مجلة الرسالة/العدد 213/أسبوع التاج

مجلة الرسالة/العدد 213/أسبوع التاج

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 08 - 1937


كانت مصر كلها طوال الأسبوع الماضي، من صباح أحده إلى مساء سبته، في سكرة من الطرب النشوان، وفورة من الحماسة المضطرمة. والطرب والحماسة كلمتان مسكينتان لا تقعان من حقيقة الأمر في كثير ولا قليل. وكيف تدرك من هاتين الكلمتين وأشباههما تلك الحالة العجيبة التي قامت بسكان هذا البلد الوفي أبنائه ونزلائه لمقدم الفاروق، وتتويج الفاروق، ومواهب الفاروق، فجعلت كلامهم وأنغامهم وأحلامهم هتافاً لمجده لا يفتر، ودعاء لعهده لا ينقطع؟!

انفعلت قلوب الناس بما أجنته للمليك الشاب من الإعجاب والحب والأمل، فعبرت عن ضوء رجائها، وحرارة ولائها، بهذه الملايين من المصابيح الكهربائية، رصعت بها وجوه العمائر والمتاجر، وجعلت منها عقوداً منظمة على أطوارة الطرق، وأبراجاً متوجة في بُهَر الميادين، وأقواس نصر في مداخل الشوارع؛ وافتن فيها الصناع فرسموا بها أشكالا تعبر عن شتى العواطف، وخطوطاً تسفر عن خالص الأدعية؛ ثم راحوا يرقصون ويهزجون في إشراق باهر تشعه القلوب المتهللة، وتعكسه المدينة المتألقة. ولكن ماذا يصنع الكاتب وقد انبثق في حسه هذا النور، وانفتح في ذهنه هذا العالم، إذا أراد أن يمثله للخاطر البعيد، ويسجله في صحيفة الأبد؟ هل يملك إلا ريشة من المعدن لا تلين، وألفاظاً من اللغة لا تدل؟ وهل اللغة مهما اتسعت موادها إلا أبعاض من صوت النفوس، وأصداء لهتاف القلوب؟ ماذا يقول الكاتب أو الشاعر في ثلاثة ملايين من الناس تجردوا من هموم الحياة وأنانية الذات، واحتشدوا في مسالك القاهرة يسبحون في أمواج هذا النور المعبر، وقد انطوى كل منهم على عالم زاخر بالأماني والأخيلة والأحاسيس، ولا حديث لهم ولا نجوى إلا ملكهم الأعز، وطالعه الأسعد، وعهده الأغر، وخلقه الأكمل؛ هذا يذكر في فخر حادثاً من حوادث ديمقراطيته، وذاك يروي في إعجاب نادرة من نوادر عبقريته، وذلك يقص في زهو عملا من أعمال نبله؛ والألسنة كلها في كل مكان أشبه بلواقط الراديو ذوات المصدر الواحد تردد الحديث نفسه بصوته وطريقته؟

قد يحتشد الناس في أيام الزينة ومواكب النصر بدافع الإيحاء أو الإغراء أو الفضول فيقفون عند الظواهر والأشكال لا يحسون الروح ولا يلمسون الجوهر ولا يحفلون الغرض، ولكن مواكب التاج كانت أنساً خالصاً لكل فرد، وعرساً خاصاً بكل أسرة؛ ساهم فيه ك بماله (نقوطاً)، وبقلبه إخلاصاً، وبسروره غبطة. وهذه هي العقدة النفسية التي تنحل أمامها قوى الكاتب قبل أن يجد لها وصفاً أو يحدد لها علة.

رأيت جلالة الفاروق في حفلات التتويج عن كثب، وفي ذهني صورة طبيعية للغلام الشابل الذي يهدف للثامنة عشرة من سنيه، فإذا رجل وقور الطلعة، رزين الحركة، ظاهر الأبهة، باهر الجلالة؛ نظرته نظرة روحه لا نظرة عينه، وعقله عقل جسمه لا عقل سنه: فأدركت حينئذ معنى قول الشاعر الفرنسي: (إن النفوس التي تولد على درج العرش لا تنتظر عبقريتها كرور السنين) وتعليل ذلك أن الطفل الملكي متى كان سليم الفطرة تستجيب غرائزه إلى وحي العمل الذي يُهيأ له؛ وعلمه يأنه يهيأ لوراثة الملك يحمله على اتخاذ سَمْته وسِمَتِه؛ ثم ينشأ في جو يساعده ما فيه من النظام والاحترام ومظاهر القدرة وتقاليد الأسرة على سمو المدارك ونضوج الرجولة؛ ولا ينفك يسمع في مجاري دمه النبيل أصوات أجداده الأمجاد تأمر وتنهي، وتشير وتوحي، وترسم وتدل؛ فإذا رفع إلى العرش واستوى عليه لم يجد في نفسه شيئاً جديداً ينكره، ولا في جوه مظهراً غريباً يستريبه؛ فيسير أمره على ما رسمته النشأة، وهيأته الطبيعة، لا تكلف ولا تعسف ولا تظاهر ولا تذبذب.

لذلك انتقل الفاروق من حال التلميذ إلى حال الملك في سهولة أدهشت الناس في مصر وفي غير مصر.

وليس لهذا الدهش موضع، فإن الرجل الذي يختل توازنه ويضطرب أمره، هو الذي يتحول بغتة من العجز إلى القدرة، ومن الخضوع إلى السلطة، ومن الصعلكة إلى المُلك، فيستر صغره بالكبر، وضعفه بالاستبداد، وفشله بالخديعة؛ ثم لا يطمئن إلى حاله، ولا يستقر في محله، فيتعلق بالظنون، ويستمسك بالدسائس، ويعتصم بالترفع؛ ولكن الفاروق العظيم ربيب المُلك وسليل محمد علي وإبراهيم وإسماعيل وفؤاد يرى نفسه طبيعياً في موضعه؛ وموضعه فوق الحكم وفوق الأحزاب وفوق المطامع، فلا يمكن أن يكون إلا كما تراه. ومخايل الفاروق ودلائل الحال تؤكد أنه سيكون في عهده السعيد المجيد موئل الدستور، وملاذ الحرية، وحارس الدين، وراعي الشعب، ومرشد الحكومة في الحيرة، ومرجع الأحزاب في الخلاف؛ أما ثقافة العقل والجسم والخلق فتلك رسالته التي وكل الله إليه أداءها بالتشجيع والتشريع والقدوة.

أحمد حسن الزيات