مجلة الرسالة/العدد 210/مصطفى لطفي المنفلوطي

مجلة الرسالة/العدد 210/مصطفى لطفي المنفلوطي

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 07 - 1937


بمناسبة ذكراه الثالثة عشر

كان في مستهل هذا العصر نفر من الأيفاع الخلصاء ينتقلون بين حلق الأزهر كما تنتقل النحل بين قطع الروض، لا يتشممون غير الزهر، ولا يتذوقون إلا الرحيق؛ وكانوا كالفراش رقاق الجسوم خفاف الأجنحة يتهافتون على أضواء النوابغ المعاصرين أينما تشع؛ وكانت الومضات الروحية الأخيرة للبارودي واليازجي ومحمد عبده وقاسم أمين ومصطفى كامل والشنقيطي قد التمعت إلتماعة الموت لتنطفئ كلها متعاقبة في العقد الأول من عقود هذا القرن، فهيأت الأنفس والأذواق إلى أدب جديد كنا نفتقده فلا نجده؛ وكان إخواننا اللبنانيون في مصر وأمريكا قد فتحوا نوافذ الأدب العربي على الأدب الغربي فأرونا فنونا من القول وضروبا من الفن لا نعرفها في أدب العرب؛ ولكنها كانت في الكثير الأغلب سقيمة التراكيب مشوشة القوالب، فأجمناها على نفاستها كما أجمنا أساليب المقامات من الألفاظ المسرودة والجمل الجوف والصناعة السمجة والمعاني الغثة

وحينئذ أشرق أسلوب المنفلوطي على وجه (المؤيد) إشراق البشاشة، وسطع في أندية الأدب سطوع العبير، ورن في أسماع الأدباء رنين النغم، ورأى القراء الأدباء في هذا الفن الجديد ما لم يروا في فقرات الجاحظ وسجعات البديع، وما لا يرون في غثاثة الصحافة وركاكة الترجمة، فأقبلوا عليه إقبال الهيم على المورد الوحيد العذب.

وكان هذا النفر من الأيفاع المتأدبين يجلسون في أصائل أيامهم الغريرة أمام (الرواق العباسي) يتقارضون الأشعار، ويلهون بإغفال الناس، ويترقبون (مؤيد) الخميس ليقرءوا مقال المنفلوطي خماس وسداس وسباع، وطه مرهف أذنيه، ومحمود مسبل عينيه، وفلان مأخوذ بروعة الأسلوب فلا ينبس ولا يطرف. وكلهم يودون لو يعقدون أسبابهم بهذا المنفلوطي الذي اصطفاه الله لرسالة هذا الأدب البكر، وجعله الأمام المفتي تلميذه المختار؛ ولكن المنفلوطي كان في ذلك العهد الذي قرأناه فيه قد جاوز الثلاثين، فهو قليل الإلمام بالأزهر، لا يجلس إلى شيخ ولا يأوي إلى رواق؛ وكان قد هيأ نفسه ليكون كاتباً لا (عالماً) فلم يجعل همه لامتحان، ولم يشغل ذرعه بشهادة.

وبعد سنتين نشر مختار ما دبج من فصوله في المؤيد في كتاب عنونه بالنظرات، وكان قد حكم على الشيخ عبد العزيز شاويش في مقاله: (طبقات الكتاب) حكماً شديداً ورطه فيه على ما أظن صلته بالمؤيد وبالمغفور له سعد باشا، والشيخ شاويش يومئذ محرر اللواء، بعد مصطفى باشا كامل، ولطه به اتصال، فحرضه على أن ينقد (النظرات) فنقدها ذلك النقد الغاضب الصاخب في ثلاثين مقالة ونيفا لم تدع سبيلاً إلى التعارف بيننا وبينه

ثم زاولت التعليم فكنت أستعيد قراءة المنفلوطي مقسما بين أقلام الطلبة. وفي سنة 1920 ترجمت (آلام فرتر) وكان صاحب العبرات يومئذ قد بلغ الغاية في الشهرة والأدب، فرغب في أن يراني؛ وكان لنا صديق مشترك فجمع بيننا في داره؛ ورأيت المنفلوطي لأول مرة فرأيت رجلا مجتمع الأشد، مربوع الخلق، ممتلئ البدن، غليظ الشارب، حسن السمت، لا تلحظ على وجهه المطهم المصقول مخايل الفنان ولا سهوم المفكر؛ ثم تحسبه وهو يحدثك حديثه المقتضب الخافض سريا من عامة السراة في الصعيد لاحظ له من بلاغة اللسان ولا رياضة القلم. ثم داخلته فتكشف لي عن ألمعية أصيلة تستتر عادة بين الحياء والحشمة؛ ووثق الود بيني وبينه توافق المزاج المنقبض والطبع الحي والوجود المنعزل، فدرسته على ضوء ما أعلم من نفسي فلم أجاوز الحق في تصويره وتقديره

كان المنفلوطي قطعة موسيقية في ظاهره وباطنه؛ فهو مؤتلف الخلق، متلائم الذوق، متناسق الفكر، متسق الأسلوب، منسجم الزي، لا تلمح في قوله ولا في فعله شذوذ العبقرية ولا نشوز الفَدامة. كان صحيح الفهم في بطء، سليم الفكر في جهد، دقيق الحس في سكون، هيوب اللسان في تحفظ. وهذه الخلال تظهر صاحبها للناس في مظهر الغبي الجاهل، فهو لذلك كان يتقي المجالس ويتجنب الجدل، ويكره الخطابة؛ ومرجع ذلك فيه إلى احتشام التربية التقليدية في الأسرة، ونظام التعليم الصامت في الأزهر، وفرط الشعور المرهف بكرامة النفس. ولكنك إذا جلست إليه رأسا إلى رأس، تسرح في كلامه، وتباري لسانه وخاطره في النقد الصريح والرأي الناضج والحكم الموفق والتهكم البارع، فلا تشك في أن هذا الذي تحدثه هو المنفلوطي الذي تقرأه. ثم هو إلى ذلك رقيق القلب، عف الضمير، سليم الصدر، صحيح العقيدة، نفاح اليد، موزع العقل والفضل والهوى بين أسرته ووطنيته وإنسانيته.

(للكلام بقية) أحمد حسن الزيات