مجلة الرسالة/العدد 21/شاعر

مجلة الرسالة/العدد 21/شاعر

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 11 - 1933


للأستاذ احمد أمين

شاعرنا اليوم نشأ جاهليا، ونشأ في الطائف. والطائف مدينة في الجنوب الشرقي من مكة تبعد عنها خمسة وسبعين ميلا، اشتهرت بطيب هوائها وجودة مزارعها. وقد اعتاد المترفون من العرب أن يقضوا الربيع بجدة، والصيف بالطائف، والشتاء بمكة. قال النميري يصف أخت الحجاج بالنعمة:

تشتو بمكة نِعمَةً ... ومصيفها بالطائف

أخصبت أرضها، وجرى الماء في وديانها، فكثرت مزارعها، وجادت فواكهها، من نخيل وأعناب، بها جبل يقال له (غزوان) كثرت كرومه، وكان عنبه العذب وزبيبه الحلو مضرب المثل جودة وكثرة، حتى ليروون أن سليمان بن عبد الملك لما حج رأى بيادر الزبيب فظنها حِرَاراً فقالوا ليست حراراً ولكنها بيادر الزبيب. وقد حسدهم العرب على ما هم فيه من نعمة، فسوَّروا بلدتهم وحصنوها من أعدائهم، فصارت ملجأ الهارب وملاذ الخائف، وضرب المثل بمناعتها حتى قال القائل:

منعنا أرضنا من كل حي ... كما امتنعت بطائفها ثقيف

كان يسكن الطائف قبيلة ثقيف، وقد أكسبتهم أرضهم وثروتهم وطبيعة بلادهم وجوهم رقيا في الحياة من الناحية الاجتماعية والعقلية، فاقوا فيهما من حولهم من السكان، وشعروا بعظمتهم فأكثروا من الفخر بأنفسهم، وقال قائلهم:

وقد علمت قبائل جدمِ قَيسٍ ... وليس ذوو الجهالة كالعليم

بأنّا نُصبح الأعداء قِدْماً ... سِجالَ الموت بالكأس الوخيم

وأنّا نبتني شرف المعالي ... ونُنعشُ عثرة المولى العديم

وإنّا لم نزل لجأ وكهفا ... كذاك الكهل منا والفطيم

وقد أنجبت ثقيف شعراء مجيدين في الجاهلية والإسلام، كما أنجبت ساسة وقادة نبه ذكرهم، وعظم أمرهم، فاشتهر منها من شعراء الجاهلية الشاعر المتدين أمية بن أبي الصلت، وفي العصر الأموي الشاعر الشريف طُرَيح الثقفي، والشاعر الحكيم الأجرد الثقفي. وأشتهر من أمرائها وساستها وقادتها الأمير القوي الحجاج بن يوسف الثقفي، والقائد الشاب محمد ابن القاسم الثقفي فاتح السند ولما يكتمل العشرين، والذي قال فيه القائل:

ساس الجيوش لسبع عشرة حجة ... يا قرب ذلك سؤددا من مولد

كما أن ثروتهم وحضارتهم استتبعت شهرتهم بالفجور والربا حتى أن رسول الله لما صالحهم كان من شروط الصلح أن يسلموا وألا يزنوا ولا يَرْبوا. كذلك كانت كثرة العنب والزبيب في بلادهم سببا في شيوع الخمر بينهم وولوع أهلها بشربها. وقد كانت الخمر شائعة بين العرب في الجاهلية، ولكن بين خاصتهم لا بين عامتهم، إذ أن عامتهم قد عدموا القوت وحرموا ضرورات العيش أما المترفون فشربوا كثيرا وقالوا في شربها كثيرا. وقل أن نجد شاعرا جاهليا لم يتمدح بشربها وإتلاف ماله في سبيلها. وكانت الخمر تأتيهم من الشام ومن اليمن ومن الطائف، وكان الأعشى الشاعر يتجر

فيها، وكان له بقرية في اليمن يقال لها (أثافت) مِعْصَرة للخمر يعصر فيها ما يقدم له من أعناب. ونلاحظ من تاريخ العرب في الجاهلية وتراجم رجالها أن هناك طبقة من الشباب اعتادت أن تتلف مالها في الشراب، هم فئة من أولاد السراة نشأوا في ثروة وجاه، وألَّفت بينهم وحدة النزعة، يجتمعون في المواسم والأعياد والمناسبات فينحرون الجزوز ويهيأ لهم، ويشربون عليه وتغنيهم القيان أو الموالي من الفرس والروم والأحباش، ولكن هذه الطبقة لم تفقد مع شربها ولهوها شرفها وإبائها، فهي مع ذلك كله نبيلة كل النبل شريفة كل الشرف ثارت على كل شيء إلا قانون المروءة، وقانون المروءة يتلخص في الشجاعة والكرم. لا يعبئون بالحياة، يبذلونها في سخاء للإنجاد من أستنجد بهم، ونصرة الضعيف يستصرخهم ويلجأ إليهم، لا قيمة لحياتهم إذا مست كرامتهم أو كرامة قبيلتهم أو اعتدى أحد على جارهم أو حليفهم أو عبدهم، ولا قيمة للمال يوم يسألهم سائل أو يدعوهم لبذله داع، ولا بأس بالفقر يحل بهم وينزل بساحتهم، ولا ضرر إذا خسروا المال وكسبوا الشرف، وويل لزوجاتهم إذا لمنهم في الاستهتار بالحياة أو أتلاف المال، إذ ذاك يصبون عليهن نقمتهم ويملؤن الدنيا شعرا في لومهن وتأنيبهن. شاعرنا اليوم كان من هذه الطبقة، فتى غني، من ثقيف، من الطائف، شجاع، كريم، يكثر الشراب، ويتلف المال، ويحتفظ بالمروءة ويقول:

لا تسأل الناسَ عن مالي وكثرته ... وسائل الناس عن حَزمي وعن خلقي

القوم أعلم أني من سَرَاتِهِم ... إذا تطيش يد الرِّعديدَةِ الفرِق قد اركبُ الهولَ مسدولاً عساكره ... وأكتم السِّرَّ فيه ضربَة العنق

عف المطالب عما لست نائله ... وأن ظُلمت شديد الحقِد والحنق

وقد أجود وما مالي بذي فنع ... وقد أكرُّ وراء المجحَرِ الفَرِقِ

سيكثر المالُ يوماً بعد قلته ... ويكتسي العود بعد اليبس بالورق

ظلت ثقيف على جاهليتها لا تذعن لدعوة الإسلام حتى أسلم من حولها ورأت نفسها بمعزل، فاضطرت إلى الإسلام في السنة التاسعة للهجرة، وسمع شاعرنا بالإسلام وتعاليمه فوقف حائرا، إن الإسلام يدعوا إلى المروءة وهو ذو مروءة، إن الإسلام يدعو إلى الصدق ومكارم الأخلاق وكل هذا حسن (فليسلم) ولكنه يأمر المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم، ولا يمدوا أعينهم إلى غير نسائهم، كما ينهي عن الخمر ويعاقب على شربها، فكيف يسلم وقد ألف الغزل ولا حياة له بغير الخمر؟ وقف قليلا ولكنه أسلم مع قومه وفوَّض إلى الله أمره ولم نسمع عنه في حياة رسول الله وأبي بكر شيئا ولكنا نراه اصطدم مع عمر وهو الشديد في الحق لا تأخذه فيه هوادة، فعاد شاعرنا يتغزل ويشرب. يرى امرأة من الأنصار تسمى (الشَّمُوس) فيحبها ويحاول رؤيتها بكل حيلة فلا يستطيع، فيؤجر نفسه ويعمل في حائط يبنى بجانب منزلها ويطل عليها من كوة البستان ويقول:

ولقد نظرت إلى الشَّمُوس ودونها ... حَرَجٌ من الرحمن غير قليل

ويشرب ويقول الشعر في الخمر:

إن كانت الخمر قد عزت وقد منعت ... وحال من دونها الإسلام والحرج

فقد أباكرها صِرفاً وأمزجها ... ريًّا وأطرب أحيانا وأمتزج

فيحده عمر حد الشرب، فيفكر شاعرنا ويطيل التفكير: هل يترك الغزل والخمر؟ لقد كان ذلك قبل الحد أما بعده فلا. إن من العار أن يتحدث الناس أني تركت الخمر خوفا من العقوبة وأنا الأبي الشجاع الذي لا يعبأ بالحياة إذن فلأشرب وليحدني عمر. وفعلا شرب فحده، وشرب فحد، وبلغ ذلك سبع مرات أو ثمانيا، وهو لا يزال على رأيه، مصمم على تفكيره، ماض في غزله وشربه، حتى يئس عمر من علاجه وضاق به ذرعا، فقرر أن ينفيه في جزيرة كانت تنفي فيها العرب في الجاهلية خلعائها، وبعث معه حَرَسيّا يحافظ عليه حتى لا يهرب، وأوصاه ألا يأخذ سجينه سيفا معه، وقد عرف عمر كيف ينتقم، فلم يألم شاعرنا من شيء ألمه من هذا الرأي. سيكون في جزيرة وحده لا غزل ولا شراب، ولكن ليس هذا ما آلم نفسه وأدمى قلبه، إنما آلمه أن يعيش عيشة الضعفاء المساكين والرجال في غزوات الحرب يقتُلون ويُقتلون وأن يعيش عيشة النساء في خدورهن وهو الفارس الكمي، لا، لا، الموت أهون من هذا. تظاهر شاعرنا بأنه يحمل غرارتين ملئتا دقيقا وعمد إلى سيفه فجعل نصله في غرارة، وجفنه في غرارة، ودفنهما في الدقيق حتى إذا جاوز هو والحرسي المدينة ولقيا من سفرهما هذا نصبا جلسا للغداء، فقام شاعرنا يوهم أنه يخرج دقيقاً فأخرج سيفه ووثب على الحرسي فخرج يعدو على بعيره راجعا إلى المدينة وظل صاحبنا وحده. الآن لا أعود إلى المدينة ووفيها عمر، ولا أطوف في البلاد ألهو فلست بعد اليوم لاهيا، ولكن إلى حيث يحيا الرجال والفرسان حياة النجدة والشهامة إلى مواقع الغزوات، إلى أشدها هولا، وأصعبها مراساً، إلى (القادسية) حيث المواقع الفاصلة بين سيادة العرب وسيادة الفرس. ولكن عمر الساهر على كل شيء في مملكته، لم يخف عليه أمر شاعرنا، فعرف أين توجه، فما، وصل إلى القادسية حتى سبقه كتاب عمر يأمر سعد بن أبي وقاص بحبسه، ففعل ذلك وحبسه في قصره وقيده، فمشى يرسف في قيوده ويستعطف سعدا أن يطلقه فزجره، فذهب إلى سلمى زوج سعد وقال لها: هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: تخلين عني وتعيرينني البلقاء (فرس سعد) فلله على إن سلمني الله أن أرجع إليك حتى تضعي رجلي في قيدي، فأبت فقام ثائرا حزينا، يرى القتال على الباب وهو يرسف في القيد، وانطلق لسانه بهذه الأبيات:

كفى حَزَنا أن تطعَنَ الخيل بالقَنَا ... وأُترَكَ مشدوداًعلى وِثاقيا

إذا قمت عَنَّاني الحديد وغلَّقت ... مغاليق من دوني تصِمُّ المناديا

وقد كنت ذا أهل كثير وإخوة ... فقد تركوني واحدا لا أخا ليا

هلم سلاحي لا أبالك أنني ... أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا

ولله عهد لا أخيس بعهده ... لئن فَرَجَت ألا أزور الحوانيا

سمعت سلمى هذا الشعر فرثت له ورأت الصدق في قوله فأطلقته، وأقتاد فرس سعد وخرج إلى مواطن القتال وإذا به أمام الناس يقف بين الصفين ويحمل على العدو حملات منكرة حتى عجب الناس من قتاله وأمره، ورأوا الفرس فرس سعد الطاعن لم يشهد الحرب معهم قبل اليوم، حتى إذا انتصف الليل وتحاجز العسكران رجع صاحبنا إلى القصر وأعاد رجليه في القيد! فلما أصبح الصبح تحدث الناس به وأخبرت سلمى سعدا بما كان منه فأطلقه وعاهده ألا يحده أبدا إذا شرب. الآن ظهرت نفس شاعرنا في شرفها ونبلها وقال لسعد كنت آنف أن أتركها من أجل الحد، فأما إذ بهرجتني فلا والله لا أشربها أبدا. لقد كان مما أخذه عمر عليه قوله:

إذا مت فادفني إلى أصل كرمة ... تروِّي عظامي بعد موتي عروقها

ولا تدفنني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت ألا أذوقها

ويشاء قاص من الظرفاء فيروي أنه رأى قبره بنواحي أذربيجان أو جرجان وقد نبتت عليه ثلاث كروم قد طالت وأثمرت واعترشت، وعلى قبره مكتوب:

(هذا قبر أبي محجن الثقفي) أفاض الله عليه سجال رحمته فقد كان رجلاً وكان نبيلا.

أحمد أمين