مجلة الرسالة/العدد 213/بمناسبة إشراق دولة الفاروق الجديدة

مجلة الرسالة/العدد 213/بمناسبة إشراق دولة الفاروق الجديدة

مجلة الرسالة - العدد 213
بمناسبة إشراق دولة الفاروق الجديدة
ملاحظات: بتاريخ: 02 - 08 - 1937



لمحات من شمس الأمس الغاربة

السلطان الغوري ومفاوضاته الدولية

للأستاذ محمد فريد أبو حديد

تستقبل مصر اليوم عهدها الجديد المشرق بتولية مليكها المحبوب الذي يتربع فوق عرش القلوب ويحكم شعبه عن ولاء ثابت له في حنايا الصدور. وعهد الفاروق وإن كان جديداً ناضراً يستأنف عهود المجد السابقة ويسترجع آيات العلا الغاربة فقد كانت مصر أبدا واسطة عقد الدول وجوهرة تاج المدنية.

وإن لعهدنا الحاضر معنى خاصا في تاريخ البلاد، ونحن إذ نحتفل في هذين اليومين بتتويج مليكنا المحبوب فإنا نشهد يوما من أكبر أيام مصر وأعظمها دلالة وأحفلها ببواعث الفخر والاعتبار والسرور، وذلك لأن عهد الفاروق الجديد أول عهد يخفق فيه على مصر علم الاستقلال بعد فترة سلب الدهر منها علمها ونزع عنها تاجها. ونود هنا أن نتخطى القرون الماضية التي شهدت تلك المأساة فنطفر إلى آخر عهد كان فيها ذلك العلم عالياً مكرماً عزيزاً، لنذكر في نشوة السرور الحاضرة بعض ما كان لبلادنا من العز الغابر لنحس بالنشوتين معا نشوة الأمل الطالع ونشوة ذكرى المجد التالد.

كان قانصوه الغوري آخر السلاطين العظماء الذين حكموا مصر منذ انقرضت دولة الأيوبيين في مصر فتعاقبوا على حكمها نحو ثلاثة قرون كانت مصر فيها أقوى أمم الشرق والغرب وتبسط سلطانها على الشام والنوبة ويمتد نفوذها في البحر حتى قبرص وتدين لها بلاد الشرق قاطبة بالزعامة وتتقرب إليها دول الغرب قاطبة لابتغاء ما عندها من كنوز التجارة ولتخطب مودتها في السلم ولتتقي عدواتها في الحرب، وكانت مع كل ذلك قلب المدنية التي تكدست فيها آثار العلم والفن والصناعة التي بلغتها الإنسانية إلى ذلك الوقت

تولى قانصوه في مارس سنة 1501 وهو جركسي الأصل. نشأ في بيت الملك الأشرف قايتباي العظيم ومازال حتى صار أميراً من أمراء الجيش ووكلت إليه قيادة فرق الحدود المصرية في طرسوس وكليكية وملطية. فلما مات قايتباي اختاره الملك الناصر ابنه أمراء حلب وصار من كبار الأمراء الذين كان يقود كل منهم ألف فارس في الحرب، وكانوا لذلك يسمون (مقدمي الألوف)؛ وبلغ بعد ذلك إلى أكبر مراتب الدولة فأصبح دوادارا ثم وزيراً. وحدثت عقب ذلك أحداث جعلت الناس يتطلعون إليه ليجعلوه سلطاناً. ولم يرض بذلك في أول الأمر إذ كان يؤثر أن يكون أحد كبار الأمراء حتى لا يتعرض للمسئولية الجسيمة التي يتطلبها تبوء العرش. ولكن كبار الأمراء اضطروه إلى قبول التاج اضطراراً حتى قيل إنه بكى عندما عجز عن مقاومتهم ونزل مرتين عن الجواد الذي أركبوه إياه ليسروا به إلى القلعة ليحتفلوا بتوليته السلطنة بها

ولي الغوري عرش مصر ولقب بالملك الأشرف أبي النصر. وسار في القاهرة عقب ذلك في موكب حافل يحف به الأمراء وجنود الجيش المظفر، وكان يلبس الخلعة الرسمية التي كانت عادة السلاطين أن يلبسوها وهي الخلعة التي أهداها الخليفة العباسي إلى السلطان العظيم بيبارس من قبل منذ نيف وقرنين عندما انتقلت الخلافة العباسية إلى القاهرة عقب تحطيم التتار بغداد وقضائهم على الحكم العباسي بها.

سار السلطان قانصوه في ذلك الموكب يلبس تلك الخلعة وهي عبارة عن جبة سوداء وعمامة سوداء وطوق من الذهب حول العنق وسيف بدوي متدل من حمائله، وحملت على رأسه المظلة الرسمية التي يعلوها رسم طير من الفضة المذهبة. وكان عمره عند ذلك نحو الستين وله لحية ضرب فيها البياض، وهو بدين أسمر اللون واسع العينين.

وكانت مصر في أيامه مركز حركة سياسية متصلة لا تنقطع لأن أحوال العالم في وقته كانت تؤذن بشر انقلاب عرفه التاريخ الحديث

كانت أسبانيا قد تمكنت من طرد العرب من غرناطة، ولم تكد مصر تفيق من تلك الهزة حتى سمعت بأن دولة أخرى مجاورة وهي البرتغال قد عرفت طريقاً إلى الشرق تسير فيه السفن من بلادها إلى الهند مباشرة عن طريق البحر حول رأس الرجاء، وكانت بلاد العالم كله تتطلع إلى مصر لتنظر ما هي فاعلة في هذين الحادثين وتترقب سير هؤلاء البحارة الذين هاجموا بحار الشرق ليروا أيستطيعون أن ينفذوا الحلم الذي تصوروه في محاولة القضاء على تجارة مصر. وكانت مدن أوربا المطلة على البحر الأبيض المتوسط كالبندقية تقف عند ذلك مشدوهة تنظر تارة إلى مصر وتارة إلى شبه جزيرة الأندلس، وهي تحاول أن تحتفظ بمودة الأولى لتحتفظ بتجارتها معها وأن تحتفظ بمودة الثانية خشية على سمعتها بصفتها إحدى البلاد المسيحية الخاضعة للبابا والتي ما كان ينبغي لها أن تعادي المسيحيين في سبيل نصرة المسلمين.

وكانت حدود مصر الشمالية تضطرب كذلك بين قوتين ناشئتين إحداهما قوة الشاه إسماعيل الصفوي في بلاد العراق وإيران، والأخرى قوة النزلاء العثمانيين في بلاد الأناضول وأوربا، فقد كان محمد الفاتح أتم فتح القسطنطينية وجعل عاصمة دولته فيها محل الدولة البيزنطية العظمى. وكان الشاه إسماعيل الصفوي قد جمع أكثر العراق وإيران في دولة عظيمة تهدد الشرق كله بأن تكتسح بلاده وتبسط عليها مذهبها الديني الشيعي.

وكانت دولة الصفوي أشد دول الشرق خطرا على حدود مصر لأنها كانت تتبع طريق الدعاية والخفاء في الإغارة على البلاد التي تليها. وكانت لا تتورع عن أن تحالف المسيحيين لتساعدهم على القضاء على عظمة الدولة الإسلامية السنية الكبرى وهي مصر

فكانت القاهرة بطبيعة هذه الظروف مركزا لتيارات مختلفة بعضها مقبل من الشرق وبعضها من الغرب، لكل منها وجهة ولكل منها لون. وسننقل هنا بعض مناظر المفاوضات السياسية التي شهدتها أبهاء الحكم عند ذلك

كانت أسبانيا تدين لملك كبير وملكة عظيمة جمعا تاجي قشتالة وأرغونة في سبيل توحيد كلمة مسيحي الأندلس، وتمكنا بذلك من القضاء على آخر أثر من آثار الحكم الإسلامي الذي كان لا يزال يتحصن في غرناطة. وبلغت شكوى مسلمي الأندلس مسامع العالم الإسلامي ولاسيما دولة مصر ذات المجد التالد. وخشي عاهلا الأندلس أن يفتح ذلك عليهما باب الجهاد الصليبي القديم؛ وشاعت إشاعات سوداء عن عزم سلطان مصر أن ينتقم من رعاياه المسيحيين للثأر لمن وقعت عليهم مظالم أسبانيا من مسلمي المغرب.

فعوّل ملكا أسبانيا على أن يرسلا من قبلهما إلى مصر رسولا عظيم المقام في الدولة وهو (بطرس مارتير دانجير) وسار من غرناطة مارّا بفرنسا وإيطاليا وأبحر من البندقية في سبتمبر سنة 1501 وبلغ الإسكندرية في ديسمبر من ذلك العام

تردد السلطان الغوري في مقابلة ذلك السفير ولكنه سمح له بعد لأي بأن يمثل بين يديه، وكان ترجمان السلطان (تنجري بردى) من أصل أسباني فساعد على تخفيف ما كان عند السلطان العظيم من الموجدة على سفير الملكين اللذين اشتهرا باضطهاد المسلمين وإذلالهم وإيقاع أشد صنوف الأذى بهم.

وقابل الرسول السلطان مرارا مقابلة علنية ثم سمح له بلقاء سري تم فيه إقناع السلطان بأن ما بلغه عن مظالم الحكم الأسباني إنما هو من أكاذيب يهود الأندلس، فإن السفير أقنع السلطان العظيم أن وقعة ملكي الأندلسي إنما كانت مسددة إلى اليهود، وأن هؤلاء قد هاجروا من تلك البلاد وجعلوا يشنون الغارة عليها ويرمون مليكها بالظلم والعسف كذبا لإيغار صدور المسلمين وملوكهم على دولة أسبانيا الناشئة. فلم يعد ذلك السفير من مصر إلا بعد أن كتبت له معاهدة صداقة وسلام حملها معه وغادر القاهرة فائزا في فبراير سنة 1502

وكانت دولة البرتقال في هذه السنوات قد أفلحت في تثبيت أقدامها على شواطئ آسيا وجعلت تناصب مصر العداء في بحار الهند فأثر هذا في تجارتها حتى خلت أسواق بيروت والإسكندرية من الأفاويه التي كانت دول أوربا تتهافت على شرائها من تجار البندقية الذين يشترونها من أسواق مصر والشام. فثارت مصر لما أصابها من خسارة في تجارتها وفي سفن أسطولها، وأخذت تستعد لمقابلة عدوان البرتقال بمثله وجهز السلطان في الوقت نفسه بعثات سياسية أرسلها للمفاوضة مع البابا والبندقية ومع أسبانيا والبرتقال، وكانت رسالاته تنطوي على رجاء المليك المتحضر للدول الأخرى أن ترعى حقوقه وأن تقلع عن معاداته حفظا للسلام كما كانت تنطوي على تهديد المسيحية بالإيقاع بما للمسيحيين في الشرق كله من مصالح ورعايا ومعاهد. وكان أول رسول له في هذه المفاوضات هو رئيس دير جبل صهيون واسمه (فرا ماورو دي سان برناردينو) ثم أرسل بعد ذلك ترجمان الخاص (تنجري بردى). ولكن هذه الرسائل لم تفض إلى نتيجة حاسمة، واضطر السلطان إلى أن يعلن أنه سيعمد إلى القوة والبطش للانتقام. وما كاد يعلن هذا العزم حتى بادرت دول أوربا فأرسلت إليه سفراءها للاعتذار له وإظهار صداقتها ومودتها وأنها غير راضية عن الدول التي تسعى للإضرار بمصر أو تعمل على الكيد للمسلمين، وكانت البندقية أولى الدول التي سارعت إلى إظهار المودة والصداقة لشدة الترابط بينها وبين مصر. غير أن الظروف أساءت إلى هذه الصداقة الوراثية بين البندقية ومصر وكادت تصل بها القطيعة إلى القطيعة والعداوة، إذ اتفق أن ضبط في الشام في شهر مايو سنة 1511. رجلان أحدهما من جزيرة قبرص واسمه (نيقولان سوربيه) وكانا آتيين من الشرق من بلاد الشاه إسماعيل الصفوي يحملان خطابين موجهين من الشاه إلى حكومة البندقية معنونين إلى (توماسو كونتاريني) قنصل البندقية في دمشق و (بطرس زين) قنصلها بالإسكندرية. وكان السلطان العظيم قانصوه يرى في الشاه الصفوي عدوا خطيرا. فلما رأى هذه المراسلة بينه وبين البندقية زاد حنقه على تلك الصديقة ورأى أنها تخادعه وتتظاهر بمودته في حين أنها تراسل عدوه الأكبر، وأوشك الأمر أن يفضي إلى عداوة صريحة بينهما

فأمر السلطان بالقبض على القنصلين، وقادهما إلى القاهرة وسجنهما بها وعزم على أن يعامل رعايا البندقية معاملة رعايا الدول المعادية فيقبض عليهم ويصادر أملاكهم وأموالهم ويقطع علاقته بدولتهم إيذاناً بالعداوة الصريحة.

وكانت فرنسا والبندقية تتنافسان على النفوذ في الشرق، فلما رأت فرنسا هذا التوتر في علاقة مصر بالبندقية سارعت إلى إرسال سفير إلى السلطان ليوثق معه روابط المودة وكان هذا السفير اسمه (اندريه لرو)

ولما رأت البندقية أن فرنسا تسعى هذا السعي في تلك الأزمة لم ترض أن تترك الميدان لمنافستها خشية ما يعود عليها من الضرر لو تغيرت سياسة مصر نحوها، فبادرت بإرسال سفير كبير لمقاومة مسعى فرنسا وكان سفيرها هو (دومنيكو تريفيسان)

وهكذا شهدت القاهرة في سنة 1511 معركة سياسية دولية لم يكن فيها سفراء فرنسا والبندقية هم المتنافسين على صداقة سلطان مصر فحسب، بل كان إلى جانبهم سفراء آخرون بعضهم مسيحيون كسفراء (جورجيا) البعيدة، وبعضهم مسلمون كسفراء النزلاء العثمانيين وسفراء شاه إيران.

ولعله من المناسب هنا أن نصف استقبال سلطان مصر لسفير البندقية مستمدين تفاصيل ذلك من كاتب صحب ذلك السفير.

قال شاهد العيان يصف رحلة السفير ومن معه إلى مقرهما بالقاهرة ويصف لقاء السلطان لهم:

نزلنا ببولاق ثم سرنا إلى المنزل المعد لنا في بقعة من أحسن بقاع القاهرة. وكان المنزل آية في الفخامة والرواء لا يستطاع أن يوجد مثله في بلد من البلدان. قيل إن نفقات بنائه بلغت مائة ألف دوقية. وكانت جدرانه مغطاة بالنقوش موشاة بالذهب وكانت أرضه مغطاة بالفسيفساء وأبوابه مطعمة بالأبنوس والعاج.

(وفي الغد أتت إلى السفير هدية من السلطان (وهنا وصف ما تحتوي عليه الصور) وفي يوم الاثنين ذهبنا إلى المقابلة الأولى لصاحب العرش وكان نظام المقابلة على النحو الآتي:

(جاء المهمندرا والترجمان إلى السفير في بيته ليصاحباه، وركب جواده ومن حوله معيته بعضهم يركب خيلا وبعضهم يركب بغالا. وسرنا في المدينة حتى بلغنا القلعة فنزل السفير ومن معه وصعدوا سلماً ثم دخلوا من باب يحرسه جماعة كبيرة من الجنود

ثم دخلوا من أربعة أبواب واحداً بعد الآخر. وكان عند آخر باب منها فرقة موسيقى تصدح بالأنغام. ثم مررنا بعد ذلك بثلاثة أبواب أخرى حتى دخلنا إلى فناء صغير تحيط به حوائط قد علقت عليها أنواع السلاح والدروع وإلى جوانبها نحو خمسين رجلا يعملون في صناعة السلاح المختلفة، وقد علمنا أن هؤلاء العمال إنما أعدوا قصداً لا طوعاً لصناعة السلاح والاستعداد للحرب فإنا ما كدنا نمر حتى ذهبوا جميعاً وتفرقوا.

(وأخيراً رأينا السلطان في فناء القلعة الفسيح جالساً على مسطبة علوها نحو خطوتين فوق الأرض تغطيها قطيفة خضراء وعلى رأسه قلنسوة كبيرة يعلوها قرنان عاليان يبلغ كل منهما نصف ذراع. وكان يلبس قفطاناً من القطن الأبيض فوقه جبة من قماش لونه أخضر قاتم. وكان يجلس مربعاً ساقيه كما يجلس الخياطون عندنا وعن يمينه سيفه ودرعه وكانا لا يفارقانه أبداً. وكان عن يمينه على مسافة قليلة نحو عشرين من الأمراء الملكيين الذين يقود كل منهم ألفاً في الحرب وقوفا، وكلهم يلبسون الأبيض وعلى رؤوسهم قلانس مثل قلنسوته، وكان سوى هؤلاء عدد كبير من المساعدين كلهم وقوف يملأون فضاء الفناء.

(وتقدم السفير حتى إذا ما وقعت عينه على السلطان رفع قبعته وانحنى إلى الأرض فلمسها بيديه ثم رفعهما إلى شفتيه وجبهته دلالة على مقدار احترامه للسلطان العظيم، ثم سار مع من معه نحو خمسة عشرة خطوة وحيا مرة أخرى، وكان عند ذلك قد صار على نحو عشرين خطوة من السلطان. وكانت هذه المسافة تغطيها الأبسطة ولم يكن من المباح السير فوقها، فحيا السفير تحيته الأخيرة وأخرج من صدره خطاب (الدوج) مكتوباً على ورق بنفسجي وقد ختم بخاتم من الذهب ولف برباط تدلى منه دلايات من الذهب، وقبل السفير الخطاب ثم وضعه على رأسه وسلمه للمهنمندار فناوله للسلطان ففتحه ثم أرجعه فقرئ له، فلما انتهى من سماع ما فيه سأل السفير عن حال الدوج وصحته، ولما انتهى السفير من الجواب حياه وتراجع إلى الوراء خارجاً هو ومن معه.

وقد تعددت المقابلات بعد هذه المقابلة الأولى، كانت إحداها في بهو فسيح يقول فيه شاهد العيان: (وهذا البهو لا يمكن أن يقاس به بهو التشريفات الكبير في قصر الرياسة العظيمة في البندقية وذلك لعظمته وجماله ونفاسة نقوشه وأثاثه)

وكانت المقابلة الثالثة في ساحة الرميلة المجاورة للقلعة في حديقة خاصة بالسلطان في ذلك الميدان الفسيح.

وكانت المقابلة الرابعة في هذا الميدان نفسه ولكن في غير الحديقة وكانت السلطان هذه المرة جالساً على منصة إلى جانب سور القلعة وكان يلبس ملابس كالتي كانت عليه في المقابلة الأولى، وكذلك كانت هيئة الاستقبال كالهيئة السابقة. وتقدم السفير حتى صار على أربع خطوات من السلطان ثم وقف هو ومن معه وجعل يتكلم مع السلطان بصوت عال بواسطة ترجمانه، وجاء في أثناء الاجتماع السيد (بطرس زين) قنصل البندقية في دمشق وهو المتهم بخيانة السلطان وكان يلبس ثوباً من قطيفة قرمزية.

واستمرت المقابلة ثلاث ساعات كان السفير في أثنائها واقفاً يحمل قبعته في يديه وكان موضوع الحديث علاقة البندقية بدولة الصفوي، وكان السلطان يتكلم غاضباً في لهجة قاسية ولهذا كان السفير يبذل الجهد لكي يهدئ من غضبه، وكان كل همه أن يظهر براءة حكومة البندقية من كل سعي ضد مصر فنظر السلطان إلى السفير وصاح به قائلا: -

(أنا أعلم أن حكومة البندقية بريئة من السعي ضدي ولكن هذا الكلب (مشير إلى قنصل البندقية بدمشق) يعمل على خيانتي وقطع علاقتي بدولتك) وكان السلطان وهو يقول ذلك يضطرب أشد الاضطراب من الغضب فاستمر السفير في خطابه يحاول الدفاع عن دولته، فصاح به السلطان قائلا: (أيها السفير - هل تعلم كيف سارت الأمور؟ إذا كنت قد أتيت سفيرا للصدق فمرحبا بك، وأما إذا كنت قد حضرت لتدافع عن الخونة وعن أعدائي فلا مرحبا بك، فاترك بلادي وخذ معك مواطنيك من تجار بلادك) فعاد السفير يلاطف في حديثه وقال: (إنني أجهل يا سيدي السلطان ما كان من هذا القنصل. ولكني أؤكد براءة دولتي وصفاء مودتها لكم. فإذا كان عندكم ما يدل على كذب قولي فأنا مستعد أن أرهن حياتي على صدق ما أقول. وأما إذا كان القنصل قد أضر بمولاي بجهله وغباوته، ولا أستطيع أن أسلم بأنه يقصد إلى ذلك قصدا، فإن حكومة بلادي كفيلة بعقابه على جرمه الشنيع؛ فأسلمه لي لأعود به إلى بلادي ليلقى بها جزاءه بعد تحقيق دقيق. وسيلقى من الجزاء ما يعلن للعالم كله صدق مودتنا لكم وتعلقنا بكم) ثم قام السفير ووضع بيده غلا حول عنق القنصل المتهم. ولما انتهت المقابلة عاد السفير راكباً واقتيد القنصل سائرا على قدميه حتى وصل إلى البيت الذي كان السفير نازلا فيه.

وفي هذه المقابلة تناول الحديث موضوع الجزية المفروضة على قبرص وكانت البندقية تدفع تلك الجزية كل سنة لمصر.

وتعددت المقابلات بعد ذلك وكانت مقابلات خاصة بلغ عددها سبعا، وفي المرة الأخيرة أستأذن السفير السلطان في السفر فأذن له وخلع عليه خلعة من القطيفة المحلاة بالفراء حول رقبتها.

وكان نجاح ذلك السفير في هذه المفاوضات عظيما فأنه استطاع أن يحصل لدولته على معاهدة صداقة صريحة جدد بها عهود المودة الأولى.

وهكذا بقيت مصر مركزا عظيما للتوازن السياسي والاقتصادي بين الدول يقصدها الجميع ويتقرب إليها الجميع إلى أن أراد الله أن تفجعها دولة شرقية في استقلالها وعظمتها - تلك الدولة التي كانت مدينة لمصر أكبر دين في نشأتها وتقدمها - وهي الدولة العثمانية التي لولا حماية مصر لها في نشأتها ووقفاتها الكريمة في الدفاع عن المدنية الإسلامية أمام هجمات تيمور لما كان لها في العالم وجود.

ولكن إذا كان القضاء قد قدر لها أن تفقد استقلالها عند ذلك فقد شاء كذلك أن يعود لها ذلك الاستقلال عزيزا مجيدا لنعيد إن شاء الله سيرة عظمتها ولتستأنف قصتها في القيام برسالة المدنية والسلام في العالم الجديد.

محمد فريد أبو حديد