مجلة الرسالة/العدد 210/تأملات في الأدب والحياة

مجلة الرسالة/العدد 210/تأملات في الأدب والحياة

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 07 - 1937



للأستاذ إسماعيل مظهر

الثقافة التقليدية:

في مقالات بعنوان (التعليم والحالة الاجتماعية) نشرتها في الرسالة الغراء منذ حين، روجت لنظرية استخلصتها من تاريخ الأمم ودعوتها نظرية (الثقافة التقليدية). ومؤدى هذه النظرية أن لكل أمة من الأمم ثقافة مأثورة تنتقل على الزمن من أهل إلى أهل، وتتوارثها الأمم طبقة بعد طبقة، وأن الثقافة التقليدية الخاصة بكل أمة من الأمم أو سلالة من السلالات، لها من الأثر في الحالات الاجتماعية، ما للصفات الوراثية الحيوية من الأثر في الأفراد، وأن شباب الأمم من حيث القدرة على الرقي والاحتفاظ بالصورة من المدنية تلائم مقتضى البيئة والظروف القائمة من الدنيا الحافة بالأمم، إنما يرجع في الحقيقة إلى استمساك الأمة بثقافتها التقليدية واتخاذها أصلا ثابتاً يغرس فيه ما ينتحل من ثقافات الأمم الأخرى، فتتكيف هنالك المبادئ المنتحلة، تكيفاً ملائماً لطبيعة ما توارث الأمم من مأثور ثقافتها التقليدية. وبذلك تحتفظ الأمة بطابع خاص وتجري تطوراتها الاجتماعية والعقلية والنفسية على قاعدة ثابتة وأسلوب راسخ، فتأمن بذلك شر الفورات الفجائية والثورات المجتاحة والكوارث الاجتماعية المفنية، ويكون لها من مجموع ما حفظت من مأثور أسلافها ضابط يضبط نزوات الأفراد، ويهيئ المجموع بعقلية ذات طابع تقليدي تكون لها بمثابة الكَمَّاحة التي تصدها عن التورط في نواح غير مضبوطة المعايير، أو التعلق بأذيال فكرات ومبادئ مريضة المنطق، بعيدة عن حاجاتها الأولية التي تضمن لها الاتزان والتعقل في طريقها إلى أسمات جديدة من المدنية أو الرقي العقلي.

ولقد أردت بهذه النظرية أن تكون أساساً لسياسة التعليم في مصر، فنتخذ من الأصول التقليدية التي قامت عليها المدنيتان العظيمتان، مدنية الفراعنة في مصر، وأساسها الزراعة والقوة الحربية ومدنية العرب وأساسها الإسلام والأدب العربي، منارة نستشرف منها ما نحتاج من مبادئ عامة فنحور من برامجنا التعليمية وخططنا الثقافية بما يلائم طبيعة التقاليد المأثورة عنهما، ذلك بأن الثقافة التقليدية في نفسية الأمم وعقلياتها بمثابة الصفة الوراثية في الفرد، لا تنفك الأمم عن الأولى أو ينفك الفرد عن صفة تلقاها عن أسلافه هذه النظرية على ما فيها من بساطة في الظاهر تحتاج في إثبات حقائقها إلى تأملات تاريخية عميقة، ينفذ الباحث من طريقها إلى أبعد غور من الأعماق التي ينزل إليها قارئ التاريخ العادي. فأن وراء الحوادث الظاهرة في صفحات التاريخ كانقراض الأمم المالكة، أو فتوح البلاد، أو اندحار الجيوش وانتصارها، أو قيام الحكومات المختلفة وسقوطها، أو تسلط الأفراد على الأمم وإطراح الأمم لسلطة الأفراد، حقائق أخرى تصدر عن صفات نفسية تختفي من وراء الحوادث الظاهرة، فتكون بمثابة القوة المحركة أو الطاقة في المادة، فهي خفية بأعيانها، ظاهرة بآثارها. وهذه القوة إنما تمكن وتستخفي طوعاً لظروف خاصة، وتظهر وتستقوي على غيرها طوعاً لظروف أخرى، وهذه الظروف التي تمكن معها القوى المحركة للجماعات أو تظهر، ينبغي أن تكون موضوع كل من يكب على التأملات في الثقافات التقليدية لدرس مالها من أثر في كون هذه القوى أو ظهورها، بحسب ما يحيط بالجماعات من ظروف تبعدها عن ثقافتها التقليدية أو تقربها منها

أما إذا أردنا أن نستوثق من حقيقة هذه النظرية، فعلينا أن نرجع إلى التاريخ، علينا أن نرجع إلى أقرب تاريخ منا، أي إلى تاريخ العرب. فأن الأمة العربية سادت الدنيا عندما استمسكت بعرى ثقافتها التقليدية، وفقدت الدنيا عندما انحرفت عن الاسترشاد بثقافتها المأثورة. وكذلك كان شأن روما وشأن اليونان قبل العرب. أما الدورات التي انتابت الأمم متراوحة بين الاستعلاء حيناً والتَّنكُّس حيناً آخر، فما هي إلا دورات تقرأ فيها صوراً من التطور ترجع في حقيقتها إلى استمساك الأمم بثقافتها التقليدية حيناً، وتفريطها في ذلك حيناً آخر

فعلينا إذن أن نرسم لمستقبلنا خطة نتخذ فيها ثقافتنا التقليدية نبراساً نستضئ به، وإلا فأنا سوف نظل نتخبط في الظلام فلا نستقر

حادثة:

قد تقرأ تاريخاً كاملا كتاريخ الإسكندر المقدوني وفتوحاته الكبيرة، وقد تستجلي في هذا التاريخ صوراً من شجاعة الرجل ومن إقدامه، وقد تجد في انتصار من انتصاراته سبباً للتأمل والعبرة؛ غير أن كل هذا لا يدلك على حقيقة الرجل قدر ما تدلك حادثة من الحوادث الصغيرة في حياته.

بعد أن هزم الإسكندر جيش فارس الهزيمة الأولى، تقدم بجيشه نحو (طرسوس)، وهي مدينة حصينة من مدن آسيا الصغرى، تعرف في التوراة باسم (طرشيش)، وجاء عيون الإسكندر يخبرونه بأن الجيش الفارسي قد عزم على أن ينهب المدينة ويحرقها إذ لم يبادر الإسكندر باحتلالها. فترك قائده الأكبر (قرمنيون) على رأس المشاة وتقدم الفرسان منحدراً من الجبال الهاوية بمقربة من البحر، إلى السهل الذي تستوي فيه طرسوس، وجد في السير، حتى يتسنى له أن ينقذ المدينة قبل أن يفعل بها الفرس، والسهل الذي تستوي فيه المدينة شديد الحر كثير الرطوبة، وقد افرغ الإسكندر على جسمه درعه الثقيل وعدة حربه، ممتطياً صهوة جواده الصَّوَّال (بُوقيفالوس)، فقطع أميالاً من الوهاد والوديان، حتى إذا أشرف على المدينة، كان قد بلغ منه العطش، فنزل على ساحل نهر (البَرَدَان) وخلع درعه وأستحم في النهر، والظاهر أن هذا النهر ينبع من الجبال ويستمد ماءه من ينابيع باردة، فماؤه مثلج بفطرته، ولقد أصاب المأمون مرض إثر استحمامه في نهر البَرَدان فمات، ولقد أوشك الإسكندر أن يموت، كما مات خليفة المسلمين من بعده؛ ولزم الإسكندر فراشه بعد أن دخل (طرسوس) وشاع أن حياته في خطر.

كان من الأطباء الذين يعنون به طبيب شيخ يدعى (فليب الأكرناني)؛ وكان من قبل طبيباً لأبيه ومن المتفانين في خدمة بيت مقدونيا المالك؛ وقد أقر جميع الأطباء بأن الإسكندر ميؤوس منه، إلا هذا الرجل، فأنه نصح الإسكندر أن يذعن إلى رأيه وأن يشرب جرعة سيعدها له بنفسه، ورضى الإسكندر بذلك على رغم عناده، وخرج الطبيب من حجرة الملك المريض ليعد جرعة الشفاء.

في اللحظة التي خرج فيها الطبيب إلى الحجرة، دخله رسول من قبل قائده (قرمينون) يحمل رقعة في يده، فقدمها إلى الإسكندر؛ وكانت تحذيراً للإسكندر من طبيبه (الأكرناني) فقد أتصل بسمع القائد أن الطبيب مالأ الفرس عليه وأنه تلقى منهم رشوة ليدس له السم في الدواء.

كان الإسكندر قد أتم قراءة الكتاب لما دخل عليه الطبيب حاملاً الجرعة التي أعدها، فتناول الإسكندر الجرعة بيده اليمنى وناوله الرقعة بيده اليسرى؛ وطفق الإسكندر يكرع الجرعة، والطبيب ينظر في الرقعة نظرات جامدة حيرى؛ ثم ناول الإسكندر الكأس الفارغ للطبيب، وناول الطبيب الرقعة للأسكندر؛ ونظر كل من الرجلين في وجه الآخر برهة، ثم استلقى المريض على فراشه، وانصرف الطبيب إلى شأنه، من غير أن ينبس أحدهما ببنت شفة.

ألست تجد في هذا الحادث الصغير معنىً عظيماً يدلك على أن القلب الذي حمله الإسكندر كان جديراً بأن يفتح العالم ويدوخ الدنيا برمتها؟

حاجة اللغة العربية:

وقد تكون لغتنا العربية السمحاء في حاجة إلى كثير من وجوه الإصلاح. قد نقول بأن كتب النحو غامضة وأن قواعد الصرف مشتتة، وقد نقول إن أدب العربية لم يخدم بعد الخدمة الواجبة، بل نقول إن اختلاف مذاهب النحويين، وجمود الكثير من اللغويين أمر لا بد من النظر فيهما وإصلاح شأنهما بما يلائم حاجات أبناء العربية في هذا العصر، كل هذا وأكثر منه صحيح، والحاجة إليه ماسة؛ غير أن أحوج ما تحتاج إليه اللغة العربية المعجمات؛ وأول ما نتكلم في المعجمات القديمة

أما هذه فأما مطولة ترضي نزعة الباحث الذي تمكن من الأدب وربي فيه الذوق الأدبي، فأدمن البحث وطلب الاستقصاء؛ وإما مختصرةً اختصاراً مخلاً في كثير من نواحي الإرشاد اللغوي؛ وليس بين هذين وسط يسد طلبة الأديب العابر في رياض الأدب عبور المستفيد، فلا هو بالمستقصي ولا هو بالقانع بما بين يديه، وهؤلاء هم جمهرة الأدباء عندنا، بل وفي كل الأمم. ناهيك بأن معجماتنا القديمة قد تركت كل مادة علمية من المواد التي عرفها العرب ودرسوها من غير تعريف؛ فهذه دويبة، وذاك طوير؛ وهذا نبت يكون في العراق، وذلك عرق في الساعد أو الزند؛ وكذلك صفة الأمراض، أفي الإنسان كانت أم في الحيوان، فقد قرأت في صبح الأعشى من عيوب الخيل ما يزيد عن المائة عيب، كلها، كما اعتقد، تمت إلى أمراض؛ غير أنك قلما تقع على عبارة تشخص لك المرض أو أعراضه الصحيحة؛ فمعجماتنا ناقصة من هذه الوجهة نقصاً شائناً، ناهيك بأن في كتب الأدب والتاريخ والخطط والشعر والتراجم ألفاظاً لم تدخل المعجمات القديمة؛ ولا نقصد بذلك الألفاظ المولدة، بل نقصد بها ألفاظاً فصيحة صحيحة، فالمعجمات القديمة إذن لم تحط بكل ما في العربية من مادة لغوية؛ وهذا نقص نضيفه إلى ما عددنا قبل.

نتكلم بعد هذا في أنواع المعاجم التي نطالب الآن بوضعها لتتم حاجة اللغة؛ وأول ما نحتاج إليه المعاجم التي تقابل فيها مفردات لغتنا، مفردات لغة أخرى؛ وليست الحاجة في هذا مقصورة على لغة أو لغتين فأن الواجب يحتم علينا أن ننظر إلى كل اللغات الحية، بل وبعض اللغات غير كثيرة الانتشار، لنضع لها معجمات تقابل مفرداتها مفردات من اللغة العربية، على غرار ما نرى في المعاجم الكثيرة عند الأمم التي أدركت ما للمعاجم من أثر في إحياء اللغات ونشر الثقافة والمعرفة.

تأتي بعد ذلك حاجتنا إلى المعاجم الخاصة بالعلوم والفنون؛ فلست تجد الآن معجماً واحداً يرضي حاجة المختصين في علم من العلوم أو فن من الفنون ويسعفهم بالكلمة الصحيحة والتعريف الكامل للمصطلحات التي تصادفهم أثناء بحوثهم؛ وهذا نقص معروف شائع، فلا حاجة إلى التوسع في شرح الحاجة إلى سد ثغرته؛ وإنما يتبقى لنا أن نتعرف أن أمامنا في هذا مجهود شاق طويل علينا أن نبذله وأن نضحي فيه بالجهد والمال والعين والعافية.

أما الطامة الكبرى والمصيبة العظمى فتشعر بها إذا قارنت بين الأسماء القديمة والحديثة الواردة في كتب التاريخ أو الجغرافية، فقد تقرأ الاسم الواحد الدال على ذوات بعينها مرسوماً بعدة أهجية مختلفة في كتب مختلفة أو في كتاب واحد؛ فقد يتفق أن يكون المؤلف قد اعتمد على كتب إنجليزية تارة وعلى كتب فرنسية تارة أخرى؛ فينتقل الاسم الواحد كما يلفظه ويرسمه الإنجليز مرة، وكما يلفظه ويرسمه الفرنسيون مرة أخرى؛ ولا تبلغ بلبلة الألسن في هذه الناحية من الفساد مبلغها في نقل الأسماء القديمة، وبخاصة إذا كانت أسماء عرفها العرب، فقد قرأت في كتب مختلفة الأعلام الآتية: مرجراط، مرجرات، مرغرات، مرغراط، مرج راهط، مرج راهد، مرجراه، وكلها للموقعة المعروفة في مرج راهط؛ وقرأت: رقطيس، راقتيس، راقطبس، راقوده، رقوته، وكلها للمستعمرة الإغريقية المعروفة راقوطيس في شمال الدلتا في تاريخنا القديم وهي راقودة عند العرب؛ وقد أذكر أن الفروق في رسم الأعلام قد بلغ من الاختلاف في أسماء أخرى مبلغاً لا يدركه أشد الواقفين على حقيقة الأسماء القديمة، ولا شبهة عندي أن مبتدئاً في درس التاريخ أو الجغرافية إذا وقع له مثل هذا في كتب مختلفة أو كتاب واحد لظن لأول وهلة أن اختلاف الرسم يدل على اختلاف الذات.

هذه الحال تحفزنا إلى الدعوة لوضع معاجم لأسماء الأعلام، فنحتاج إلى معاجم في أسماء الأعلام القديمة؛ ومعاجم لأسماء الأعلام الحديثة، ومعاجم تضبط فيها أسماء الأعلام العربية، وإن من الأسماء العربية ما تقرأه على أوجه عديدة إذ لم يكن تام الضبط بالشكل الكامل.

لم أتناول في هذه الكلمة إلا بعض حاجة اللغة العربية إلى المراجع، فهل قدرنا كل ذلك؟ وهل اتخذنا العدة للعمل؟ وهل لهذا العمل ظهراء من بين أغنياء هذا البلد والقائمين على أمره؟ نرجو مؤملين أن تتوجه الجهود إلى هذا العمل إن كانت الرغبة فيه موجودة، ونرجو أن يتضافر الكتاب والباحثون على خلق الرغبة فيه إذا لم تكن موجودة.

إسماعيل مظهر