مجلة الرسالة/العدد 210/من صور الشارع:

مجلة الرسالة/العدد 210/من صور الشارع:

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 07 - 1937



العدالة

للأستاذ أمجد الطرابلسي

اللّيلُ داجٍ وأعاصيرُهُ ... مجنونةٌ تضحتُ منه الرّعودْ

والبرقُ في آفاقِهِ لاهِبٌ ... كشعْلَةِ الغيظِ بصدْرِ الحسودْ

والمطرُ الدَّفّاقُ في لحِنهِ ... مسترسِلٌ يُبَدئَهُ أو يٌعيد

يصافحُ النهرَ فتعلو لهُ ... نَغمةُ نايٍ وأرانينُ عود

والشارعُ الجَهْمُ مصابيحُهُ ... كأعينِ الذؤبانِ فوق النجود

قَفْرٌ منَ الناسِ، فلا سيّدٌ ... يخطرُ مختالاً ولا من مَسود

إلا عرابيدُ هُنا أو هنا ... كأنما أَرْجُلُهُم في القيود

يبغونَ مَنْجى من مُلِثِّ الحيا ... لولا خُمارٌ مُسْتَبِدٌّ عنيد

ونام. . . إلا مرقصاً فاجراً ... يقظانَ لا يعرفُ معنى الهجود

نهارُهُ الليلُ، وسُمارُهُ ... كُثْرٌ إذا أغفى الغبيُّ البليد

تمزّقُ الدجيةَ أنوارُهُ ... كأنها أنوار عُرسٍ وعيد

وتطربُ الشارعَ أنغامُهُ ... رَنّانَةً صَخّابةً من بعيد

دخلته. . . يا حسنَه منظراً! ... راحٌ ورَوْحٌ ولحونٌ وغيد

من كلِّ خَوْدٍ خلِقَتْ فتنةً ... لحظا وقدّاً ونهوداً وجيد

وأهوجٍ في عنفوانِ الصِّبا ... صريع كأسٍ ومُعنى خدود

والناسُ في رقصٍ وفي نَشْوَةٍ ... حولَ دُمى الحسنِ قيامٌ قُعود

ما منهُمُ إِلا فَتى عابثٌ ... ما فيهمُ إلا الضَّحوكُ السّعيد

كأنّهمْ في فَرَحٍ دائمٍ ... مُذ نزلوا الأرضَ وعيشٍ رغيد

يا شاكياً أوصابَ هذي الدُّنا ... لا زلتَ إلفاً للضّنى والجمود

أتدَّعي البؤسَ وتشكو الورى ... ورهنُ كفيكَ المنى والسُّعود

أليس فوقَ الأرضِ غيرُ الأسى ... أما تَرى عيناك غيرَ اللحود

هذي الأغاريدُ وهذا الهوى ... وذلك الحسنُ وتلك القُدود وهذه الأقداحُ فَوّارةً ... والدلُّ والسِّحر وخفقُ النُهود

أليسَ فيها ما يَبُلُّ الصَّدى ... ويفْرِجُ القلبَ المعنى العميد

عدتُ إلى الشارع نَضْرَ المنى ... والكونُ في عَينَّي خلقٌ جديد

تقولُ لي النفسُ وقد أُنْسِيَتْ ... ما أَلِفَتْهُ من شَقاءٍ تليد:

أليسَ حقّاً صفو هذي الدُّنا؟ ... أليسَ لي من خيرِها ما أريد؟

وسرتُ نشوانَ حليفَ الرٍّضى ... يغْمُرُ جَفنيَّ جمالُ الوجود

فرحان. . . لولا منظر لاحَ لي ... أماتَ في قلبي الحبورَ الوليدْ

طفلٌ على وجهِ الثرى نائمٌ ... كأنهُ الجيفةُ فوقَ الصَّعيد

تحسبُهُ في بؤسهِ كوكباً ... تحت نُثاراتٍ من السٌّحْبِ سودْ

تدفعُ عنه البردَ أَسمالهُ ... لو تَدْفَع الأقدارَ كفُّ العبيد!

وجاَءه الشُرْطيُّ مستأسداً ... يحرِمُهُ هذا الرقادَ الشّرودْ

أليسَ في مَنظَرِهِ غُصَّةٌ ... لسادةِ الأرضِ عبيدِ النقود؟

أما على الدولة غَسْلُ الثرى ... من الفُضالاتِ وما لا يفيدْ؟!

أيقظهُ من نومهِ هاتفاً ... بلهجة الآمر ربِّ البنود

(هَيّا إلى دارِكَ. . . . هَياّ أفِقْ! ... في الدارِ لا فوقَ الرَّصيفِ الهجود!)

الدّار! ما الدار؟ وما شأنُها؟ ... ما الأهلُ؟ ما آباؤهُ؟ ما الجدود؟

وهل ينامُ الناسُ في دورهم ... أم مثلهُ فوق الصّفا والجليد؟

وهل له بين الصّروح العُلى ... قصرٌ مشيدٌ، أو مَقرُّ وطيد؟

يا ناسُ. . . دُلوه على مقبرٍ ... وَهْوَ بهِ راضٍ شكورٌ سعيد!!

يا نعمةَ الدنيا ويا عدلها! ... ماذا جنى هذا البريءُ الشهيد؟

أماله مُتسَعٌ ناعمٌ ... وسْطَ المقاصيرِ وفوقَ المهود؟

ضاقَ الثرى عنه وأترابهُ ... بين الرياحين وفوق الوُرود

أليسَ حُلْما صفو هذي الدنا ... وفوقها هذا الشقي الشريد!؟

يا طفلُ عِشْ فوق الثرى جائعاً ... وقضِّ أيامَك كلْباً طريد!

ليَهِنكَ الفقرُ وويلاتهُ ... فالفقرُ نُبْلٌ وسموٌّ وَجود! إن جعتَ فالمجدُ طعامٌ. . وإِن ... ظِمئتَ فالنبلُ شراب برود!

لا تحسدِ الناسَ على حظِّهم ... فالأم الناسِ شقيُّ حسود!

ولا تكن لصا ولا مُجْرِماً ... فإِن عقباكَ العذابَ المبيدْ!

ولا تَدَعْ للغيظِ من مَسْرَب ... إلى حناياكَ ولا للحقود!

وأربع على الذلِّ ولا تأبه ... واسجُدْ لمن يطلبُ منك السجودْ

فغاصبُ الأموالِ حرٌّ بها ... يبخلُ إن شاَء أو يجودْ!

مالكَ والدنيا ولذاتها ... ألم تقدَّرْ لكَ دارُ الخلودْ.!؟

إيهِ خروفَ الذبحِ متْ يائساً ... فالكونُ للعِقبان أو للأسود!

أو فاتخذ بين الورى مخلباً ... كمخلب الليثِ وناباً حديد

ثم أنتزع حقك مستنسراً ... ولا تدعهُ لُعْبةٌ للقُرود!. . .

(دمشق)

أمجد الطرابلسي