مجلة الرسالة/العدد 213/للأدب والتاريخ

مجلة الرسالة/العدد 213/للأدب والتاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 08 - 1937



مصطفى صادق الرافعي

1880 - 1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 2 -

نسبه ومولده:

الرافعي سوري الأصل، مصري المولد، إسلامي الوطن: فأسرته من (طرابلس الشام)، ضم ثراها عظام أجداده، ويعيش على أرضها إلى اليوم أهله وبنو عمه؛ ولكن مولده بمصر، وعلى ضفاف النيل عاش أبوه وجده والأكثرون من بني عمه وخئولته منذ أكثر من قرن؛ وهو في وطنيته (مسلم): لا يعرف له أرضاً من أرض الإسلام ينتسب إليها حين يقول: (وطني. . .) فالكل عنده وطنه ووطن كل مسلم؛ فأنت لم تكن تسمعه يقول: (الوطنية المصرية. . .) أو (الوطنية السورية. . .) أو (الوطنية العراقية. . .) إلا كما تسمع أحداً يقول: هذه داري من هذا البلد، أو هذه مدينتي من هذا الوطن الكبير الذي يضم أشتاتاً من البلاد والمدائن. وإنما الوطن فيما كان يراه لنفسه ولكل مسلم، هو كل أرض يخفق فيها لواء الإسلام والعربية؛ وما مصر والعراق والشام والمغرب وغيرها إلا أجزاء صغيرة من هذا الوطن الإسلامي الأكبر ينتظمها جميعاً كما تنتظم الدولة شتى الأقاليم وعديداً من البلاد

وكثيراً ما كانت تثور الخصومات بين الرافعي وبعض الأدباء في مصر، فما يجدون مغمزاً ينالون به منه عند القراء إلا أن يتهموه في وطنيته، أعني مصريته؛ وكان الرافعي يستمع إلى ما يقولون عنه في ذلك مغيظاً حيناً وساخراً حيناً آخر، ثم يقول: أفتراهم يتهموني في مصريتي لأنني في زعمهم غير مصري وفي مصر مولدي وفي أرضها رفات أبي وأمي وجدي، أم كل عيبي عندهم في الوطنية أنني صريح النسب؟. . . وإلا فمن أبو فلان وفلان؟ ومن أين مقدمه؟ ومت استوطن هذا الوطن. . .؟

ورأس أسرة الرافعي هو المرحوم الشيخ عبد القادر الرافعي الكبير المتوفى سنة 1230 هـ بطرابلس الشام، ويتصل نسبه بعمر بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه، في نسب طويل من أهل الفضل والكرامة والفقه في الدين، ما منهم إلا له تاريخ مشهود وجهاد مشكور ومسجد ومزار.

وأول وافد إلى مصر من هذه الأسرة هو المرحوم الشيخ محمد الطاهر الرافعي، قدمها في سنة 1243هـ (قريب من سنة 1827م) ليتولى قضاء الحنفية في مصر بأمر من السلطان؛ وأحسب أن مقدمه كان أول التاريخ لمذهب الإمام أبي حنيفة في القضاء الشرعي بمصر. ولم يعقب الشيخ محمد الطاهر غير فتاة وغلام، انتهى بموتهما نسبه فليس في مصر أحد من ولده؛ ولكنه كان كرائد الطريق لهذه الأسرة، فتوافد أخوته وأبناء عمومته إلى مصر يتولون القضاء ويعلمون مذهب أبي حنيفة حتى آل الأمر من بعد أن اجتمع منهم في وقت ما أربعون قاضياً في مختلف المحاكم المصرية، وأوشكت وظائف القضاء والفتوى أن تكون مقصورة على آل الرافعي؛ وقد تنبه اللورد كرومر إلى هذه الملاحظة فأثبتها في بعض تقاريره إلى وزارة الخارجية الإنجليزية.

وقد تخرج في درس الشيخ محمد الطاهر وأخيه الشيخ عبد القادر الرافعي أكثر علماء الحنفية الذين نشروا المذهب في مصر. ومن تلاميذهما الأدنين المرحومان الشيخ محمد البحراوي الكبير والشيخ محمد بخيت مفتي الدولة السابق

ولما توفي المرحوم الإمام الشيخ محمد عبده، كان شيخ الحنفية في مصر يومئذ هو المرحوم الشيخ عبد القادر الرافعي، فدعاه الخديو عباس إلى تولي وظيفة الإفتاء، وكان رجلاً زاهداً ورعاً فيه تحرج وخشية، فلم يجد في نفسه هوى إلى قبول هذا المنصب، تحرجاً من فتنة الحكم وغلبة الهوى في شأن يتصل بحقوق العباد وفيه الفصل في الخصومات بين الناس. . . فلما بلغته دعوة الخديو ذهب إلى لقائه وفي نفسه همّ، وهو يدعو الله ألا يئول إليه هذا الأمر ضناً بدينه ومروءته. . . وتمت مراسيم التولية، وتلقى الأمر من صاحب العرش بقبول وظيفة (مفتي الدولة) ثم نزل إلى عربته فركبها عائداً إلى داره وهو يتمتم ويدعو؛ فلما بلغ نزل الحوذي ليفتح له العربة ويساعده على النزول، فإذا هو قد فارق الحياة قبل أن يجلس مجلس الحكم مرة واحدة ليقضي في شئون العباد. . . واستجاب الله دعاءه. . .!

وأبو الأستاذ الرافعي هو المرحوم الشيخ عبد الرزاق الرافعي، كان رئيساً للمحاكم الشرعية في كثير من الأقاليم، وهو واحد من أحد عشر أخاً اشتغلوا كلهم بالقضاء من والد المرحوم الشيخ سعيد الرافعي. وكان آخر أمر الشيخ عبد الرزاق رئيساً لمحكمة طنطا الشرعية؛ وفي طنطا كانت إقامته إلى آخر أيامه، وفيها مات ودُفن، وفيها أقام مصطفى صادق وأخوته من بعد أبيهم في بيته، فاتخذوا طنطا وطناً ومقاماً، لا يعرفون لهم وطناً غيرها ولا يبغون عنها حولا. ولقد حاولت وزارة الحقانية أكثر من مرة أن تنقل مصطفى إلى غير طنطا فكان يسعى سعيه لإلغاء هذا النقل، حتى لا يفارق البلد الذي فيه وفاة أبيه وأمه، وفيه مسجد السيد البدوي. . .

وكان الشيخ عبد الرزاق رجلاً ورعاً له صلابة في الدين وشدة في الحق، ما برح يذكرهما له مع الإعجاب معاصروه من شيوخ طنطا.

حدثني نسيب قال: (كنت غلاماً حدثا، وكان الشيخ عبد الرزاق الرافعي من جيراننا وأحبابنا الإجلاء، وكان يتخذ مجلس العصر أحياناً في متجر جاره وصديقه المرحوم الحاج حسن بدوي الفطاطري، في شارع درب الأثر، ودرب الأثر يومئذ هو شارع المدينة وفيه أكبر أسواقها التجارية؛ ففي عصر يوم من رمضان، كان الشيخ عبد الرزاق يجلس مجلسه من متجر صديقه، فمر به رجل ينفث الدخان من فمه وبين إصبعيه دخينة، فما هو إلا أن رآه الشيخ عبد الرزاق، حتى اندفع إليه، فانقض عليه، فأمسك بثيابه، فدعا الشرطي أن يسوقه إلى القسم لينال الحد على إفطاره في رمضان في شارع عام. وما أجدى رجاء الرجل ولا شفاعة الشفعاء؛ فسيق الرجل إلى القسم في (زفة) من الصبيان، ليتولى الشيخ حده بنفسه على إفطاره. وما كان القانون يأمر بذلك ولا يجيزه، ولكن الشرطة ما كانوا ليخالفوا أمر قاضي المدينة، وما كانوا يعرفون له عندهم إلا الطاعة والاحترام)

وحوادث الشيخ عبد الرزاق من مثل ذلك كثيرة يعرفها كثير!

واسم (الرافعي) معروف في تاريخ الفقه الإسلامي منذ قرون وأحسب أن هناك صلة ما بين أسرة الرافعي في طرابلس الشام وبين الإمام الرافعي المشهور صاحب الشافعي؛ وقد سألت المرحوم الأستاذ الرافعي مرة عن هذه الصلة، فقال: لا أدري، ولكني سمعت من بعض أهلي أن أول من عُرف منا بهذا الاسم شيخ من آبائي كان من أهل الفقه وله حظ من الاجتهاد والنظر في مسائله، فلقبه أهل عصره بالرافعي تشبيهاً له بالإمام الكبير الشيخ محمود الرافعي صاحب الرأي المشهور عند الشافعية، والله أعلم.

والأستاذ الرافعي حنفي المذهب كسائر أسرته، ولكنه درس مذهب الشافعي وكان يعتد به ويأخذ برأيه في كثير من مسائل العلم.

وأم الرافعي كأبيه سورية الأصل، وكان أبوها الشيخ الطوخي تاجراً تسير قوافله بالتجارة بين مصر والشام، وأصله من حلب، وأحسب أن أسرة الطوخي ما تزال معروفة هناك، على أنه كان اتخذ مصر وطناً له قبل أن يصل نسبه بأسرة الرافعي. وكانت إقامته في (بهتيم) من قرى مديرية القليوبية، وكان له فيها ضيعة، وفيها ولد الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في يناير من سنة 1880م، إذ آثرت أمه أن تكون ولادتها في بيت أبيه.

وكانت أم الرافعي تحبه وتؤثره، وكان يطيعها ويبرها، وقد ظل إلى أيامه الأخيرة إذا ذكرها تغرغرت عيناه كأنه فقدها بالأمس، وكان دائماً يحب أن يسند إليها الفضل فيما آل إليه أمره؛ وقد توفيت في أسيوط ودفنت بها، ثم نقلت إلى مدافن الأسرة بطنطا، وقد شيعها الرافعي على عنقه إلى مقرها!

علمه وثقافته:

لأسرة الرافعي ثقافة أُسميها كما يسميها الأستاذ إسماعيل مظهر (ثقافة تقليدية)، فلا ينشأ الناشئ منهم حتى يتناولوه بألوان من التهذيب تطبعه من لدن نشأته على الطاعة واحترام الكبير وتقديس الدين، وتجعل منه خلفاً لسلف يسير على نهجه ويتأثر خطاه. والقرآن والدين هما المادة الأولى في هذه المدرسة العريقة التي تسير هذه الأسرة على منهاجها منذ انحدر أولهم من صلب الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب

وعلى هذه النشأة نشأ المرحوم مصطفى صادق، فاستمع إلى أبيه أول ما استمع تعاليم الدين وحفظ شيئاً من القرآن، ووعى كثيراً من أخبار السلف، فلم يدخل المدارس المدنية إلا بعد ما جاوز العاشرة بسنة أو اثنتين. فقضى سنة في مدرسة دمنهور الابتدائية، ثم نقل أبوه قاضياً إلى محكمة المنصورة فانتقل معه إلى مدرسة المنصورة الأميرية، فنال منها الشهادة الابتدائية وسنه يومئذ سبع عشرة سنة أو دون ذلك بقليل؛ ومن زملائه في المدرسة الابتدائية الأستاذ الجليل منصور فهمي بك، ونيازي باشا وأحسبه قال لي: إن منهم كذلك الشارع القانوني الكبير عبد الحميد بدوي باشا

ومن أساتذته في المدرسة الابتدائية شيخنا العلامة الأستاذ مهدي خليل المفتش بوزارة المعارف، وكان يدرس له العربية؛ وكان الرافعي رديء الخط لا يكاد يقرأ خطه إلا بعد علاج ومعاناة فكان الأستاذ مهدي يسخر منه قائلاً: (يا مصطفى، لا أحسب أحداً غيري وغير الله يقرأ خطك!) وقد ظل خط الأستاذ الرافعي رديئاً إلى آخر أيامه، ولكن قراء خطه قد زادوا اثنين: هما سعيد العريان والعمال في مطبعة الرسالة. . .

وهنا أذكر حكاية طريفة تدل على مبلغ وفاء المرحوم الرافعي وتكشف عن شيء من خلقه: فقد صحبني مرة منذ عامين إلى نادي دار العلوم، وما أكثر ما كان يصحبني إليه إذا هبط القاهرة. وجلس وجلست معه في جمع كبير من المفتشين والمدرسين ورجال التعليم، وكان المرحوم الأستاذ أبو الفتح الفقي نقيب المعلمين السابق جالساً إلى جانب الأستاذ الرافعي يتحدثان، وأنا بينهما أترجم للأستاذ الرافعي حديث محدثه مكتوباً في ورقة، وبينما نحن كذلك والحديث يتشعب شعبه وينسرب في مساربه، والجمع حولنا مرهف الآذان يستمع إلى حديث الرجلين، إذ نهض الرافعي واقفاً، فانتبهت، فإذا القادم الأستاذ مهدي خليل يبدو من طوله وجسامته واكتمال عضله كأنما يطل علينا من نافذة. . . وإذا الرافعي يطأطأ له وينحني يهم أن يقبل يده؛ ثم عاد إلى مجلسه فمال عليّ يقول في همس: (هذا أستاذي مهدي خليل. . .) وفي صوته رنة هي أقرب إلى صوت طفل لأبيه حين يمر بهما معلم الغلام فيميل إلى أبيه يُسرّ إليه. . . ومضى الأستاذ مهدي غير عابئ ولا ملتفت بما فيه من طبيعة المح وعادة الإغضاء، وأحسبه لم يعن بالسؤال عن هذا الزائر الذي نهض له أو بالنظر إلى وجهه، على حين ظل ذكره على لسان الرافعي طول اليوم

وفي السنة التي نال فيها الرافعي الشهادة الابتدائية - وهي كل ما نال من الشهادات الدراسية - أصابه مرض مشف أثبته في فراشه أشهراً - وأحسبه كان التيفويد - فما نجا منه إلا وقد ترك في أعصابه أثراً كان حبسة في صوته ووقراً في أذنيه من بعد.

وأحس الرافعي آثار هذا الداء يوقر أذنيه، فأهمه ذلك هما كبيراً، ومضى يلتمس العلاج لنفسه في كل مستشفى وعند كل طبيب، ولكن العلة كانت في أعصابه فما أجدى العلاج عليه شيئاً، وأخذت الأصوات تتضاءل في مسمعيه عاما بعد عام كأنها صادرة من مكان بعيد، أو كأن متحدثاً يتحدث وهو منطلق يعدو. . . حتى فقدت إحدى أذنيه السمع، ثم تبعتها الأخرى، فما أتم الثلاثين حتى صار أصم لا يسمع شيئا مما حواليه، وانقطع عن دنيا الناس.

وامتد الداء إلى صدره فعقدة عقدة في حبال الصوت كادت تذهب بقدرته على الكلام، ولكن القدر أشفق عليه أن يفقد السمع والكلام في وقت معاً، فوقف الداء عند ذلك، ولكن ظلت في حلقه حبسة تجعل في صوته رنينا أشبه بصراخ الطفل، فيه عذوبة الضحكة المحبوسة استحيت أن تكون قهقهة. . .

وكانت بوادر هذه العلة التي أصابت أذنيه هي السبب الذي قطعه عن التعليم في المدارس بعد الشهادة الابتدائية، لينقطع لمدرسته التي أنشأها لنفسه وأعد برامجها بنفسه، وكان هو فيها المعلم والتلميذ

وحظ الرافعي من الشهادات العلمية حظ أبيه، فإن الشيخ عبد الرزاق الرافعي على علمه وفضله ومكانته، وعلى أنه كان رئيساً للمحكمة الشرعية في كثير من الأقاليم - لم تكن معه شهادة (العالمية) حتى جاء إلى طنطا. ولأمر ما نشب خلاف علمي بينه وبين بعض علماء طنطا حفزه وهو شيخ كبير إلى طلب الشهادة، فتقدم إلى امتحانها ونالها، لغير غرض يسعى إليه إلا أن يستكمل براهينه في جدال بعض العلماء. . .

وكان لأبي الرافعي مكتبة حافلة تجمع أشتاتاً من نوادر كتب الفقه والدين والعربية؛ فأكب عليها مصطفى إكباب النهم على الطعام الذي يشتهيه؛ فما مضى إلا قليل حتى استوعبها وأحاط بكل ما فيها وراح يطلب المزيد. وكان له من علته سبب يباعد بينه وبين الناس فما يجد لذة ولا راحة في مجالسة أحد، وكان ضجيج الحياة بعيداً عن أذنيه، وكان يحس في نفسه نقصا في ناحية يجهد جهده ليداريه بمحاولة الكمال في ناحية، وكان يعجزه أن يسمع فراح يلتمس أسباب القدرة على أن يتحدث، وكان مشتاقاً إلى السمع ليعرف ماذا في دنيا الناس فمضى يلتمس المعرفة في قراءة أخبار الناس، وفاتته لذة السامع حين يسمع فذهب ينشد أسباب العلم والمعرفة ليجد لذة المتحدث حين يتحدث، وقال لنفسه: إذا كان الناس يعجزهم أن يسمعوني فليسمعوا مني. . . وبذلك اجتمعت للرافعي كل أسباب المعرفة والاطلاع، وكانت علته خيراً عليه وبركة. وعرف العلم سبيله من نافذة واحدة من نوافذ العقل إلى رأس هذا الفتى النحيل الضاوي الجسد الذي هيأته القدرة بأسبابها والعجز بوسائله ليكون أديب العربية في غد. . .! كانت مكتبة الرافعي في هذه الحقبة من تاريخه، هي دنياه التي يعيش فيها، ناسُها ناسه، وجوها جوه، وأهلها صحابته وخلانه، وعلماؤها رواته، وأدباؤها سُمَّاره؛ فأخذ عنها العلم كما كان يأخذ المتقدمون من علماء هذه الأمة عن العلماء والرواة فماً لفم، فنشأ ذلك نشأة السلف. يرى رأيهم، ويفكر معهم، ويتحدث بلغتهم، وتستخفه أفراحهم، وتتراءى له أحلامهم ومناهم

وإذا كان قد فقد السمع قبل أن يتم تمامه ويكون أهلا لغشيان المجالس يتحدث إلى الناس ويستمع إلى حديثهم - فإن حظه من العامية المصرية كان قليلا، وكان عليه أن يسألني أحياناً أو يسأل غيري من خاصته، عن كلمة أو عبارة أو مثل مما يسمع من أمثال العامة حين تلجئه الحاجة الأدبية إلى شيء من ذلك، وكان يمزح معي أحياناً ويقول: (فلتكن أنت لي قاموس العامية. . .)

وإذا كان أبوه وأمه قريبي عهد بمنبتهما في سورية، وكان لم يسمع أكثر ما سمع في طفولته إلا منهما - فإن لهجته في الحديث ظلت قريبة من السورية إلى آخر أيامه، على حين تسمع إلى كل أسرته وأخوته وبنيه يتحدثون باللهجة المصرية فما ينم صوت أو كلمة على أن أصلهم سوري، ولكن مصطفى كان بلغته ولهجة حديثه هو وحده النميمة على هذا الأصل، وكأنه لم يقدم من سورية إلا قريب.

ولم تُجْدِ على الرافعي معرفته الفرنسية إلا قليلا أو أقل من القليل، فمنذ انتهى من المدرسة لم يجد في نفسه إليها نزوعاً قوياً، فلزمها سنوات يقرأ فيها بعض ما يتفق له من الكتب القليلة المقدار في العلم والأدب، ثم هجرها إلى غير لقاء، ولو أنك كنت تسمعه أحياناً يأسف على هجرها ويمني نفسه بالعودة إليها في وقت فراغ؛ وهيهات أن يجد الرافعي فراغا من وقته.

هذه ثقافة الرافعي وتلك وسائله إلى المعرفة، وقد ظل هذا على الدأب في القراءة والاطلاع إلى آخر يوم من عمره، يقرأ كل يوم ثماني ساعات متواصلة لا يمل ولا ينشد الراحة لجسده وأعصابه كأنه من التعليم في أوله لا يرى أنه وصل منه إلى غاية.

وكان إذا زاره زائر في مكتبه جلس قليلا يحييه ويستمع لما يقوله ثم لا يلبث أن يتناول كتاباً مما بين يديه ويقول لمحدثه: (تعال نقرأ. . .) وتعال نقرأ هذه معناها أن يقرأ الرافعي ويستمع الضيف، فلا يكف عن القراءة حتى يرى في عيني محدثه معنى ليس منه أن يستمر في القراءة. . .

وفي القهوة، وفي القطار، وفي الديوان، لا تجد الرافعي وحده إلا وفي يده كتاب. وكان في أول عهده بالوظيفة كاتبا بمحكمة طلخا، فكان يسافر إلى طنطا كل يوم ويعود، فيأخذ معه في الذهاب وفي الإياب (ملازم) من كتاب أي كتاب ليقرأها في الطريق. وفي القطار بين طنطا وطلخا (وبالعكس) استظهر كتاب نهج البلاغة في خطب الإمام علي، وكان لم يبلغ العشرين بعد. . . .

(لها بقية)

(طنطا)

محمد سعيد العريان