مجلة الرسالة/العدد 211/الضعف في اللغة العربية

مجلة الرسالة/العدد 211/الضعف في اللغة العربية

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 07 - 1937


للأستاذ احمد أمين

أبنت في مقالي السابق أعراض الداء ووعدت القارئ أن أعرض في المقال التالي للعلاج

وقد قرأت في الصحف وصفا لعلاج قيل إن مكتب التفتيش في وزارة المعارف اقتراحه؛ وخلاصته زيادة الحصص للغة العربية، وتوسيع مكتبة التلميذ. وظن أن هذا علاج ليس كافياً ولا شافياً، وأنه لا يلاقي المرض في الصميم، وأنه لا يقدم في الموضوع ولا يؤخر، فلو ضاعفنا الحصص والمعلم على حاله من النقص، والمنهج كما هو من الضعف، لم نصل إلى نتيجة ولم تتحسن حالة المرض

إنما العلاج الحقيقي في إصلاح المعلم وما إليه من منهج وامتحان وتفتيش، فالمعلم الآن تخرجه ثلاث معاهد: دار العلوم والأزهر وقسم اللغة العربية في كلية الآداب. وكلها معيبة بعيوب ابنتها في مقالي السابق، فلابد للإصلاح من توحيد تلك الجهود الموزعة والاقتصار على معهد واحد يسلح بكل أنواع الأسلحة الملائمة

وعندي أن اصلح معهد لذلك هو (دار العلوم)، فتاريخها القديم في التعليم، وسبقها الأزهر في هذا الباب، يجعلان المصلحة في بقائها؛ وكذلك صبغتها الدينية، وما بين اللغة العربية والدين من صلة وثيقة يجعلها اصلح من قسم اللغة في كلية الآداب، ولكنها في شكلها الحاضر غير صالحة، بل لابد لصلاحيتها من أمور:

(1) فصلها عن وزارة المعارف وتبعيتها للجامعة أسوة لها بكل المدارس العليا التي كانت تابعة للوزارة كالمعلمين والهندسة والزراعة والتجارة. فالجامعة أوسع حرية واكثر استقلالا، والحرية والاستقلال اصلح للنحو العلمي والرقي العقلي

(2) إعادة النظر فيها من جديد: في نظامها وبرامجها، فقد بليت واكل عليها الدهر وشرب، ولم تعد أساليبها التي كانت صالحة منذ عشرين عاماً صالحة الآن؛ على أن يشرف على وضع هذه النظم جماعة من خيرة رجال مصر ثقافة وعقلا وسعة تفكير وعلماً بمناهج التربية

(3) أن تكون الدراسة فيها مقصورة على المواد العلمية، وبعد الانتهاء يدرس المتخرج سنة أو سنتين أساليب التربية في معهد التربية.

(4) أن يعاد إنشاء تجهيزية دار العلوم لتغذي دار العلوم، على أن تكون مدرسة ثانوية تابعة للجامعة أيضا، ويعاد تنظيمها بخير مما كانت، فيتوسع فيها في الدراسة الدينية من قرآن وتفسير وحديث وما إلى ذلك، وتدرس فيها لغة أجنبية حتى يخرج الطالب منها مساوياً للطالب في المدارس الثانوية الأخرى ومتفوقاً في اللغة العربية والدين الإسلامي، وخريجو هذه المدرسة يغذون دار العلوم وقسم الفلسفة في كلية الآداب ونحو ذلك، ويكون في دار العلوم دروس في اللغة الأجنبية أيضاً تتمم ما درسه الطلبة في المدرسة الثانوية

(5) تكون الدراسة في دار العلوم دراسة قاسية شديدة دقيقة، في الانتقال وفي الامتحان، فلا يسمح لضعيف ولا متوسط الكفاية أن يخرج من هذه المدرسة لأنها ستكون - على ما اعتقد - أفعل مدرسة في رقي الأمة وتكوين عقليتها والنهوض بحياتها.

هذا هو في نظري أهم علاج لضعف اللغة العربية، فالحصة من هذا المعلم الكفء خير من مائة حصة من معلم غير كفء؛ وقديماً قالوا: (ضربة المعلم بألف)

ويلي هذا في الإصلاح إصلاح برامج التعليم؛ فالحق - كما قلت - أنها برامج متأخرة توضع على عجل وتنفذ على عجل، والفرق بين برنامج قديم وبرنامج حديث فرق ضعيف لا يمس الأصول. واذكر أن وزارة المعارف كانت كلفت ثلاثة كنت أحدهم في وضع برامج اللغة العربية سنة 1928، فاجتهدنا في النحو أن ندمج أبواباً بعضها في بعض ونحذف أبواباً لا يترتب عليها عمل في كتابة صحيحة أو نطق صحيح، وحذفنا كل منهج البلاغة القديم ووضعنا مكانه منهجاً جديداً كل الجدة، ولم نضع منهجاً لأدب اللغة إلا في السنتين الأخيرتين من المدارس الثانوية، أما السنوات الثلاث الأولى فقصرناها على قراءة نصوص في الأدب نثراً ونظما وتذوقها ومعرفة موضع الجودة فيها وتكليف الطلبة حفظ الكثير منها واحتذاءها، ولكن - مع الأسف - أهمل هذا المنهج بل وضاع أيضاً.

فمناهج اللغة العربية وخاصة في المدارس الثانوية تحتاج إلى ثورة تقلبها رأساً على عقب تبسط فيها المصطلحات وتحذف منها الأبواب القيمة ويقتصر فيها على ما ينتج استقامة اللسان والقلم

ولو ألف في وزارة المعارف هيئة فنية (مراقبة) للبرامج ووضعها وطريقة تنفذيها لكانت افضل من كل المراقبات الأخرى لأن هذا هو العمل الأساسي للوزارة وما عداه تبع له.

وليس عمل برنامج اللغة العربية في المدارس الابتدائية والثانوية من الأمور السهلة، فهو يحتاج إلى دراسة المناهج السابقة من أول وضعها، ويحتاج إلى دراسة المناهج للغات الحية الأخرى في الأمم المختلفة للاستفادة منها والاتصال بتلاميذ المدارس في مراحلهم المختلفة لمعرفة مقدار عقليتهم وهكذا.

ثم الامتحان له كبير أثر في ضعف اللغة، لان التلاميذ عندنا اعتادوا أن يقرءوا للامتحان، ويتعلموا للامتحان، وبقدر صعوبة الامتحان والتشديد فيه تكون عناية الطلبة.

والامتحان في اللغة العربية معيب من وجهين: من وجهة ورقة الامتحان فأنها في اغلب شأنها نظرية لا عملية وتعتمد على الذاكرة والحفظ أكثر مما تعتمد على التفكير والعمل، واللغة أداة للتعبير، والغاية منها تقويم القلم واللسان فيجب أن يرمي الامتحان إلى هذه الغاية؛ أما أن تكون الأسئلة فيما هو التشبيه الضمني، وما هي الاستعارة المكنية، واثر الثقافة اليونانية في الثقافة العربية، فأسئلة لا يصح أن تكون في المرحلة الأولى ولا الثانية من التعليم، إنما تكون بعد أن يستكمل الطالب الجانب العملي

وكذلك من جهة التصحيح، فقد استولى على مصححي اللغة العربية نوع من العطف أشبه ما يكون بالعطف على المجرم فلا يعاقب؛ وبعطف إلام الجاهلة على أبنها فلا تؤدبه، وأخشى أن يكون هذا التقليد في تصحيح اللغة العربية موروثاً عن رجلين أحدهما المستر دنلوب وكان ينصح بالتساهل في اللغة العربية لأنه لم يكن يهمه أمر قوتها، وثانيهما المرحوم الشيخ حمزة فتح الله فقد طبع على الرحمة التي لا حد لها، وشاع عنه أن لكل مسالة وجهين، ثم انحدر هذا التقليد من السلف إلى الخلف

والمصححون يبنون تساهلهم على فكرتين باطلتين: أولاهما أن اللغة العربية هي اللغة الأصلية فلا يصح أن يرسب الطلبة فيها، وهذا خطأ، لان لغتنا الأصلية هي اللغة العامية لا اللغة العربية الفصحى وشتان ما بينهما، ولو كانت هي لغتنا الأصلية ما شكونا هذا الضعف؛ وثانيتهما غلبة الرحمة عليهم وقد أبنا ضررها.

وليس أدل على فساد الامتحان من حسن النتيجة المئوية مع ضعف الطلبة ضعفاً نضج منه جميعاً بالشكوى. أمن المعقول أن نلمس هذا الضعف ثم تكون نسبة النجاح فوق الثمانين في المائة؟ كل هذا جعل التلاميذ يهزؤون باللغة العربية ولا يعيرونها التفاتاً، ويحترمون اللغة الأجنبية والرياضة لان الاحترام عندهم تابع لنسبة النجاح، فكلما كانت النسبة قليلة كانت العناية بالعلم أقوى؛ وليس ينسى أحد منا العبارة التي تدور على ألسنة الطلبة وهي أنهم إذا سمعوا طالباً يجتهد في استذكار اللغة العربية قالوا: له (وهل يسقط أحد في العربي؟)

ثم لهم طريقة في التصحيح ليست صحيحة، فهم لا يقومون الورقة ككل، ولكن يجزئونها جزيئات صغيرة ثم يضعون درجة على كل جزيء فيحدث أن الطالب يأتي بأخطاء شنيعة تدل على الجهل التام ومع ذلك ينجح، حتى يخيل إليّ أن التلميذ إذا أعرب (في البيت) في حرف جر والبيت مفعول به منصوب لأعطوه 50 % على صحة إعرابه (في) وخطئه في إعرابه (البيت)

ومالي اذهب بعيداً وقد حدث في هذا العام أن كانت فتاة قريبة لي تمتحن في البكالوريا، فجاءت يوم امتحان اللغة العربية وقالت: لقد أعربت (كفى حزناً) كفى فعل أمر وحزناً مفعول به، أليس كذلك؟ فقلت: نعم ليس كذلك، وقالت: لقد قلت إن من خطباء العصر الأموي أبا بكر الصديق وعلي بن أبي طالب، أليس كذلك؟ فقلت أيضاً: نعم ليس كذلك، وأطلعتني على بقية الأجوبة فأيقنت برسوبها؛ ولو كان لي الأمر ما أنجحتها مهما أجادت بعد هاتين الغلطتين الفظيعتين، ولكني دهشت اشد الدهش لنجاحها!

أنا كفيل بأن سنة واحدة توضع فيها ورقة الامتحان عملية اكثر منها نظرية، ويشدد فيها في التصحيح شدة حازمة تساوي الشدة في تصحيح الرياضة واللغة الأجنبية، كافية في أن يوجه الطلبة عنايتهم الكبرى للغة العربية فيزول الضعف وتحسن النتيجة

ولا ننسى أن التفتيش بعد ذلك له أثره، فلو حدد الغرض منه لبانت قوته الحالية أو ضعفه، فليس المفتش جاسوساً يضبط الجريمة، ولا هو عدّاد يعد موضوعات الإنشاء والتمرينات، ولا غرضه الأول أن يقول إن كلمة كذا ليست في القاموس، كلا ولا غرضه الأول أن يكتب عن المدرس أنه جيد أو ممتاز أو ضعيف، إنما مهمته الأولى حسن توجيه المعلمين إلى تحقيق الغرض من دراسة اللغة العربية والوصول بالطلبة والمدرسين والكتب والمناهج إلى أرقى حد مستطاع، وبمقدار تحقيق هذا الغرض أو عدم تحقيقه يكون الحكم على قيمة التفتيش إذا اصلح المعلم والمنهج والامتحان والتفتيش صلحت اللغة العربية في المدارس. وهذا هو العلاج الوحيد الصحيح، أما ماعداه فعلاج غير حاسم ولا ناجع

أحمد أمين