مجلة الرسالة/العدد 208/موانع الابتكار في أدبنا الحديث

مجلة الرسالة/العدد 208/موانع الابتكار في أدبنا الحديث

مجلة الرسالة - العدد 208
موانع الابتكار في أدبنا الحديث
ملاحظات: بتاريخ: 28 - 06 - 1937



للأستاذ محمد يونس

إنه ليسعدنا حقاً أن يكون قريباً ذلك اليوم الذي نشعر فيه من جمهرة كتابنا أنهم أحلوا الابتكار محل المحاكاة وأبدعوا فيما يكتبون إبداعاً فيه غناء وإغناء للأدب العالمي العام

الدكتور منصور فهمي

مجلة مصرية

كان حديث الدكتور منصور فهمي في مجلة المصرية ذا شجون، فقد تناول فيه الأدب العربي الحديث والأدباء بالنقد اللاذع، وصورهم بصورة المقلد المفتون، وعراهم من أردية المجد التي اكتسوها بعد الكفاح الطويل.

وأنا وأن كنت إلى حدّ ما أؤيد الدكتور في أن أدبنا الحالي أدب تقليد ومحاكاة لا أدب ابتكار وإبداع، فأني أخالفه في تحديد أدب المحاكاة عندنا وفي قيمة هذا الأدب، ثم لا ألقي اللوم كله على الأدباء أنفسهم، لأن الدوافع إلى المحاكاة كما سيرى القارئ قريباً أقوى من أن يغلبها الكاتب اللبيب.

كان كلام الدكتور عن الأدب عاماً وشاملاً كل أنواعه، ولكن من الظلم ونحن نلصق طابع التقليد على أدبنا الحديث أن نغفل طائفة خاصة من الكتاب برعت في الابتكار وأعني بها كتاب المقالة. فالمقالة خطت في الأدب العربي الحديث خطوات واسعة وأصبحت تتحدث في موضوعاتها الخاصة وأهدافها القريبة حديثاً وصل حد الابتداع عند كثير من الكتاب وها هي ذي المقالة العربية في مصر لا تقل عنها في البلدان الغربية إن هذه المقالات التي تقدمها إليك الصحف والمجلات تحركك معها إلى حيث تريد من حيث لا تريده أنت، وتفهمك مطالبها بكل وضوح، هي فخر الأدب الحديث. وكثيرون لدينا برعوا في حيل الإقناع وفي مفاجأة القارئ واللعب به وبكل ما يجعل للمقالة العربية مجدها وشخصيتها. إلى هنا يقف أدباؤنا عن الابتكار، وما بقي من أنواع الأدب العربي أكثره خلو من الابتكار، ولكن خلوه من الابتكار لا يعني فقره في الإجادة ودقة الإنتاج، فأدب المحاكاة أدب قائم بذاته له قيمته وفائدته، وله - وهذا ما نريد الإشارة إليه في هذا المقال - أو انه، كما للمجتمعات البشرية من المرور في أدوار تاريخية مختلفة يتبع فيها سنة التطور ومنطق التدرج وهو قانون ثابت لا تفيد معه ثورة الأديب، ولا ألقاب الابتكار والتجديد التي تمنح له بغير حساب

وهذا الدور في الأدب العربي، دور محاكاة ونقل تتجه فيه العبقرية راضية أو غير راضية إلى النقل عن أدب الغرب أو إحياء ما اندرس من أدب العرب، وهو تيار جارف لا يقف أمامه كاتب مهما كبر، ولذلك فشلت محاولات الابتكار عند كبار أدبائنا. هذه محاولات شتى قام بها كثيرون منهم في السنوات الأخيرة وأرادوا أن يظهروا بها الابتكار والإبداع. ليقرأها القارئ جيداً وليحكم عليها من غير مداجاة، ألا يرى عليها الهزال والشحوب؟ فيدرك أن هذه الجهود المبتورة لا تناسب اسم أولئك الكتاب ومالهم من مجد عظيم نالوه عن طريق النقل.

وما يقال عن النثر يقال عن الشعر أيضاً. ولقد أدرك شوقي - رحمه الله - في أواخر أيامه أن خير ما يختم به إنتاجه قصص شعرية، عجز عن أن يستمدها من المحيط الذي يعيش فيه فرجع إلى كليوباترة في التاريخ المصري ومجنون ليلى في التاريخ العربي، وكأن الحياة الدارجة ما استطاعت أن تلهم الشاعر الموهوب موضوعاً لرواية قوية تقترن بحياة هذا الجيل

ولا عيب على هؤلاء الأدباء أن ينجحوا في دور الناقل ويخفقوا في دور المبتكر، ولا ينقص من قيمة جهدهم أن يبرز في النقل وحده، فالأدب المنقول يؤدي واجباً كبيراً في خدمة الأمة العربية ويشغل حلقة لابد منها للوصول بين الماضي والمستقبل، هي قسمة لابد منها وتوزيع لنوع الإنتاج بين أدباء المستقبل وأدباء اليوم الذين كان من حظهم أن يأتوا في في هذا العهد، عهد النقل فلا يسطع نجمهم إلا فيه ولا يذهب تقيدهم به سناء عبقريتهم

وهنا من حق القارئ أن يسألني: لماذا يعجز أدباؤنا عن الابتكار؟ أهو كسل منهم كما يقول الأستاذ المازني وفيهم النشاط الجم. أم فقر في المواهب، وفيهم العبقري الموهوب أم فقر في المحيط وهو عامر بشتى الصور والمفاجآت؟

وقد ثار مثل هذا التساؤل من حين قصير بين أدباء الإنكليز وتناول ناقدان كبيران البحث عن أسباب جمود الأدب الإنكليزي الحديث (ولا سيما في ناحية القصة التي تجتاح أكثر ميادين الأدب الغربي) وتأخره عن الأدب الأمريكي الذي أصبح يخطو خطوات واسعة وينتج آثاراً مدهشة.

قال أولهم: أن الابتكار - وليد ما أسماه شعوراً بالاستغراب يأخذ على الكاتب أنفاسه ويدفعه في مجالي الإبداع، ومتى عجز المحيط عن إثارة مثل هذا الشعور في الكاتب إما لكثرة الصور السابقة المرسومة عنه أو لفقره خلا جو الأدب من المبتكرين

وقال الثاني: إن الأديب يبتكر يوم يثق بمحيطه ويؤمن به، ويعجز عن الابتكار إذا فقد هذه الثقة فلا يثير فيه العناية بدرسه وتصويره بلونه الخاص

وإني أرى أن المانع من الابتكار في الأدب العربي، مزيج من السببين.

ولقد يبدو غريباً لأول وهلة أن تكون الحالة واحدة في المحيط الإنكليزي الذي كثرت الصور عنه وفي المحيط العربي الحديث الذي لم ترسم له صورة صحيحة باهرة إلى الآن، ولكن هذا نتيجة فقدان الشعور بالاستغراب، أما في الأول فأحسب القارئ قد فهم سببه وهو كثرة الصور الباهرة التي رسمها لهذا المحيط أكابر الكتاب فلم نترك مجالاً للمزيد؛ وأما في الثاني فلأن هذا المحيط لا يمكن أن يثير الكاتب إلى الاهتمام به ما دام فكره مشدوهاً بأنوار أخرى بديعة تأتيه من بعبد.

أرجو أن يتصور القارئ نفسه مكان الأدب العربي اليوم: فهو إذا كان مجدداً لا يزال مسحوراً بصور الأدب الغربي العامرة وما فيها من عبقرية ونبوغ؛ وإذا كان من دعاة القديم فلا يزال مفتوناً بالصنعة الباهرة وقوة الاندفاع والحيوية التي يشهدها عند الجاحظ أو المتنبي مثلاً. أن هذه الصور تأخذ بلبه فتشغله عن المحيط الذي هو فيه وهو لا يزال محدقاً بها غير ملتفت إلى ما حوله ما دامت أضواؤها الخلابة تبهر عينه، وأني لأشعر أن هذا الكاتب المنصف لنفسه ولقارئه إذا حاول رسم صورة لشخص من الذين حوله يقعده عن المحاولة ما يراه من تصوير باهر لأساتذة كبار كموباسان ودكنز، فيقول في نفسه: خيراً أن أنقل هذه الصورة الغريبة للناس من أن أقحمهم على مجازفاتي في التصوير، ويقعد عن الابتكار.

ومثله هنا مثل العاقل لا يشعل سراجه ما دامت الشمس طالعة، فهو يكتفي بفتح باب النافذة فتضيء أشعتها المكان وليس في هذا عيب على كهرباء البيت ولا انتقاص لمخترعها العظيم.

ولن يشعل صاحبنا العاقل كهرباءه إلا ساعة تغيب الشمس وهي هنا في الأدب الساعة التي تذهب فيها دهشة الأديب من منتجات الأدب الغربي أو العربي القديم.

وهنا يدخل السبب الأخر الذي ذهب إليه الناقد الإنكليزي الثاني، فأن انبهار الأديب العربي بصور الأدب الغربي أو العربي القديم يبهت أمامه صور محيطه ويضعف ثقته فيه، فلا يزال هذا المحيط متردداً بين الغرب والشرق وبين الجديد والقديم وبين التقليد والرجعية وقد فقد شخصيته المستقلة القديمة التي تثير الكاتب إلى التغني بأمجادها، ولم يكتسب الشخصية الجديدة التي تثيره إلى الإشادة بقوتها، ولذلك كان طبيعياً أن يذهب الكتاب والشعراء إلى المحيطين البعيدين، الغربي والعربي القديم، لأن شخصيتهما أقوى وأتم.

وأظن القارئ أدرك الآن لماذا اندفع شعراء العصر الأول من الإسلام في الابتكار في الشعر لأن المحيط الجديد الذي خرج إليه العرب من الجزيرة كان عامراً مدهشاً وهكذا ذهب أبو نواس المشدوه بالمحيط الجديد يفاخر به ويتهكم على شعراء الجاهلية، أما ابن المعتز الذي ألف حياة النعيم الجديد إلى حد ما، فكانت أحسن نفحاته هي التي يستمد وحيها من الصحراء ومعانيها التي أصبحت غريبة عنه تثير استغرابه أكثر مما حوله، وأن كانت نضارة هذا المحيط الباقية حافزة له على عدم التخلي عنه تماماً كما صنع الذين جاءوا من بعده ممن ذبلت أمامهم زهرة المحيط الجديد وعاشوا في العهد المتأخر فرجعوا إلى تراث الجاهلية يقلدونه تقليداً فاضحاً لأن هذا الشعر الجاهلي أقوى شخصية وأسطع نوراً من أي شعر جاء بعده

ونعود إلى أدبائنا اليوم، فهم مهما غالوا في المكابرة لا يستطيعون إنكار زهدهم واستخفافهم بهذا المحيط الباهت الألوان الفقير إلى الأمجاد الباهرة، ولذلك فهم لن يبتكروا إلا يوم يؤمنون به، ولا يؤمنون به إلا متى ذهب أثر الدهشة التي يحدثها الأدب الغربي الجديد أو العربي القديم في أذهانهم، على أن ترافق هذا زيادة في سطوع المحيط.

هذه هي موانع الابتكار وهي قوية لا يستطيع الكاتب مهما كانت عبقريته التخلص منها

خير لأدباء هذا الجيل أن يكتفوا بأدب النقل ويجودوا فيه ويهيئوا المجال للجيل القادم فأن مجدهم لن يقوم إلا على النقل وهو مجد له خلوده.

(نزيل القاهرة)

محمد يونس