مجلة الرسالة/العدد 209/في التاريخ السياسي

مجلة الرسالة/العدد 209/في التاريخ السياسي

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 07 - 1937



المسألة الفلسطينية والآراء المعروضة لحلها

بقلم باحث دبلوماسي كبير

تجتاز المسألة الفلسطينية الآن دورا دقيقا حاسما؛ فهي الآن قيد البحث والدرس من جانب السياسة البريطانية، والسياسة البريطانية تحاول هذه المرة أن تضع لحلها تسوية دائمة يقبلها العرب واليهود معا؛ ومنذ أن احتلت بريطانيا العظمى فلسطين، وصدر عهد بلفور لليهودية بجعلها وطنا قوميا لليهود، أعني منذ عشرين عاما، لم توفق السياسة البريطانية إلى تحقيق السكينة والسلام في فلسطين؛ ذلك لأن النظام الغريب الذي ابتدعته السياسة الاستعمارية لهذه البلاد العربية لم يكن طبيعيا يرجى له البقاء، فهو فضلا عن كونه يقضي بتمزيقها إلى شطرين هما فلسطين وشرق الأردن، فانه أيضاً يقضي بجعلها، وهي البلاد الإسلامية العربية، وطنا قوميا لليهود من جميع أنحاء العالم؛ وقد كان حلم اليهودية منذ أواخر القرن الماضي أن تستعمر فلسطين، وأن تحقق باستعمارها أمنية العودة إلى أرض الميعاد وإحياء مملكة إسرائيل بعد أن دثرت منذ آلفي عام؛ فلما أسفرت تطورات الحرب الكبرى عن قيام الحكومة البريطانية بإصدار عهدها بتعضيد إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين، فتحت فلسطين على مصراعيها لتلقى الهجرة اليهودية من سائر الأنحاء، ولم تمض أعوام قلائل حتى طغى هذا السيل الجارف على فلسطين، واستأثرت اليهودية بمعظم مرافقها الاقتصادية، وشهد العرب في فزع وروع بلادهم تتحول بسرعة إلى مستعمرة يهودية يكادون يصبحون فيها غرباء عن أوطانهم؛ ومع أن اليهود ما زالوا من الوجهة العددية أقلية (فهم اليوم نحو أربعمائة ألف مقابل نحو ثمانمائة ألف من العرب) فانهم من الوجهة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية هم ذوو النصيب الراجح في شئون فلسطين وفي مرافقها وثرواتها، تعضدهم السياسة الإنكليزية وترجح رأيهم ومصالحهم.

هذا الوضع الشاذ لمصاير الفلسطينية لم يكن يرجى له البقاء، ولم يرتضه العرب منذ الساعة الأولى بل قاوموه بكل قواهم، وثارت فلسطين العربية غير مرة في وجه هذا الاعتداء الصارخ على حقوقها القومية والتاريخية، وأسمعت صوتها للسياسة البريطانية وللعالم كله، وكان العام الماضي مشهد فصل رائع من ذلك النضال الجلد المؤثر الذ تخوضه فلسطين للذود عن كيانها. وللمرة الثالثة أو الرابعة تحاول السياسة الإنكليزية أن تبحث المسألة الفلسطينية على ضوء الحوادث والتطورات الواقعة، وقد حاولت من قبل أن تعالجها ببعض الحلول الجزئية، كإنشاء مجلس تشريعي، أو تقييد الهجرة اليهودية، أو الحد من بيع الأراضي إلى اليهود؛ ولكن الأمة الفلسطينية لم تقبل هذه الحلول العرضية، وما زالت تتمسك بمطلبها الأسمى، وهو إلغاء عهد بلفور وإلغاء الانتداب البريطاني ومع أن السياسة البريطانية ما زالت تصر على خطتها في التمسك بالانتداب وعهد بلفور، فأنها تشعر اليوم شعورا قويا بأنه يستحيل عليها من الوجهة العملية أن تمضي في هذه الخطة، وأن السلام لا يمكن أن يستتب في فلسطين ما لم يوضع حل نهائي شامل للمسألة الفلسطينية يرضى العرب واليهود معا. وهذه في الواقع هي النقطة الشائكة في الموضوع، ذلك أن كل حل تلحظ فيه أماني العرب لابد أن يجد فيه من نشاط الصهيونية وأمانيها في فلسطين، وهذا ما لا ترضاه اليهودية، بل تقاومه بكل قواها؛ واليهودية قوة عالمية ذات شأن وذات نفوذ يذكر في عالم السياسة والمالية العليا، والسياسة الإنكليزية لا يمكن أن تنسى هذه الحقيقة، فإذا أضفنا إلى ذلك أن بريطانيا العظمى قطعت لليهودية في شأن الوطن القومي عهودا يصعب عليها أن تتراجع فيها، أدركنا مبلغهما يحيق بحل المسألة الفلسطينية، من المصاعب الفادحة والاعتبارات الدقيقة.

وقد كانت آخر خطوة اتخذتها الإنكليزية في سبيل المسألة الفلسطينية، انتدابها في العام الماضي على أثر الاضطرابات التي اضطرمت بها فلسطين مدى أشهر لجنة ملكية لتحقيق أسباب هذه الاضطرابات وسماع أقوال العرب واليهود وتعرف موقف كل فريق وأمانيه وأسباب تذمره؛ وأن توصى بعد درس الحالة بخير الحلول التي تراها كفيلة بوضع الأمور في نصابها وحل المسألة الفلسطينية حلا يوفق بين مختلف الأماني والرغبات ويكفل استتباب النظام والأمن في فلسطين؛ وقدمت هذه اللجنة إلي فلسطين في أواخر العام الماضي وقامت بمهمتها؛ وفي الأنباء الأخيرة أنها وضعت تقريرها المنشود ورفعته إلي الحكومة الإنكليزية لدراسته واتخاذ قرارها بشأنه؛ ولم يعرف رأي اللجنة بعد في حل المسألة الفلسطينية بصورة قاطعة، ولكن الصحف البريطانية أذاعت أخيراً أنباء يستفاد منها أن اللجنة ترى أن تقسم فلسطين إلى منطقتين إحداهما عربية والأخرى يهودية، وأن يختص العرب بالمنطقة الشرقية ولها منفذان إلي البحر عن طريق يافا وحيفا؛ وأن يختص اليهود بالمنطقة الغربية ويعطي لها نظام الدومينون، وأن تجعل مدينة القدس وبيت لحم منطقة دولية مستقلة تحت إشراف عصبة الأمم، وأن تجعل حيفا قاعدة بحرية بريطانية؛ ويلاحظ أولا أن هذه الفكرة في تقسيم فلسطين بين اليهود والعرب إلى مناطق اتحادية، وجعل مدينة القدس مركزاً دينياً حراً على مثل (مدينة الفاتيكان) في رومه. ليست جديدة ولم تنفرد بإبدائها اللجنة الملكية البريطانية، بل هي فكرة ظهرت منذ أعوام وقل بها بعض زعماء الصهيونية ورجال السياسة، على اختلاف في بعض التفاصيل؛ ولكن هل يعتبر هذا الحل علاجا ناجعا للمسألة الفلسطينية؟ وهل يرتضيه طرفا النزاع؟ وهل يحقق السلام المنشود؟ هذا ما يشك فيه الشك أولاً، لأن العرب لا يرتضون حلا لقضيتهم يقوم على تمزيق بلادهم واقتطاع نصفها لليهودية بصفة نهائية وحصرهم في منطقة ضيقة هي أقل المنطقتين من حيث المزايا الإقليمية والاقتصادية؛ وثانيا لأن اليهودية تأبى أن تحد أطماعها في فلسطين على هذا النحو، ولا ترضى بأقل من فلسطين كلها ميدانا لنشاطها الاستعماري، بل لقد حاولت اليهودية في الأعوام الأخيرة أن تدفع نشاطها إلى شرق الأردن، وهي المنطقة التي حرمها صك الانتداب على الوطن القومي اليهودي فكيف بها ترضي اليوم أن تحصر في المنطقة الساحلية؟ وكيف ترضى اليهودية أن تنزع من نفوذها مدينة القدس، إيليا أو أورشليم عاصمة داود وسليمان. ومثوى ذكرياتهم التي يبكونها منذ ألفي عام؟ الواقع أن فكرة التقسيم؛ إذا صح أنها هي العلاج الذي تراه اللجنة الملكية، حلا للقضية الفلسطينية، تصطدم بأكبر العقبات، ولا يلوح أنها تلقى حظاً كبيراً من القبول أو النجاح

هذا وقد تقدمت في تلك الأثناء بعض المقامات المصرية العليا التي تعنى بالشئون العربية والإسلامية باقتراح جديد لحل المسألة الفلسطينية خلاصته أن تضم فلسطين إلى سوريا وأن تؤلف منهما مملكة عربية إسلامية متحدة يتبوأ عرشها أمير من أمراء العرب البارزين وتعقد هذه المملكة مع بريطانيا العظمى وفرنسا معاهدة صداقة وتحالف على مثل المعاهدة المصرية الإنكليزية. وإدماج فلسطين في تلك المملكة العربية الجديدة يعاون على حل مسألة الوطن القومي اليهودي بصورة عملية؛ ذلك أن اليهود يصبحون في المملكة الجديدة أقلية دينية، ويكون مثل الأقليات الدينية بمصر، تكفل لهم قوانين البلاد الأساسية المساواة مع باقي السكان في الحقوق والواجبات

وأذاعت الأنباء أيضا أن الأمير عبد الله أمير شرق الأردن يرى لحل القضية الفلسطينية رأياً مماثلا بيد أنه يرى أن تكون المملكة العربية المشار إليها مكونة من فلسطين وسوريا، والعراق

ويقال أن هذا الاقتراح بإنشاء مملكة عربية متحدة تكون فلسطين إحدى أجزائها هو الآن موضع اهتمام الدوائر السياسية البريطانية، بيد أنه يلوح لنا أن هذا الحل يثير صعاباً عملية جمة. ومن المحقق أولا أن الأمة الفلسطينية يسرها أن تنضم إلى شقيقتها الكبرى سوريا، وأن يستأنف القطران بذلك وحدتهما التاريخية. ولكن هذا الضم لا يتوقف على رأي السياسة البريطانية وحدها، بل يتوقف أيضا على رأي السياسة الفرنسية التي تسيطر حتى اليوم على مصاير سوريا؛ ومن المشكوك فيه جدا أن توافق عليه بريطانيا العظمى لأسباب عسكرية واقتصادية خطيرة؛ ومن جهة أخرى فان سوريا الجمهورية لا ترتضي الانضواء تحت لواء الملوكية المقترحة ولبنان تتمسك باستقلالها وانفصالها؛ وأما اليهودية فإنها قد لا تأبى مثل هذا الحل، بل ربما رحبت به لأنه يفتح أمامها آفاقا جديدة للعمل، وإذا كان وجود الوطن القومي اليهودي في فلسطين خطراً اقتصادياً واجتماعياً على الأمم الإسلامية المتاخمة له، فان هذا الخطر يغدو أشد وأعظم إذا اتسع نطاق العمل أمام اليهودية واستطاعت أن تخلق لها مراكز جديدة للنشاط والعمل في القطر السوري أيضاً؛ هذا ومن الخطأ أن نقدر قوة اليهودية بأقليتها العددية، فان هذه أقلية تستند إلى قوى عظيمة في الخارج تغذيها بتعضيدها المادي والمعنوي؛ واليهودية العالمية قوة لا يستهان بها

والخلاصة أن المسألة الفلسطينية لا تزال في دور؛ وليس في الحلول المعروضة ما يؤدي إلى تسويتها بصورة دائمة مرضية، غير أنه لما كانت الحكومة البريطانية قد اقتنعت بعد حوادث العام الماضي بأنه لابد عمل شيء جديد يكفل استتباب النظام والأمن في فلسطين فهي بلا ريب ستحاول القيام بتجربة جديدة؛ واستتباب السلام في فلسطين يهم السياسة البريطانية في الظروف الحلية بنوع خاص، لأنها أضحت ترى في فلسطين مركزاً جديداً للدفاع الإمبراطوري يمكن الاعتماد عليه؛ وتقرير اللجنة الملكية الآن قيد البحث والدرس، وسنرى عند أذاعته على أي الأسس ترى اللجنة أن تقسم فلسطين إلى دولتين إحداهما عربية، والأخرى يهودية، وسنرى أيضاً إذا كانت الحكومة البريطانية تميل إلى تطبيق هذه التجربة الجديدة في فلسطين، على أنه مما لاشك فيه أن اليهودية تعمل اليوم كما عملت دائما على تدعيم مطالبها وأمانيها مهما كانت السياسة الجديدة التي تنتهجها السياسة البريطانية؛ وسيجتمع عما قريب في مدينة تسيريخ (زيوريخ) بسويسرا مؤتمر صهيوني عالمي جديد، يعيد إلينا ذكرى مؤتمرات بال الشهيرة التي وضعت فيها أسس السياسة الصهيونية الحاضرة؛ ونحن على يقين من أن العرب يقصروا في الدفاع عن قضيتهم التي برهنوا دائما على انهم أهل للدفاع عنها؛ بيد أن الظرف الحاضر يقتضي بلا ريب مضاعفة الجهود؛ فعلى العرب أن ينظموا صفوفهم ليستأنفوا نضالهم السلمي المشروع، مزودين بقوة العدالة والحق والإيمان

(* * *)