مجلة الرسالة/العدد 208/القصص

مجلة الرسالة/العدد 208/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 06 - 1937



بقعة من حبر

للقصصي الفرنسي رينه بازين ' '

للأديب أحمد المحمود

1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9، 10، 11، 12، 13، 14، 15، 16، 17، 18، 19، 20، 21، 22، 23، هذا كل ما أستطيع أن أذكره عن الثلاث والعشرين سنة الأول من سني حياتي، ومجرد تعداد هذه الأرقام يكفي - كما ترى - لإظهار تشابهها المشترك وتوضيح وحدة اللون بينها.

مات أهلي ولم أعد للطفولة الأولى، وإني لأستحضر صورهم في شيء من الجهد والمشقة، وتكاد معالم البيت الذي شهد حبوي الأول تنمحي من ذاكرتي لولا أنني نشأت غير بعيد عنه أرنو إليه ويرنو إلي، ولكن الدار بيعت وا أسفاه! وغاضت حياتها أبد الدهر، أجل بيع البيت فجرى عليه حكم القدر القاسي وفي هذا المكان اكتحلت عيناي بالنور، وفي مدرسة البلدة تصرم ثمانية عشر عاماً من عمري وقد أعتاد المدير أن يشرح لنا معنى المدرسة وأنها عائلة ثانية لها قيمتها وأثرها في النفس حتى خيل لنا أنها تفضل الأولى بمراحل كثيرة وتسمو عليها شرفاً وقدراً.

وما كدت أنهي دراستي الثانوية وأحمل شهادتها النهائية حتى بعث بي خالي إلى باريس لدراسة الحقوق والتثقف بالثقافة العالية وفي ثلاث سنوات نلت الإجازة التي مضى عليها ثمانية عشر شهراً وهي في يدي، ثم أقسمت يمين المهنة وغدوت - بهذه الصفة المكتسبة على حد تعبير خالي - محامياً متمرناً وكنت كل صباح اثنين أثبت وجودي في المكتب مع زملاء آخرين وظهر لي بذلك أنني حزت ثقة الأرملة واليتيم.

نلت إجازة الأدب - في يسر ولباقة - بينما كنت أتابع دراستي الحقوقية، وأنا الآن أوشك أن أغدو (دكتورا) في الحقوق، ولقد كانت امتحاناتي حسنة في الجملة، ولكنها ليست في الدرجة التي كنت أرجوها إذ قال لي أستاذي إن الذوق الأدبي عمل فيها عمله الشديد (وطبيعة الحقوق - يا بني - لا تمت - على عادة العلوم - إلى القلب والعاطفة بسبب من الأسباب). أصحيح أن قلبي موزع بين الأدب والحقوق؟ ذلك ما لا أعتقده، ولكنني لن أعترف بهذا إلى أستاذي الذي لم ينس بعد أنني نلت أجازة في الأدب. إنه يبني علي بعض الآمال ومن الطبيعي أن أبني عليه - بدوري أنا - بعض الأماني في الفحوص المقبلة.

وماضي حياتي تختصره ورنقتان نلتهما وثالثة تتراءى لي عن بعيد، وأوشك أن أنالها، ثم خال ذو ثروة كبرى. وإلى تاريخ 10 ديسمبر 1884 لم يكن ثمة حادث يذكر ولكن من يستطيع أن يضمن جمود الحياة فلا تتطور، وهذا حادث خطير جرى لي بعد ظهر هذا اليوم فأثر في نفسي أثره العميق وهاج من خواطري كلما أمعنت التفكير والتحليل له والوقوف عنده.

كثيراً ما كنت أذهب إلى دار (المكتبة الأهلية) للعمل في صالة المخطوطات الخاصة التي تضم بين جدرها الطبقة المشهورة من الكتاب والعلماء المرخص لهم بالعمل فيها، وكنت في كل مرة ألج باب هذه الصالة أحس بشعور الغبطة والكبرياء لوجودي في مكان لا يقبل إلا من كان على جانب من الشهرة وذيوع الاسم. وأتخطى برهبة سدة الحارس الذي اتخذ مكانه إلى رتاج الباب يستقبل الزائرين القدماء ببسمة لا تخرجه عن وقاره وهيبته عندما يمرون به إلى مقاعدهم. ولم تكن بيني وبينه هذه المعرفة الزمنية حتى يجود عليَّ بابتسامة، ولكنه على كل حال كان يستقبلني بانحنائة قصيرة من رأسه وقد اعتاد أن يراني كل يوم فلا يطلب مني البطاقة كما كان يطلبها من الزائرين الجدد وفهمت أنني أصبحت فرداً من أفراد العائلة فما عليَّ إلا أن أجوس خلال البيت بأمن وسلام.

ها أنذا في هذه الصالة الفخمة أسرح البصر في اتساعها وجدرها المزينة التي تشبه في أصباغها الجميلة الألواح الفنية الرائعة فتبعث في النفس شعور الإجلال والتعظيم. وعلق بصري بما يشبه المنبر فتبينت أن هذا المكان يجلس فيه النفر المختار من رواد هذه الدار الذين يتمتعون بألقاب العلم وأوسمة الأندية الأدبية. وينتثر إلى جانبي هذا الممر على صورة أصبحت عادية سكان المكتبة العلماء، ومن يتأملهم مقوسي الظهور مطرقي الرؤوس حادبين على كتبهم يفترسونها بصمت وسكون رهيبين يتعظم في نفسه تأثير الفكرة في العقل البشري ومبلغ اجتياحها في رؤوس هؤلاء التي قلت شعورها، ومع ذلك فإن هذا الجمع من القرعان كان لا يعدم بعض من برقت شعورهم وغالبا ما ينقطع بعض هؤلاء العلماء القراء - عندما أمر - عن القراءة فيشخصون إلي بعين (تائهة) بلهاء لا تميزني جلياً لإغراقها في القراءة والتفهم، ولكن هذه الأبصار كانت تنحسر عني عندما تلمح تقطيب وجهي فتتصهب العيون وتعود إلى ما كانت عليه وهي أشد ما تكون نشاطاً وشوقاً وندماً على أن أضاعت الوقت في تفحص هذا الآتي الغريب. ولكني كنت أحس بخواطر هؤلاء وبما هم دائبون فيه. هذا يبتدر رفيقه بأنه يدرس منشأ الصناعات والحرف وأصولها، وذاك عاكف على دراسة عصر لويس الثاني عشر، وآخر يهمس في أذن رفيقه: أنا أدرس أحوال المرأة المدنية في عصر طيباريوس، ويسرع آخر إلى شده الجمع بأنه يبحث عن ترجمة جديدة لهوراس. وشعرت بأن جميع من في هذا المكان يبتدرني بالسؤال: وأنت أيها الحدث ماذا جئت تفعل هنا؟ ألا لا تعكر صفو هذا المكان الوقور

ماذا جئت أفعل هنا؟! وا أسفاه!. . . يا سادة. . . وهل أنا في حاجة إلى أن أقول لكم إن خالي ما فتئ يستحثني ويلحف علي في إنهاء أطروحة الدكتوراه ويضطرني إلى العودة إلى الريف ويبدي سأمه من بطئ الوضع والتأليف، وها هو ذا صراخه في كتبه إلي: (أقلل من النظريات يا بني؟. . . أسرع إلى العمل ودع عالم الخيالات والأحلام وما الذي أهاب بك إلى انتقاء هذا الموضوع دون سواه؟. .) والواقع أن موضوع (أطروحتي الرومانية) انتقى خصيصاً لتمديد إقامتي في باريس. (لاتين جونيوس) هذا موضوع أطروحتي - أيها السادة القراء - وأنه لموضوع طريف كما ترون ولكنه صعب عسير التوضيح، وليس بينه وبين الحياة العملية أقل صلة أو علاقة وهو يسبب لي تعباً كثيراً ونصباً جما، ويا ليتكم تتصورون بعض ما أقاسيه من مشاق الدرس والمراجعات والمطالعات

ومن الصدق والواجب أن أقول إنني كثيراً ما أمزج مع هذه المشاق بعض القراءات المسلية الجذابة وأرود أمكنة المعارض والملاهي وأن خالي يجهل من أمري كل شيء إلا أنني مدمن للكتب والموسوعات ومغرق في استنطاق أسطرها ومتونها وهوامشها وأن خالي ليعجب كثيراً بابن أخته الناشئ، هذا الراهب الناسك (البندكتي) الذي لا يفارق دور العلم وأروقة (المكتبة الأهلية) في باريس، بابل الحديثة - كما يسميها - مفنياً لياليه وأيامه مع (غايوس) مستصحباً (لانتييه) غير عابئ بكل ما لا يمت إلى هؤلاء بصلة. وأنا أحرص كثيراً على حسن ظنه بي فأرسل له دائماً بطاقات الانتساب للمكاتب ودور العلم موقعة من قيميها ومحافظيها وهو دائماً يحتفظ بها حتى يتوفر لديه منها صندوق.

ولقد وصلت هذا الصباح ناشطاً أكثر مني في بقية الأصباح وكأن سوء الطالع كان يرافقني للقضاء على هذا النشاط المنبعث من قرارة نفسي فسبب لي بلية ما كان اشغلني عنها وأغناني!. .

تنتصب إلى جانبي سدة قيم المكتبة أريكتان تحملان أوراق الطلب وأقلام الكتابة وقادتني خطاي إلى الأريكة اليمنى ويا ليتني لم أقصدها، إذن لكنت في نجوة عما أنا فيه الآن من أسف وندامة.

أخذت الريشة المتصلة بسلسلة نحاسية وخططت بغير وضوح كثير أسم الكتاب والمؤلف الذي أتوخى مطالعته وأعدت الريشة إلى مكانها، ولكن ما أدري والله كيف أركزتها ولعلها فقدت اتزانها فاضطربت وتدحرجت السلسلة والريشة وأني لأسمع صوتها. . . لقد ارتجفت وندت نقطة حبر كبيرة. . . على. . . على كتاب أثري. . . أمام أحد الأعلام الشيوخ!. . وإن كنت أذكر لا أذكر إلا انتصاب هذا الإنسان الأبيض الهزيل في ظلام مقعده صارخاً:

- يا للغباوة!. . لقد لوثت الكتاب الأثري!

وملت إلى المقعد أتفحص فعلتي التاعسة فوجدت أن نقطة الحبر السوداء القاتمة قد استقرت على غلاف الكتاب إلى جانب اسمه المذهب، وها هي ذي تتفرطح فتتشعب إلى ما يشبه المغزل والسنان وأشكال مختلفة، وهنا وهناك انتثرت نقاط صغيرة وتوزعت على صفحته كما تنتثر النجوم في السماء. وإذا ببعض الخطوط تتجمع فتشكل أخدوداً ينحدر فيه الحبر إلى أسفل الصفحة. وتطلعت فإذا أنا محاط بهالة من القراء وكلهم ينظرون إلي بعين متفحصتين فجمدت عروقي وسمرت في مكاني لانتظار الفضيحة وتمتمت بكلمات اعتذار وأسف كانت لا ترد علي ما فات. وأما قارئ الكتاب فلم ينبس ببنت شفة وكأنه قد فقد الحركة وكنا ننظر سوية إلى تشكل البقعة ونرود بأعيننا خطوط جريانها وانبثاقها على الصفحة وكأنه قد عاد إلى مداركه بعد استقرار البقعة واستكمال الملاحظة فاهتز اهتزازة محمومة وتناول من جيبه ورقة نشاف وشرع يمتص برجفة عصبية لطوخ الحبر ويعالجها بدقة الممرضة تضمد جراحاً. واهتبلت الفرصة لا تقهقر إلى الصف الثالث من المقاعد حيث وضع لي غلام المكتبة الكتب التي طلبتها. وجلست أحمل نفسي على الاعتقاد بأنني لو لم أفه بشيء ولو أنني أتوارى عن الأنظار أو أن أخبئ رأسي بين يدي كرجل أثقلته جسامة المسؤولية إذن لكفيت هذا الغضب وهذا الصخب ولكن الأمر لم يكن ليتوقف عند هذا الحد، وفوقت البصر قليلاً أسترق تتمة المشهد فإذا بي أبصر هذا الإنسان الأبيض الصغير الذي كان واقفاً إلى جانب القيم يكثر من الحركات بيديه قد أصبح بين يدي وكان تارة يشير بسبابته إلى الكتاب الملوث وطوراً إلي متجها نصف اتجاه، وحزرت من دون ما تعب أو مشقة أنه يقصدني بالكلمات الخشنة التي كان يذروها، وقد بدا لي بنظرة خاطفة أن قيم المكتبة أشفق علي من كلمات هذا الشيخ الذرب، فاحمر وجهي خجلاً وأحسست بالخجل يسير في كل جسمي

وهاهم أولاء يتصفحون دفتر وأظنه البيان الذي يشير إلى قيمة الكتاب وثمنه ومكان الابتياع وانهم ليتآمرون على إفراغ المكان مني وتحديد الجزاء والغرامة!. . أواه!. . يا خال تأهب لتحملها!

إلى هنا استرسلت في أفكاري المحزنة وما رجعت إلى نفسي إلا وشعرت بأن يداً تربت على كتفي دون أن أحس بدنو صاحبها، وقال:

- إن المحافظ يطلبك إليه

فنهضت أتأثر الغلام وما أن حاذيت القارئ الرهيب الذي كان قد استقر به مكانه حتى لممت بعضي في الوصول إلى سدة القيم الذي بدرني:

- أو أنت الذي لوثت هذا الكتاب؟. .

- نعم يا سيدي

-. . . إنك لم تتعمد فعلتك هذه؟

- طبعاً لا، وأنا آسف لوقوع الحادث يا سيدي

- أنت على حق في ندمك وعلى صواب، لأن هذا الكتاب من أندر الكتب الأثرية الموجودة، والبقعة أيضاً من اغرب البقع ولا أعتقد أني رأيت بقعة على هذا الشكل.

وأحسست بأني سأقول له إن الإنسان يلوث كما يشاء، لولا أنني أمسكت نفسي، فقال لي:

- اكتب أسمك وصنعتك ومكان أقامتك؟ فكتبت ما يلي:

(فابيان جان جاك مويارد محامي، 91، شارع رن

- هذا كل شيء؟. . .

- نعم هذا كل شيء، مؤقتاً ولكنني أعلمك بأن (مسيو شارنو) مغيظ جداً ومن المناسب والمستحسن أن تعتذر له عن الخطيئة التي اقترفتها.

- مسيو شارنو!؟. .

- نعم المسيو شارنو عضو المؤسسة العلمية الذي كان يقرأ الكتاب الأثري.

وتساءلت في نفسي عن هذا القارئ الخطير. . . يا الهي!. . أيكون المسيو شارنو هذا الذي تكلم لي عنه المسيو فلامارون رئيس لجنة التدقيق في أطروحتي؟ أنهما زميلان إذن إحداهما عضو مجمع العلوم السياسية والمعنوية والثاني عضو معهد دراسة النقوش والفنون الجميلة.

شارنو!. . شارنو!. . أجل ولا يزال جرس هذه الكلمة يطن في أذني ولا سيما في المرة الأخيرة عندما قال لي أستاذي: أنه (أي شارنو) صديقي الحميم من معهد الفنون والآثار. وأحسست بأن خطراً يتهددني في شهادتي وامتحاناتي ونزلت إلى أعماق نفسي أتحسس غوامضها فإذا بي في مأزق حرج ما أهتدي إلى الخروج منه، وأن الخوف يتسرب إلي من جهتين اثنتين:

أولاً - لا أعلم ماذا ينتظرني من الجزاء والعقوبة للكلمة التي فاه بها القيم عندما استكتبني اسمي وكنيتي. وثانياً - أخشى أن يفسد علي هذا العالم (شارنو) عطف أستاذي فلامارون لانتهاكي حرمة الكتاب الذي كان يقرأه، هذا إذا كان نزقا غضوباً كما ظهر لي عند وقوع الحادث المشئوم.

وهل يجب أن أعتذر للمسيو شرنو؟ وأي الأعذار أقدمها له؟ وهل أنا لوثته حتى أسرع إلى الاعتذار؟ أم أن هذا من حق الكتاب الذي احتمل اعتدائي؟ أن المسيو سالم مما لحق بالكتاب وليس على قميصه أو أثوابه شيء من الحبر أو اللطوخ، فلماذا أذن يأخذني بهذه الحدة وهذا الغضب؟. . ولكنني سأقول له:

- سيدي أنا أسف جداً لأنني عكرت عليك الصفو في أبحاثك العلمية. أن كلمة أبحاثك العلمية ستتملق ولا ريب أثرته وإحساسه وستكون مخدراً قوياً لأعصابه المتوترة. . .

واستجمعت نفسي للنهوض وإذا بالمسيو شارنو يقبل بهزة عصبية وبغضب ما زال يشتد منذ وقوع الحادثة وترتسم على وجهه أمائر الاستياء الشديد من تقلص في الشفاه إلى سهوم في الوجه والنظر وكان يتأبط محفظته وذراعه تضطرب في إمساكها إلى خاصرته. وحدجني بنظرة قاسية. . . وتابع خطاه.

حسناً يا مسيو شارنو!. . إن رجلا غاضبا في حالتك التي أشهد لا يمكنه استساغة المعاذير ولكنني سأعتذر لك فيما لو تقابلنا إذا كان للأيام أن تضعنا وجهاً لوجه. . .

(طرطوس)

أحمد المحمود