مجلة الرسالة/العدد 209/على هامش رحلتي إلى الحجاز:

مجلة الرسالة/العدد 209/على هامش رحلتي إلى الحجاز:

مجلة الرسالة - العدد 209
على هامش رحلتي إلى الحجاز:
ملاحظات: بتاريخ: 05 - 07 - 1937



في تكية الدراويش

للدكتور عبد الكريم جرمانوس

أستاذ التاريخ الشرقي بجامعة بودابست

عن كتاب نشره باللغة المجرية بعنوان (الله أكبر)

كان شعاع شمس الشتاء يسطع في جو القاهرة ويتألق في السماء اللازوردية، ويريق ضوءه القرمزي على المآذن والقباب فتتوهج أطرافها في الضوء الساطع كما يتوهج الذهب في كف الرجل الكريم. أما أسطح بيوت القاهرة فكانت فرصة لها لتداعب هذه الأشعة - تلك المداعبة الصحية - والريح تعبث بالأوراق والغصون في حدائق قصر النيل الغناء.

وكنت في خلال هذا الوقت وحيدا في غرفتي، شاعرا بأن السكون يطبق علي كجناحين كبيرين، ومنصرفا إلى دراسة بعض كتب الأدب العربي القديم لأقارن بين عصر وعصر، وبلغ بي التعب أشده من عكوفي على القراءة ومحاولة تفهم معاني الكتاب لأنني كنت أميل بفطرتي إلى تحليل أفكار المؤلف والوقوف على المعاني المستترة في باطن الكلمات. ولاح لي أنني أشبه بغواص يجاهد في بحر من الظلمات ليستخرج منه اللآلئ والأصداف. وما أمر العكوف على قراءة الكتب الخطية في بلاد الشرق؟ تغلق باب الغرفة دونك وتحاول أن تظل بمعزل عن العالم لتمثل في خاطرك العصر الذي عاش فيه المؤلف والظروف التي كانت محيطة بها، وإنها لمعجزة أن يظل الكتاب مهملا سنوات برمتها، فما تكاد تفتحه حتى تهب عليك النسمة القديمة بسحرها وعطرها وتسمع كلام المؤلف أو صوت الشاعر كأن لم يغيره تقلب الحوادث وانصرام الأجيال

وفيما كنت أقلب هذه الأفكار وأشباهها إذ طرق الباب، وكان الطارق صديقي محمد أمين حسونه، أتى لزيارتي ودعوتي إلى نزهة خلوية في ضواحي القاهرة. وكانت الزيارة في يوم الجمعة - وهو يوم عطلة عامة في البلاد الإسلامية - ففي هذا اليوم المقدس تعطل المصالح والدواوين وتقفل الحوانيت، ويتحتم على المسلمين أن يهرعوا إلى المساجد إذا سمعوا صوت الآذان. أما الآخرون الذين لا تربطهم بالتجارة صلة فهم يقضون ذلك اليو في اللهو والمتعة على ضفاف النيل الجميلة وفي داخل الحدائق الفيحاء المبعثرة في جوانب القاهرة.

وفي أثناء احتساء القهوة اقترح صديقي حسونه أن نقصد إلى حدائق الحيوانات للتريض أو تناول طعام الغداء في ظلال الأهرام. ولكني أجبته: وما رأيك في زيارة إحدى تكايا البكتاش

هناك طفح وجه صديقي بشرا. وفي الحال وافقني على القيام بهذه الزيارة. فقلت له: لقد زرنا الهرم عدة مرات وتحملنا بعض المشاق للوصول إليه بالترام. ثم تحدثنا عن بناء الأهرام وكيف حاول العرب أن يهدموا ذلك الأثر الخالد لاعتقادهم بأنه يحوي كنوزا في جوفه. ولكن على الرغم من المجهودات الشاقة التي بذلوها فانهم اضطروا إلى الانقطاع عن هدمه بعد أن أنهك قواهم وكلفهم نفقات باهظة، وعندما استولى المماليك على مصر كانوا يظنون أن الأهرام من عمل الطبيعة. وحاول البعض منهم أن يجرب أخذ الأحجار منها للبناء ولكنهم أكرهوا على التخلي عن هذه الفكرة لصعوبة تنفيذها وربما كان عدم قدرتهم على تنفيذها موافقة لإرادة الله الذي قضت حكمته ببقاء هذا البناء المهيب الشامخ كرمز لعظمة مصر القديمة. وكثيراً ما قصدت إلى منطقة الأهرام وقضيت سويعات شاعرية أناجي القمر وأراقب أشعته اللجينية وهي تغمر الأحجار الضخمة التي يتألف منها البناء الشامخ.

في هذه البقعة الساحرة يجتمع الماضي والحاضر والمستقبل وتبدو عظمة مصر الخالدة التي بهرت العالم. ولكن مالنا نتغنى الآن بتلك الأكوام الحجرية المكدس بعضها فوق بعض. أجل ليس في هذا ما يسر الخاطر ولا ما يشرح النفس - وما هي القيمة الروحية التي تمدنا بها رؤية الأهرام أمام زيارة تكية الدراويش، تلك الطائفة التي ما زالت تلهب في نفوسنا أسمى معاني الخلود ومتاع الآخرة.

وانطلقنا في طريقنا إلى تكية البكتاشية بعد أن عبرنا شوارع القاهرة الرئيسة وانتهت بنا العربة إلى مقابر الخلفاء. هناك أفضى إلى صديقي حسونه أنه حين كان طفلا وأسيئت معاملته أمام الأسرة، لم يجد من يلجأ إليه سوى كلب أرمنتي كان مقعيا على الدرج في نفس هذه البقعة، وكان يستدفئ بالشمس فاحتضنه ثم بكى. وبعد برهة وصلت إلى سمعه أصوات موسيقية متنافرة، فإذا بها حفلة من حفلات الزار التي تعودت نساء القاهرة إحياءها. وكانت الحفلة تقام في أحد المنازل المجاورة لتلك القبور. فحمل صديقي الكلب وانطلق إلى هناك حيث أتيح له أن يشاهد أكثر من عشرين سيدة وهن يرقصن على نغمات الموسيقى بجنون وحشي إلى حد أن كن يتصادمن ويتلاحمن، وكان البعض منهن يمزقن الأثواب. أو يمتطين ظهور الخراف البيضاء المصبوغة بالدم. وأسر إلى صديقي بأنه أحس بالراحة ساعتئذ ولم يعز هذه الراحة إلى أية صفة مجهولة، بل ببعد هؤلاء المريضات عن الإنسانية، وفي عزلتهن هذه ما يشفي عواطفهن الهستيرية ويبرئهن من النضال الدنيوي الذي وقعن فيه.

وبينما كنا نبحث ونتجادل في البواعث الحقيقية لحفلات الزار، ألفينا أنفسنا أمام أبنية التكية الملصقة بحبل المقطم، وبعد أن ارتقينا الدرج واجتزنا حدائق التكية أحسست بنشوة وانتعاش، كالنشوة التي تحدثها الريح في يوم ساكن، ولقد ازداد سرورنا عندما اجتمعنا بطائفة من الزوار الأجانب الذين أتوا خصيصا لشهود حفلات الذكر الموسيقي، كذلك رأينا فريقا من النساء وهن واقفات بخشوع وشاخصات بأبصارهن إلى الأشجار الباسقة التي تكاد تشق أجواز الفضاء.

أما بيوت الدراويش ومساكنهم فتقع في الجهة اليسرى من الحديقة، وهي مساكن نظيفة، غاية في البساطة ولكنها فاخرة الرياش، تزينها لوحات بها رسوم رؤساء الطائفة السابقين. وتعلو هذه الإطارات - بلطة - وهي رمز الدراويش. ويزور التكية عادة جم غفير من أعيان الأجانب وبعض أمراء الشرق، ولقد شاهدت الكثير من رسومهم الفوتوغرافية وتوقيعاتهم لدى شيخ التكية. ويقع بالجهة اليمنى من الفناء الداخلي مطبخ ضخم البناء، وما كدنا نصل إليه حتى شممت رائحة الشواء ورائحة الطهي الزكية، وسال اللعاب في فمي وتحركت شهيتي فتقدمت نحو المطبخ ورأيت الطاهي يشوي شرائح اللحم الضأن. وعزم علينا الطاهي بأن نتذوق طعامه، فلم أجد مانعا من إجابة طلبه وأخذت ألتهم قطعة اللحم بشهية.

تبلغ مساحة مطبخ البكتاشية نحو مائة متر مربع بحيث تسع إعداد طعام لأكثر من مائتي شخص تقريبا، ولقد أخبرني الطاهي أن للزمن تقلباته وانهم الآن يتوخون الاقتصاد في مأكلهم مع انهم من سنوات خلت كانوا يتمتعون بأنواع المآكل الشهية، وأنهم كانوا يولمون الولائم الفاخرة لأكثر من مائة ضيف بعد انتهاء حفلات الذكر، أما الآن فقد تغيرت الأحوال لأن الهبات التي كانت تصلهم كادت تقطع، ومن الغرابة أن كل ما في التكية قديم أثري، فالدراويش قد بلغوا من العمر عتيا، لا يعرف من أمرهم إلا نفر قليل من سكان القاهرة، ولا يزورهم إلا خاصة الأصدقاء، ولولا زيارة بعض الأجانب لأصبحت تلك الدور في عالم النسيان. حتى صديقي المصري حسونه الذي لازمني في هذه الزيارة لم ترق في عينيه أحوال تلك الطائفة ولكني على الضد منه ألفيت لذة عظيمة لزيارة هذه الطائفة التي تربطني بها روابط روحية.

البقية في العدد القادم

عبد الكريم جرمانوس