المال؟ فأكثر القوم وعلي رضي الله عنه ساكت. فقال: يا علي ما تقول؟ قال: ما يصلحك ويصلح عيالك بالمعروف ليس لك من هذا الأمر غيره. فقال: القول ما قال علي بن أبي طالب

وما كان المسلمون يأنفون من العمل الحر الشريف، فقد كان أبو طالب يبيع العطر وربما باع البر. وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه بزازاً. وكان عثمان بزازاً. وكان طلحة بزازاً. وكان عبد الرحمن بن عوف بزازاً. وكان سعد بن أبي وقاص يبري النبل. وكان العوام أبو الزبير خياطاً. وكان الزبير جزاراً، وكان عمرو بن العاص جزاراً

يفاخرنا الغربيون بعظمائهم الذين خرجوا من صفوف العمال وأولئك بناة مجد الإسلام قد خرجوا من جميع البيئات. ونبتوا في كل الطبقات

وما سقت لك تلك الأمثال عبثاً، وإنما أردت أن أدلك على أن المساواة في معناها الصحيح، وفي كافة مظاهرها ومختلف صورها لم تتحقق يوماً كما تحققت في الصدر الأول من الإسلام

مساواة أمام القانون، فقد شرع للناس كافة لا فرق بين عظيم وحقير، وغني وفقير، وقوي وضعيف

مساواة أمام القضاء، ولقد أطلعتك على جانب منها في أروع مظاهره وأسمى معانيه

مساواة في الوظائف العامة، فقد رأيت كيف ينشأ الرجل منهم في البيئة الصغيرة ثم يصل إلى أسمى مناصب الدولة

مساواة في الضرائب، فما كانوا يرهقون أحداً أو يظلمون فتيلا

وعلى الجملة فقد كانت مساواة في الحقوق والواجبات

حقق الإسلام مبدأ المساواة السياسية والمساواة المدنية

على أنه لم يشأ أن يمني أتباعه بالمساواة الاقتصادية أو بعبارة أوضح بالمساواة في الأرزاق، ذلك بأنه دين الفطرة

وكيف السبيل إلى المساواة الاقتصادية، وفي الناس العملاق والقزم والقوي والضعيف وجبار العقل والأبله المعتوه

إن نواميس الطبيعة تأبى المساواة الاقتصادية، ولئن جاز أن تكون في هذا الميدان مساواة فأولى بها أن تكون مساواة في البؤس والشقاء

رأى الإسلام أن المساواة الطبيعية مستحيلة. فقال تعالى في محكم كتابه: وجعلنا بعضكم فوق بعض درجات

وشاء الإسلام أن يلطف من قسوة قوانين الطبيعة فشرع الزكاة. وعندي لو أن نظام الزكاة طبق على وجهه الصحيح لوجدنا السبيل إلى حل المسألة الاجتماعية التي عجز إلى اليوم عن حلها فطاحل الاجتماع في أوربا. تلك المسألة التي كانت مثار النضال بين الطبقات، ومبعث المذاهب المتطرفة والنظريات الهدامة

وإذن فليس من الإسراف في القول أن يقال أن الإسلام هو الحصن الذي يرد غزوة المذاهب الهدامة التي تهز كيان المجتمع الأوربي أعنف الهزات، وتهدد الحضارة الأوربية بالتلاشي والفناء

لم تعرف أوربا المساواة في القرون الوسطى فقد انقسمت الشعوب إلى طبقات ممتازة وطبقات محرومة من الامتيازات، وكان للأشراف قوانينهم الخاصة ومحاكمهم الخاصة وعقوباتهم الخاصة وضرائبهم الخاصة، وكانت المدارس الحربية يحرم دخولها على طبقات الشعب، وكانت المناصب الكبرى في الدولة وقفاً على طبقات الأشراف

وهل تحققت المساواة بمعناها الصحيح في أوربا اليوم؟ لا تزال هناك مراحل كثيرة لا يزال على أوربا اجتيازها قبل ترسيخ قواعد المساواة

أوليس النظام في فرنسا مزيجاً من النظم الديمقراطية والأوضاع الملكية والأشكال الأرستقراطية؟

وإنجلترا التي يقولون عنها إنها مهد النظام الدستوري ومعقل الديمقراطية أوليس فيها إلى اليوم لوردات ومجلس لأولئك اللوردات؟

أثار كاتب فرنسي الشكوك حول تحقق مبدأ الحرية السياسية في فرنسا فاسترعى النظر إلى أن رأي الأمة الفرنسية لا يؤخذ في أمس الشؤون بحياتها وأشدها تعلقاً بمصيرها كحالة الحرب مثلاً

واستلفت ذلك الكاتب الأنظار أيضاً إلى أن القضاة في فرنسا يؤخذون من بيئات خاصة والمحلفين من طبقات عليها مسحة الأرستقراطية، واختلاف العقوبة حين يرتكب الفعل الواحد غني أو فقير

والحكم مع إيقاف التنفيذ؟ أفلا يكاد يستأثر به الغني دون الفقير مع أن الغني قد يكون اختلس مبالغ طائلة أو بدد أموالاً كثيرة؟

أفلا يسخر المداره المقاويل من كبار المحامين بلاغتهم في انتزاع في انتزاع الأغنياء دون الفقراء من براثن العدالة؟

وهل يتاح للفقير ما يتاح للغني أن يبقى بملابسه فلا يرتدي ملابس السجن، ويأكل من بيته فلا يأكل من طعام السجون حين يكون سجيناً تحت التحقيق مقابل جعل بسيط تتقاضاه منه إدارة السجن؟

وأين المساواة إذا كنتم أيها الغربيون تسلحون الأغنياء بأسلحة العلم العالي وتجردون منه الفقراء الذين لا يكادون يجدون السبيل إلى ثمن الخبز فضلاً عن أجر التعليم؟

ليس عجيباً إذن أن يهاجم الديمقراطية خصومها تارة باسم العلم وطوراً باسم الواقع

وليس بدعاً أن يصيح صائح: المجتمع الأوربي يسعى للمساواة ولا يجد السبيل إليها، شأنه في ذلك شأن الإنسانية التي تجد في طلب السعادة والحقيقة فلا تظفر بهما كما أعيا طلابهما فوست جيته

التسامح الديني في الإسلام يقابله الاضطهاد الديني في أوربا في عصور الظلمات

وإذا ذكرنا اضطهاد الفكر والعقيدة ذكرنا محاكم التفتيش

وفي الحق لم تشهد الإنسانية قضاء أشد نزوعاً إلى الظلم وأكثر جنوحاً إلى القسوة من قضاء محكمة التفتيش

نهضت تلك المحاكم لتصد عن الكنيسة تيار الإلحاد المتدفق، فلئن كانت دينية في نشأتها فان التعصب قد سخر العدالة في سبيل تحقيق لبانته وغايته

وفوق ذلك فقد وقفت تناهض كل حركة فكرية وعلمية، ولعل من أبرز ضحاياها غاليلو الرياضي الفلكي الشهير. أحدث ذلك العالم ثورة في العلوم الفلكية ولبث ردحاً من الزمن يواصل العمل في بث نظرياته في دوران الأرض. فأصدرت البابوية، وفقاً لآراء أحبار محكمة التفتيش قراراً بنقض تلك النظريات وتحريمها، واعتبارها تحدياً للنصوص المقدسة. ونصح البابا لغاليلو بالكف عن نشر دعاويه. فلم يأبه الرجل لقرار التحريم، ولم يحفل بذلك النصح، ومضى في خدمة العلم والحقيقة. وفي عام 1632 نشر كتابه (محادثات عن الأصول العالمية) فأحدث صدوره رجة عظيمة واستقبلته دوائر العلم والفكر في أوربا استقبالاً حماسياً منقطع النظير. وهنا ثارت ثائرة الكنسية وحرمت بيع الكتاب في الحال. ودعي غاليلو للمثول أمام محكمة التفتيش في روما، فاعتذر بشيخوخته وضعفه وكان قد نيف على السبعين. فاستشاط البابا غضباً وعد تخلفه عصياناً. فأجاب الدعوة واعتقل في قصر محكمة التفتيش في إبريل من عام 1633. حقق معه وعذب ولم ترحم محكمة التفتيش شيخوخته وضعفه. وكانوا كلما أمعنوا في تعذيبه، ولجوا في التنكيل به، أمعن هو في التشبث بالحق، والإصرار على الحق. فإذا زادوه نكالاً صاح في وجوههم: ومع ذلك فإن الأرض تدور!

وإنه ليهولك أن تعلم أن عدد المحكومين عليهم من محاكم التفتيش المختلفة بلغ في الفترة ما بين 1481 - 1498، 125294 منهم 8800 أعدموا بإحراقهم و6500 أحرقت رموزهم و90 ألفاً طبقت عليهم عقوبات مختلفة بالسجن والغرامة والتوبة

وفي الفترة ما بين 1499 - 1506 بلغ عدد المحكوم عليهم 34992 منهم 1664 أحرقوا و832 أحرقت رموزهم والباقون وقعت عليهم أحكام مختلفة

ومن 1506 إلى 1518 بلغ عدد الضحايا 50 , 167 من هؤلاء 2536 ماتوا حرقاً و1638 أحرقت رموزهم والباقون طبقت عليهم عقوبات أخرى

والآن ندع التقدير للمؤرخ الشهير (لورنتي) وهو أكبر حجة وأعظم ثقة في الموضوع

31 , 912 أحرقوا

17 , 659 أحرقت رموزهم

271 , 450 طبقت عليهم عقوبات شديدة

ــــــ

341 , 021 المجموع

والآن فاسمع هذا الوصف الذي تقشعر له الأبدان وصاحب الوصف هو فيكتور هوجو ألقاه في الاحتفال بتأبيت فولتير:

في 13 أكتوبر من عام 1761 وجد شاب مشنوقاً. ثارت الخواطر واضطربت الأفكار.

وهاج رجال الدين بينا أخذ رجال القضاء في التحقيق. ومشى الناس بعضهم إلى بعض يتساءلون: انتحار أم قتل؟ وكان الاتهام منصباً على رأس الوالد. وقال الذين أثاروا الشكوك حوله إنه من الهجنوت وقد حال بين ابنه وبين اعتناق المذهب الكاثوليكي. وكانت البداهة تمج هذا الاتهام وتحمي الوالد من ارتكاب هذا الجرم الفظيع. وإلا فأي عقل يسوغ أن يسفك الأب دم الابن ويشنق الشيخ الشاب

وما لبث الناس أن شهدوا في يوم 9 مارس سنة 1762 مشهداً هائلاً رهيباً. رأوا رجلاً جلل الشيب فوديه يساق إلى أحد الميادين العامة، ذلكم هو جان كالا، وما راعهم إلا أن يروا الشيخ المتهدم الفاني عاري الجسم مطروحاً على عجلة موثق الأكتاف متدلي الرأس. ووقف إلى جانب المشنقة ثلاثة رجال فأما الأول فطبيب ليعنى به. وأما الثاني فقس يحمل الصليب. وأما الثالث فالجلاد وبيده قضيب من حديد.

وعرت الضحية نوبة ذهول واضطراب، وتمشى الرعب في أضالعه، فما كان يرنو إلى القس بل كان يرمق الجلاد بنظراته المضطربة الحائرة، وما يلبث الجلاد حتى يهوي بالقضيب الحديد فيهشم للمسكين ذراعاً. أنين يمزق نياط القلوب يعقبه فقد الرشد. فيتقدم الطبيب فيعيده إلى الصواب بشم بعض الأملاح. فينبري الجلاد لضربة جديدة. صرخات دامية ثم غيبة عن الصواب. يعيدونه للحياة والجلاد يعاود الضرب. وإذا كان كل عضو لابد أن يكسر في موضعين فلا مفر له من تلقي ضربتين. وإذن فقد تلقى المسكين ثماني ضربات. وفي عقب الضربة الثامنة يقدم القس له الصليب ليقبله. على أن (كالا) يشيح عنه بوجهه. لو كانت الرحمة تجد سبيلاً إلى تلك القلوب المتحجرة لقلنا إن كان في نفوسهم بقية منها فقد أجهز الجلاد على (كالا) بضربة قاضية من رأس القضيب الغليظة، حطمت صدره تحطيما. وبذلك وضع حد لعذاب كالا وآلامه. إذ فاضت روحه في الحال.

دام التعذيب ساعتين كاملتين، وما إن مات كالا حتى تبين في جلاء ووضوح أن الشاب مات منتحراً. على أن جريمة قد ارتكبت ومن هم مرتكبوها؟ هم جماعة القضاة الذين قضوا على كالا بغير حق.

وفي عام 1765 بعد ليلة عاصفة وجدوا على إفريز أحد الجسور صليباً خشبياً عتيقاً ملقى على الأرض. ومضت ثلاثة قرون والصليب معلق في رأس السور. فمن الذي طرح الصليب أرضاً؟ من ذا الذي اجترأ على ارتكاب ذلك الإثم؟ لا يعلم أحد. أيكون أحد المارة هو الذي عبث به؟ أم تكون الريح هي التي عصفت به؟ ويرى الناس مطران (أميان) يرغي ويزبد، ويبرق ويرعد، ويتوعد ويتهدد بالنار كل من يعلم الحق ثم يكتمه. وهنا تتلاقى هوجاء التعصب مع هوجاء الجهالة. ولا تلبث العدالة أن تكتشف أو تتوهم أن تكتشف أن ضابطين مرا بالجسر وأنهما كانا ثملين وينشدان نشيداً حربياً؛ فأما أحدهما فيلوذ بأذيال الفرار، وأما ثانيهما (لابار) فيؤخذ بتلابيبه، فيسأل، فيعتصم بالإنكار ويقسم جهد أيمانه إنه لم يمر بالجسر. فيبدو لهم أن يسألوه عن شركائه. ولكن شركاءه في ماذا؟ أفي أنه اجتاز الجسر؟ أم في أنه أنشد وصاحبه نشيداً عسكرياً؟ ثم يعذبونه لينتزعوا منه اعترافاً فيحطمون إحدى ركبتيه. والمكلف بأخذ الاعتراف منه يهوله صوت قرقعة العظام حتى يغيب عن صوابه من عظم الهول. ثم يسوقون لابار إلى أحد الميادين العامة، وقد أذكوا في بعض جوانبها نيراناً مضطرمة. يتلون عليه الحكم. فيكسرون إحدى يديه. ثم يستلون لسانه بكماشة من حديد. ثم يرحمونه بأن يفصلوا رأسه عن جسده. ثم يلقون جثته طعاماً للنيران، وكذلك مات لابار في ربيع العمر إذ لم يكن جاوز التاسعة عشر وراح ضحية بريئة للتعصب الأعمى.

لم يقض الإسلام بإلقاء أحد طعمة للنار لمجرد الزيغ في عقيدته ولم يضطهد حرية الفكر والاعتقاد، ولم ينكل بغير معتنقيه ولم يطارد العلماء والفلاسفة بل اتسع صدره للعلم والفلسفة.

وهنا لا نرى مندوحة عن أن نبدد وهماً، فنسارع إلى القول بأن حروب الخوارج لم تكن لها صبغة دينية على الإطلاق، بل كانت حروباً سياسية بحتة.

نعم، لم يكن مثار تلك الحروب الخلاف في العقائد، وإنما أشعلتها الآراء السياسية في طريقة الحكم، وما اقتتل الخوارج مع الخلفاء لينصروا عقيدة. ولكن سعياً وراء قلب نظام الحكم وتغيير شكله.

ومن اضطرمت نار الحرب بين الأمويين والهاشميين لشيء غير الخلافة، وبذلك كانت حروباً سياسية لا دينية.

وكان المسلمون إذا هموا بفتح أمة خيروا أهلها بين الإسلام أو الجزية أو الحرب. وذلك هو أقصى ما يبلغ إليه التسامح. فإذا أدخل الإسلام بلداً تحت ظلاله خلى بين المحكومين وبين حريتهم الدينية، وما يكلفهم إلا بجزية يؤدونها صيانة لأنفسهم ومحافظة على أمنهم في ديارهم وذوداً عن عقائدهم ومعابدهم

لهم ما لنا وعليهم ما علينا

من آذى ذمياً فليس منا

إن المسلمين يسعى بذمتهم أدناهم

ذلك هو شعار الإسلام في معاملة الذميين.

روى البلاذري في فتوح البلدان أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخارج، وقالوا قد شغلنا عن نصرتكم والدفاع عنكم فأنتم على أمركم. فقال أهل حمص: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم ونهض اليهود وقالوا: والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نغلب ونجهد، فأغلقوا الأبواب وحرسوها.

من ذلك ترون أن الجزية كانت تؤخذ مقابل الدفاع

يقولون إنا في عصر عملي يكره الأحلام والحالمين

بل نحن في عصر مادي فترت فيه حرارة الناس في التعلق بالمثل العليا وانعدم إيمانهم بالمبادئ السامية أو كاد وأصبح من يتشبث فيهم بتلك المبادئ يسمى خيالياً يعيش في السحاب.

وترى خصوم الديمقراطية يهاجمونها بعنف وشدة، فهذا يهاجمها باسم العلم وذاك يهاجمهم باسم الواقع وغيرهما يتكلم عن أزمة الديمقراطية، ورابع يخوض في حديث إفلاسها.

يقولون أن النواميس الطبيعية لا تعرف المساواة، وإن الأرستقراطية هي دعامة الحضارة والرقي، وإن من الناس من يجب أن يعمل بيده ومنهم من يجب أن يتوافر على الأعمال العقلية، وإن حكماء اليونان كان لهم بعض العذر حين ذهبوا إلى تبرير الرق بضرورة أن يتفرغ الحكماء لإدارة شؤون الدولة.

ولا شك أن الديمقراطية تعاني اليوم أزمة شديدة بدليل أن الديكتاتورية قد غلبتها على أمرها في بعض الأمم.

على أن البقاء للأصلح من المبادئ والفوز معقود بلواء الديمقراطية في النهاية إن شاء الله.

والذين بنوا الحضارة هم من الطبقات الشعبية لا من طبقات الأشراف.

والمشاهد الملموس في أوربا أن طبقات الأشراف تفنى سراعاً.

والمذاهب المتطرفة التي تغزو موجتها أوربا اليوم لا يلبث أن يتجلى زيغها حين يتبين للناس أنها تبني لهم قصوراً من الورق أو قصوراً في إسبانيا.

والإسلام الذي وقف طوال العصور في وجه العواصف الهوج الجبل الأشم هو الإسلام الذي يقف اليوم معقلاً حصيناً يرد عن العالم الإسلامي عادية خصوم الديمقراطية وعدوان دعاة المذاهب الهدامة.

فإذا دعونا اليوم للتشبث بمبادئه والتعلق بتعاليمه فإنما ندعو إلى الاحتفاظ بمعقل الديمقراطية، إنما ندعو إلى الذود عن دين الحرية والإخاء والمساواة.

عبد المجيد نافع