مجلة الرسالة/العدد 208/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 208/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 06 - 1937



ميكيلانجلو

العبقرية الملهمة

للدكتور أحمد موسى

- 3 -

وما صادفه من صعاب سبق ذكرها، صادفه هنا في تنفيذ مشروعاته الفنية الخاصة بحقوق أميري المديتشي جيليانو ولورنسو، اللتين كان قد أوصى بعملهما الكردينال جليودي مديتشي في سنة 1519، ولم يبدأ في تنفيذهما إلا سنة 1521 بعد تعديلات وأخذ ورد

على أنه عمل بيده فيها من سنة 1527 إلى سنة 1530، ووقف عندما أضطر للفرار لهبوب العاصفة السياسية التي انتهت بانهزام المديتشي وخروجهم من فلورنسا. عندئذ عمل ميكيلانجلو تحت لواء الجمهورية حتى عودة المديتشي ثانياً

وبعد موت البابا بقليل سافر في سبتمبر سنة 1534 إلى روما دون أن يتم أعماله إلى النهاية فقد ترك اثني عشر تمثالاً دون إكمال إلى أن أتمها جورجيو فاساري (1511 - 1574) الذي كان مصوراً ومهندساً معمارياً ومؤرخاً لعصره، والذي بنى قصر أوفيسين بفلورنسا بردهته المعتبرة من أجمل ردهات قصور إيطاليا

ويحسن بنا أن نعلم بعض الشيء عن هاتين المقبرتين المشهورتين، التين تعدان آية من آيات الإعجاز الفني، فبين حائطين تنحصر مسافة خصصت للمقبرتين، ولكل منهما تمثالان رمزيان إحداهما لامرأة والآخر لرجل، وفوقهما نافذة أشبه بقبلة وضع فيها تمثال للمتوفى جالس.

أما التماثيل الرمزية فهي عارية الجسم، وأكبر من الحجم الطبيعي قليلاً، وتمثل الأوقات اليومية الأربعة وعلاقتها بالنفس وهي (الليل، النهار) و (الفجر، المساء) معبرة عن الأسى والحزن لوفاة الأميرين.

وقد عبر ميكيلانجلو عن الليل بامرأة نائمة وعند قدميها بوم. وأما النهار فقد مثله برجل هرقلي التكوين، ولكنه ترك الرأس والذراع غير كاملين، وكلاهما في غاية القوة الإنشائي وحسن الإخراج، ولكن الطريقة الوضعية لهذين التمثالين تكاد تكون مستحيلة بالنظر إلى الكيفية التي أجلسهما بمقتضاها، وهذا ما قررته عندما تناولنا مميزاته الفنية بالبحث

ونأتي هنا بصورة لجانب آخر من هذه المقبرة (ش1) فترى فيها لورنسو جالساً، وعند قدميه تمثالا الفجر والمساء (ش2، ش3). أنظر إلى رأس كل منهما وتأمل القوة في الإخراج والعظمة في الإنشاء؛ فالوضع العام خال من الإرغام والطريقة الوضعية أهدأ كثيراً من تماثيله لليل والنهار، وقد عبر عن الحزن تعبيراً قوياً، هذا والتكوين الجسماني وسير الخطوط الإنشائية مما يثير الدهشة والاستغراب لهذه القوة الخارقة في تقدير الجمال الكامل وحسن إخراجه

أنظر إلى جمال اليد اليسرى للمرأة، وإلى اليد اليمنى للرجل وتأمل نعومة جسم المرأة وقوة عضلات الرجل، ترى أن ميكيلانجلو كان موفقاً كل التوفيق في هذين التمثالين

أراد أن يمثل لك بطريقة إخراجه ألم الأحلام الحزينة في الليل وما ترسمه على الملامح عند الفجر، فأخرج وجه المرأة على هذه الصفة، كما أراد أن يمثل لك كيف أن الحزن نهاراً يعود على الجسم العامل والعقل المفكر بملامح أقرب إلى إنهاك القوى والتعجيل بحلول الشيخوخة، فكان إماماً يحتذي وقائداً يتبع وفناناً يذكر على مر القرون

وتمثالاه لجليانو وفلورنسو أقرب إلى الإخراج الإغريقي وهما لا يمثلان صاحبيهما وإنما رمزيان للتعبير عنهما فالأول مثل قائداً حربياً ارتسمت على وجهه ملامح التفكير وقوة الإرادة وصرامة الأوامر. وأما الثاني (لورنسو) (ش1) فتراه جاساً وقد اكتسى جبينه بغطاء رأسه فأحدث ظلاً على العينين أكسب صاحبهما شيئاً من الخفاء وعمق التفكير. أنظر إلى اليد اليسرى وقد لامست شفتيه وإلى السبابة وقد جاورت الأنف، ثم تأمل المجموع الكلي، تر أن صاحب هذا التمثال بحالته هذه وبطريقة جلسته وعمقه في تفكيره، لابد وأن يكون من رجال السلطة العامة. وهذا ما قصده ميكيلانجلو تماماً فقد سجل بذلك للأخوين أميز وأبرز صفاتهما وهي الحكم.

والدارس للمجموع الإنشائي لهاتين المقبرتين يسجل لميكيلانجلو المعرفة الصادقة بأصول علم التشريح بالنسبة إلى التماثيل، والإحاطة الكاملة بعلم النفس بالنسبة إلى مظهرها، فضلاً عن القدرة في فن المعمار التي تجلت في وضعه التصميم الكلي وما أنطبع عليه من الانسجام

وله على الحائط الثالث للمقبرة مجموعة تمثل المادونا مع يسوع الطفل، وهي جالسة والطفل متجه إلى ثديها للرضاعة، وهي لا تقل جمالاً عن قطعه الأخرى، لا سيما وأن المادونا على جانب كبير من الجمال الرفيع مع شيء كثير من الحزن

وعلى ذلك لا مناص للمؤرخ الفني من اعتبار هاتين المقبرتين مجموعتين أعظم إنتاج مجسم أخرجه ميكيلانجلو وأكمل عمل فني أفرغ فيه غايته وأدى به رسالته، كما أن ما شملتاه من تماثيل بجانب تمثاله للنبي موسى (راجع المقال السابق) أهم وأبرز إنتاج فني في مدرسة النحت الحديث

أما المرحلة الثالثة من حياته فقد بدأت منذ رحيله نهائياً إلى روما في سبتمبر سنة 1534، وإقامته فيها حتى وفاته بعد أن بلغ التاسعة والثمانين في 18 فبراير سنة 1564

وقد ارتقى رئيساً عاماً للمعماريين والنحاتين والمصورين في القصر الابوستولي، وكلفه البابا بتصوير السقف السكستيني (نسبة إلى البابا سكستس الرابع) واشتغل منهمكاً فيه من سنة 1535 إلى سنة 1541، وصور (يوم القيامة) كما صور بين سنة سنة 1542 وبين سنة 1550 الصور اللازمة لمجموعة باولينا.

أما من سنة 1542 إلى سنة 1545 فقد أكمل البناء التذكاري ليوليوس، وهو بناء شامل لطبقتين (دورين) لكل منهما ثلاث قبلات، في الطبقة الأرضية تمثال موسى، وعلى اليمين واليسار وضع تمثالان جديدان، الأول يمثل (ليا) امرأة يعوب الأولى وبيدها المرآة، والثاني لامرأته الثانية (راشيل) وهي تصلي، وهما مليئتان بالحياة والحركة.

أما في الطبقة العليا، فله قطع مثلت البابا والمادونا والكاهن والنبي، وهي ليست في جودة قطعه السابقة، ولذلك يخيل إلينا أنها من نحت تلاميذه.

ونحت بعض التماثيل وتركها دون إتمام، منها مجموعته لبيتا ومنها المجموعة الصغرى محفوظة بقصر روندانيني بروما، ومجموعته الكبرى عملها خصيصاً لمقبرته وهي تشمل أربعة تماثيل موجودة الآن في كاتدرائية فلورنسا بالردهة الرئيسية.

واشتغل في هذه المرحلة بالشعر أيضاً وله ملحمات معروفة، خصوصاً تلك التي كتبها غزلاً في معشوقته فيتوريا كولونا بين سنة 1534 و1547 وكان لها تأثير عظيم في فنه وفي مجرى حياته

ومنذ سنة 1546 أسند إليه الأشراف الفعلي على بناء قبة كنيسة بطرس واشتغل بهندسة المعمار السبعة عشر سنة الأخيرة من عمره، ودفن في كروسه بفلورنسا.

أما ميكيلانجلو المصور فسيكون موضوع بحثنا في العدد القادم.

أحمد موسى