مجلة الرسالة/العدد 207/على هامش رحلتي إلى الحجاز

مجلة الرسالة/العدد 207/على هامش رحلتي إلى الحجاز

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 06 - 1937



ليلة في مكة

بقلم الدكتور عبد الكريم جرمانوس

أستاذ التاريخ الشرقي بجامعة بودابست

أخذ الغسق يهبط بسرعة في وادي مكة الضيق، المشبع بهواء الصحراء الجاف؛ وهنا بدأت خيوط الأصيل الذهبية تتلاشى ثم تختفي دفعة واحدة كأن ستارا أسدل عليها بغتة؛ وبعد فترة وجيزة أخذ الليل ينشر خيمته السوداء فنسينا حينذاك ذكريات الغروب الجميلة وأصبحت لدينا كحلم سافر بعيد، ثم خيم السكون وشمل المدينة كلها.

وكنت أشاهد منظر غروب الشمس من إحدى نوافذ بيتي الصغير في مكة، ولم ير الديك الذي كان يصيح طيلة النهار داعياً لإيقاف صياحه، كأن عظمة هذا الغروب لم تؤثر في نفسه، ولكن الدجاجات لاذت بالصمت وراحت تتسلق أقفاصها استعداداً للنوم.

وكان يقع في طرف فناء البيت الصغير الذي أعد لضيافتنا قسم خاص بالحريم تجلس في إحدى غرفه سيدة وقور اسمها سنية، تقرأ القرآن على ضوء مصباح خافت اللون، على حين كانت ابنتها فاطمة النحيلة الخصر منصرفة إلى أعداد طعام العشاء لإرساله إلينا مع إحدى العجائز، وحتى هذه العجوز الشمطاء كانت تتخذ كل الحيطة عند إحضارها الطعام بحيث لا يظهر وجهها، وكانت تحمل الصينية على يديها ثم تدفعها بحذر على عتبة الغرفة وتنسل راجعة، فأقوم بدوري لآخذ الصينية بمجرد وضعها على العتبة، أما الطعام فهو لا يخلو عادة من الأصناف العربية المشبعة بالتوابل

كانت هذه العجوز تحاول كما قلت أن تمنعني من رؤية وجهها، ولقد أفلحت في ذلك إلى حد كبير، فلم أر منها إلا ذلك الهيكل العظمي، ولم أسمع من حركتها إلا صوت ذلك القبقاب الخشبي الذي كنت أسمع طقطقته على الدرج حين صعودها وحين أوبتها إلى الحريم، فالمرأة في كل زمان ومكان، هي المرأة، أو ذلك اللغز الغامض، في الغرب وفي الشرق على السواء، فإذا ما دفعني حب الاستطلاع لرؤية فاطمة الجميلة، وليس هذا بمستغرب من رجل مثلي، أخذت أنظر إليها خلسة من إحدى الثغرات، ويلوح لي أن الفتاة الصغيرة كان تشعر أيضاً بأن العيون موجهة إليها من خصاص الشباك فكانت تتخذ كل حيطة وحذر فتقفل نوافذها وترخي السدول عليها حتى تمنع عنها تلك النظرات التي تخافها وتخشاها، ولكن فاتها أن في الفضاء تياراً خفياً ينشر جاذبية العواطف، وينبعث من شعاعه شرارة سرعان ما تكون سبباً في تأجج تلك النيران التي تضيء الحياة بلهيبها. هذه التيارات مخيفة في الواقع لأنه حين اشتعالها تزيد أوار الحب في القلوب البشرية، فتوقظ فيها وسائل الحياة ووسائل الموت دون تفريق بينهما. أما أنا فلا أخفي عنك أنني ارتعدت من هول ذلك التيار، فرميت رأسي إلى الوراء حياء مخافة أن يقع نظر الفتاة علي وأنا أتجسس عليها عن كثب، ومخافة العار والفضيحة ولا سيما وأنا غريب عن البلاد

ففي ارض الحجاز، تلك البلاد التي لا يوجد فيها من الجنس الأوربي غير شخصي الضعيف، مرتدياً تلك الملابس الإفرنجية، والذي تخرج من فمه رطانة لا يفهمها غيره، كنت مضطراً بحكم البيئة التي تربيت فيها أن ابحث وأدقق في كل ما يقع نظري عليه، ولكن بروح أجنبية، فكان شأني شأن اللص الذي يتسلل إلى بيت تحت جنح الظلام، في وقت هجوع سكانه، ثم يخشى أن يقوده سوء الطالع فتصدم رجله قطعة من الأثاث، أو يفتح باباً خلسة، بيد مرتجفة، بل قد تراه يتلفت ذات اليمين وذات اليسار خائفاً وجلاً، فإذا صادف أن شعوره الإجرامي لم ينبض في صدره، فحينذاك يكاد يطير فرحاً لاقتناصه فريسته، وإذا لم يجد وازعاً من ضميره فانه يفخر بانتصاره على ضحيته، ومن الأسف أن هذا الشعور الإجرامي يلازمنا من المهد إلى اللحد، فأمامنا الرجل العادي الذي يهرع إلى فراشه ليلاً على حين نقضيه نحن في مسامرة النجوم، وفي الوقت الذي يعود هو فيه إلى بيته بعد أن يكون قد أكتسب قوته بعرق جبينه فما علينا إلا أن نوجه أنظارنا إلى ألوان الشمس العظيمة ساعة غروبها، ونتعلم منها عن كثب طرق التحول ونعد قبلاتها الحلوة التي تطبعها على سطح الأرض من نعم الطبيعة، أجل يتحتم علينا أن نبحث بدقة وحذر خشية أن نتخبط في ديجور الظلام كما يتخبط اللص في الخفاء

انه لأحساس نبيل لو أتيح للإنسان أن يكون كشجرة الأرز الباسقة، تلك الشجرة المغروسة على أعالي القمم، تنقل عينها من حين إلى آخر على المروج الخضراء والكروم الزمردية، ولكن هذه الشجرة - وهي سيدة الأشجار - ستبقى على الدوام مهددة بميلها للسقوط في وسط الأدغال، حيث الحركة والحياة بين الحشرات والأزهار وبين القطعان في مراعيها، وحيث الأطفال يضحكون وحيث تستغرق السعادة في سباتها العميق

هذه الأفكار مرت سراعاً بمخيلتي، عندما كنت انظر صفوف نوافذ منازل مكة التي تطل على هذا الوادي الضيق، ثم وقع نظري على المآذن الشامخة وقد فارقتها أشعة الشمس الذهبية، كأنها تناديني أن أقترب منها. وهذه الشمس التي غربت هي بغير نزاع ذلك الصاحب الأمين للأجنبي، فشمس الصباح وشمس الظهيرة بهما قوة واقتدار مثل قوة الشاب العاشق، ولكنها على الدوام واحدة لا تتغير، أي أنها لا لون لها، وتكاد تكون في الغالب وحشية شاحبة ومزعجة. إنها لاشيء سوى القوة الغشوم، فهي كالآلة، بيد أنه ينقصها الإحساس، والصوت والضمير، والشوق. فهذه الشمس التي تغرب، ليست سوى حب الرجل البالغ، فالضمير، والمعرفة، والفرح، والأحزان قد تغلبت عليها مئات المرات، وأخضعتها لسلطانها، وظلت للآن في كفاحها تغالبها، وستظل في هذا الكفاح الدائم راضية بالحياة، ممتزجة مع الموت

هنا سمعت المؤذن يدعو المؤمنين إلى الصلاة، وهنا يجب علينا أن نولي وجوهنا شطر الكعبة المقدسة لنسجد للحي القيوم، مالك الملك، الذي خلقنا فسوانا، وفي قدرته الحياة والموت، صاحب الأمر الذي إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون. فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون، إننا ندعوه ونبتهل إليه في قعودنا وقيامنا، إذا ليس أفضل من الابتهال إلى قدرته، تلك القدرة الدائمة الأبدية، فطوبى لمن يخشون ربهم. نعم طوبى لهم وحسن مآب

خيم الظلام المخيف على جميع أطراف مكة، وفي هذه البقعة الصحراوية الجرداء نرى بيت الله، ذلك البيت العتيق قبلة الشعوب الإسلامية، الذين ينسون حطام الدنيا ومتاعبها ويطئون المادة بأقدامهم ويستعيضون عنها بالأيمان المطلق، وهو لعمري أثمن من كل شيء في الوجود، فيتخلصون من شرور الجسد ويصعدون بأرواحهم إلى أعلى عليين، وما أحلى وأطيب سماعك آذان المغرب في بلاد العرب، أو على الأقل ما وجدت شيئاً أروع منه، خصوصاً وقد قدمت إلى هذه الأرض المقدسة لأتطهر من أدراني وأبغي الثواب والمغفرة، وسيعلم الإنسان عندما تصعد الروح إلى بارئها، وعندما تنهار أعمال الرجال، فأننا بفطرتنا نلجأ إلى حماية الرب العظيم، حيث الماء والهواء يحركان الصخور؛ ولكن على الرغم من ذلك نحاول أن ننشل أنفسنا من وهدة القنوط بقوة الأيمان، تلك القوة التي تخفف عنا عذاب الضمير وتهدئ من ثورة عواطفنا الجامحة، فتطمئن قلوبنا بذكر الله وتجري على شفاهنا آيات الكتاب الكريم

أليست كلمات الله العذبة الفصيحة قادرة على أن ترشد الإنسان مهما كان زائغ العقيدة إلى الصراط المستقيم؟

ذلك الصراط الذي وعد الله به عباده المتقين فيرون ضوء الشمس الساطعة في كل جزء من أجزاء الحياة، وعندما تشعر النفس بالكآبة فلا عزاء لها إلا أن تيمم نحو الخالق العظيم لأن الله سبحانه وتعالى يحب من عباده التوسل والضراعة إليه، والكل يغترفون من فيض نعمائه لأنه رحيم رؤوف بعباده. على ضوء هذه العقيدة اضطجعت في غرفتي وأغمضت عيني فشعرت بازدياد ضربات قلبي ثم ألفيت نفسي أتلو آية الكرسي، وهناك شعرت بدمعتين حارتين تنحدران على خدي. ثم أسدل الليل ستاره وخيم السكون على أنحاء المدينة وبدأ القوم يوقدون مصابيحهم الزيتية، وحضرت الخادم تحمل طعام العشاء فسرعان ما شعرت بأني أهبط من طبقات السمو والتفكير في صفات الخالق إلى حضيض الأرض، وبعد أن تناولت عشائي نهضت فارتديت سروالي وعصبت رأسي بعصبة أحكمت فوقها عقالا، ثم يممت شطر جبل أبي قبيس لزيارة صديقي الأستاذ عبد الله رافع الذي دعاني مع آخرين لقضاء ليلة ساهرة في بيته، فاخترقت في طريقي سوق المدينة ورأيت الشوارع لا تزال مكتظة بالزوار وحجاج البيت الحرام. وكانت دار صديقي حافلة بالضيوف فما كدت أغشي الصالة الكبرى حتى أحسست أني في عزلة عن الضوضاء، وشعرت بالهدوء الشامل والطمأنينة المريحة

وأستطيع أن أقول إن جماعة الوهابيين في بلاد العرب يحرمون بتاتاً الاجتماع في الولائم وغيرها، وحجتهم في ذلك أنها مخالفة لنصوص الشريعة والسنة، ويقولون أن في التقشف الغذاء النفساني لكل طالب، ويعززون رأيهم بأن الإنسان ما خلق إلا للعبادة والتقوى، وليس له أن يتوغل في إعطاء النفس شهواتها لأن الحياة في ذاتها كلها تعب وقصيرة؛ وليس الغرض منها أن يتمتع الناس وينغمسون في شهواتهم. بيد أني أرى أنهم يبالغون في هذا التحريم لأن الله حين نظر إلى التراب الذي خلق منه آدم والذي تكون منه العالم، سقطت من عينه دمعة، وهذه الدمعة كانت تحمل شطراً من القلب ومن طبيعته أن يوجد فيه الحب والأحزان وغيرها من الصفات الكامنة الآن في نفوسنا.

(البقية في العدد القادم)