مجلة الرسالة/العدد 209/نفثة محزون

مجلة الرسالة/العدد 209/نفثة محزون

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 07 - 1937



للأستاذ إبراهيم عبد الوهاب

في ميعة الصبا ونضرته، وفي ربيع الحياة وزهوه، أختطف الموت أبني ولم يتجاوز الثانية عشرة من عمره، ففاض صدري بهذه الكلمة تفجعاً عليه ورثاء له

عافَ الحياة ومَلَّ من أوْصابها ... لما ألَحّ الداَء في أسبابها

بَكَرَت إليه يد المنونِ ولم يكد ... يُوِفي من الدنيا على أبوابها

ورمت مَنيته إليه شباكها ... وعَدَتْ عليه بظفرها وبنابها

وطوت صحيفتَهُ ولما يَكْتَمِلْ ... عنوانُ قصتها وبَدْءُ كتابها

فمضى كأزهارِ الربيع قصيرةٌ ... أيامُها وفريدة في بابها

أبني أيُّ فجيعةٍ غدَّارةٍ ... دَهْياَء قد نزلت بفصْلِ خطابها

رمت القلوب فأقْصَدتْ حياتها ... وَمَحتْ جميل الصبر في أعقابها

وأسالت الدمع الأبيَّ كأنه ... غيثُ السماءِ هَمَي وهَطْلُ سحابها

لَهَفي عليك وأنت نِضْوٌ خائر ... تشكو من الحمى ومن أذنابها

وتبينت مضطرباً كأنك في لظى ... قَلقَا تَوجَّعُ من أليم عذابها

حلت بجسمك لا تريد فراقه ... فكأنما ألْفتْكَ من أحبابها

ورمت يديك برعدة مشئومة ... أيقنْتُ أن الموت ينذرنا بها

الجسم مرتعها ولحمك طُعْمُها ... وعصير قلبك من لذيذ شرابها

صهرتك لم ترحم صباك ولم تَهِنْ ... حتى مضت بالروح أسلابها

وقف الطبيب إلى سريرك مطرقا ... حَيْران مُغْتنمًّا لدائك آبِها

ودعا صحابته إليك فلم يجد ... رأياً جديداً أو مشيراً نابها

وأهابَ بالطب العتيد فخانه ... وأراد معجزة فما أوْفَى بها

الطب إن شاء الإله وسيلة ... تشفي من الحمى ومن أترابها

أو لم يشأ تلقاه شر رسالة ... للموت يُزْجيها إلى أربابها

قل للمؤمل في الطبيب وطبه ... إن الحياة رهينةٌ بكتابها

لا الطب يصنعها ولا أقطابه ... الله قدرها ليوم مَآبِها هي صنعة المولى تَمَلَّكَ سِرَّها ... وأجادها وَوَعي دقيق حسابها

أبُنَيَّ أزْمَعْتَ النوى وتركتني ... أشْتَفُّ من كدر الحياة وصابها

أذكيت نار الحزن تلتهم الحشا ... وتذيب قلبي من سعير لهابها

تلك الدموع الحائرات بمقلتي ... هي مهجتي تنساب من أهدابها

أفلا رَحِمْتَ أباك من أدوائه ... حتى أضفت لها الفراق مشابهاً

ورَحِمْتَ أمك من لواعج ثكلها ... وغزير عبرتها وسود ثيابها

تبكي وتندب حظها وعِثَارهُ ... وَربيبَ مهجتها وصِنْوَ شبابها

وتود لو أنَّ الدموع شرابُها ... أو أن ماء البحر من تسْكابها

وتطوف حول القبر تلتمس الهدى ... فكأنما أوفتْ على محرابها

حَيْرَى مُحَسَّرةً تمثل حزنها ... فتكاد تلمسه على جلبابها

الخطب أرهقها وحَطَّمَ عودها ... ولرُبَّ عاقلةٍ مَضى بصوابها

قد كنت وَثّاب الذكاء مَحَّبباً ... وبرئت من طبَعِ الخصالِ وعابِها

قد كنت بهجة دارنا وسرورها ... فغدت بفيض الحزن من أَعتابها

قد كنت لي أملاً ألُوذُ بنوره ... في لجة الدنيا وشق عبابها

غدت الحياة ثقيلة أيامها ... ضَيْقٌ على رَغمي فسِيحُ رحابها

ما أضيع الآمال بعدك والمنى ... هي خُدْعَة الدنيا وكِذْبُ سَرَابها

حشدت لي الأيام حُرَّ نِصَالها ... ومضت تجُذُّ بحدها وذُبابها

وتتابعت نُوَبُ الزمان كأنما ... ألِفتْنيَ الأحداثُ في إغْبَابها

وأصاب هذا الدهر خير أحِبّةٍ ... سَلكتْهُمُ العلياءُ في أنْسَابها

كانوا ملاذ الفضل مُعتصمَ الحجا ... وبشاشة الدنيا وزَهْوَ خِضَابها

قد كنت أمرح بينهم في روضة ... والآن صرت لوحدتي ويَبابها

أَبني إن عظمت بفقدك نكبتي ... فرَجائيَ المولى عظيمُ ثوابها

ناداك ربك فاستجبت نداءه ... وصدَفْتَ عن دنيا الورى وكذابها

نم في جوار الله غير مُرَوَّع ... وانعم بجنته ورحب جنابها

وَارْتعْ هنالك بين رَيِّق مائها ... وبهيج سُنْدُسِها وفي أعْنابها وارْجُ الإله لوالديك تصبُّراً ... ينسيهما البلوى وَوَقعَ مُصابها

إن الذي خلق المكاره والأسَى ... هو باري الرحماتِ يُسْعِدُنا بها

إبراهيم عبد الوهاب

المدرس بمدرسة المنيرة الابتدائية الأميرية