مجلة الرسالة/العدد 215/القصص
مجلة الرسالة/العدد 215/القصص
رجل البيت
للأديب عبد الحميد جوده السحار
دق جرس الباب فأسرعت نعمات هانم لتفتح لزوجها كما هي عادتها في أول كل شهر فما كادت ترى وجهه حتى بادرته
- استلمت المرتب طبعاً. . . سلمه بدورك
فقال لها وهو يدخل:
- انتظري حتى أدخل وأستريح. . . انتظري قليلاً
- لا. . . هاتها. . . أمدد يدك في جيبك. . . أوه. . . أسرع
وضع حسن أفندي يده في جيب سترته الداخلي وهو يتململ وأخرج رزمة من الأوراق المالية ووضعها في يد زوجته التي كانت ممتدة إليه تنتظر أوراق البنكنوت. استلمت نعمات هانم مرتب زوجها فنادت ابنها حسونة ثم ابنتها فيفي وهي سائرة إلى جوار زوجها وكان متجهاً نحو غرفته ليغير ملابسه. لبى حسونة وفيفي النداء وسارا وراء والديهما ودخل الجميع غرفة الوالد فقالت نعمات هانم:
- خذ يا حسونة نقودك. . . وأنت يا فيفي. . . خذي هذا وأخذت تعد - واحد. . . اثنان. . . ثلاثة. . . أربعة. هذا للبقال. . . واحد ونصف هذا للخباز. . . واحد. . . اثنان. هذا للجزار. . . أوه. . . آسفة يا حسن بك. . . نسيت أن أعطيك مصروفك. خذ ولا تحزن. . . واحد. . . اثنان. . . ثلاثة. . . ونصف. . . هذا أجر المنزل وبقيت في يدها بضع أوراق مالية فطوتها وقالت: هذا للخياطة طبعاً
فرفع زوجها رأسه وقال:
- كل هذا للخياطة. . . لا لا. . . هذا إسراف. . . لا أقـ. .
- هذا للخياطة والتنزه والملحقات. . . سنشتري أنا وفيفي أقمشة للصيف ونرسلها إلى الخياطة. . . مسكينة فيفي إنها لا تملك إلا تسعة فساتين فقط
فقال حسونة: ولكن يا ماما. . . أنا محتاج إلى بذلة جديدة
- أوه حسونة. . . الشهر الآتي يا حبيبي ونظر حسن أفندي إلى حذائه البالي وسترته التي تغير لونها وهم بالكلام ولكنه فضل السكوت لأنه كان يعلم جيداً أن لا فائدة من الكلام.
انتقلت العائلة إلى غرفة المائدة لتناول الغداء، فأخذ حسن أفندي ككل أول شهر ينتقد العمل في الحكومة ويصف الحكومة بمقبرة الكفايات ويعلم الله أن حسن أفندي هذا لا يصلح لأي عمل حكومي أو غير حكومي فهو متردد ضعيف العزيمة ولا يحسن غير الخط. التحق بالحكومة من عشرين سنة أيام أن كان كل من يستطيع القراءة والكتابة يلتحق بها. يعتقد أنها نابغة وأنه لو كانت الإجازات موجودة في أيامه لحصل على أعلى الدرجات. ثم قال: التحق اليوم بوزارتنا موظف جديد متخرج من كلية التجارة وجاءت قرعته في مكتبي فناولته حساباً بسيطاً ليتمه، وقدم إلى الحساب فلم أفهم منه حرفاً. مسكين هذا الشاب إنه اتبع طرقاً عقيمة طبعاً وكان خطه رديئاً، فقلت له: (اسمع يا بني. سأنصحك لوجه الله أترك كل ما تعلمته في المدرسة واتبع الطريقة التي سأعلمها لك) فبهت الشاب ونظر إلي مذهولاً فقلت: (الطريقة التي سأعلمها لك اكتسبتها بالمران الطويل وسترى أنها بسيطة) ثم شرحتها له وأراد أن يعترض فقلت له: (اسمع، أعمل بطريقتي ولا تعمل بغيرها إننا نتبعها من عشرين سنة. أتريد أن نغير من نظامنا إكراماً لخاطرك. لا يا بني لا أسمح لك بغير طريقتي)
فقال حسونة: (ولكن يا أبي لماذا لم تتركه يتبع طريقته التي تعلمها) فرد أبوه محتداً: (أية طريقة؟ لا يوجد للحساب سوى طريقة واحدة، أتظن أنكم تتعلمون الآن؟ أنكم تضيعون وقتكم سدى. رحم الله أيام أن كنا نحصل كل العلوم في أربع سنوات. اترك فلسفتك يا سيد حسونة)
أراد حسونة أن يرد ويقنع أباه ولكن نعمات هانم تدخلت وقالت:
- لنترك هذا الحديث. عليك يا حسن بك أن تكون هنا في الساعة الثامنة والنصف لنذهب إلى السينما
- لا أستطيع الليلة. . عندي شغل كثير.
- بل يجب أن تحضر.
- فثار حسن أفندي وقال: - قلت لا أستطيع. يجب أن تكون الكلمة كلمتي، نعم يجب أن أطاع هنا. . أنا رجل البيت. . أنا رجل البيت.
وقام ثائراً واتجه نحو غرفته ثم لبس ملابسه. وفي أثناء خروجه قالت زوجته:
- تذكر الساعة الثامنة والنصف.
في الساعة الثامنة أخذت نعمات هانم تعد نفسها للخروج فدخلت غرفة الزينة وأمرت حسونة أن يجهز نفسه واختارت لفيفي الفستان الذي ينبغي لها ارتداؤه فقال حسونة:
- قد نلبس ونتعب أنفسنا ولكن أبي قد لا يحضر.
فردت نعمات هانم: (اطمئن)
فما كادت نعمات هانم تتم قولها حتى سمع رنين الجرس فنظر حسونة إلى أمه فرآها تبتسم فابتسم أيضاً.
- أسرعي يا فيفي وافتحي. . إنه جاء
فتحت فيفي الباب فدخل حسن أفندي مسرعاً وما كاد يرى زوجته حتى قال:
- حظكم حسن. . لقد تمكنا من إنجاز كل شيء قبل الثامنة فحضرت لأمتعكم بالسينما. . هيا أسرعوا.
فنظر حسونة إلى فيفي ثم إلى أمه وضحكوا.
وهكذا اثبت حسن أفندي أنه حقاً رجل البيت.
ظهرت نتيجة البكالوريا وكان حسونة من الناجحين فأراد أن يلتحق بكلية من كليات الجامعة فاجتمعت العائلة ودار النقاش والمفاضلة واشتد الجدل بين الوالد المحترم والوالدة المهذبة، وترك حسونة المسكين ولم يأخذ رأيه حتى كرأي استشاري. الأب يرغب في إلحاق ابنه بكلية الهندسة والأم ترغب في أن ترى أبنها طبيباً.
- هندسة.
- طب.
- قلت هندسة. . هندسة
- قلت طب. . طب
- قلت هندسة وكفى. . أنا ولي أمره. . .
والتحق حسونة بكلية الطب.
وخطب فيفي خطيبان أحدهما محام والثاني ضابط بوليس فاجتمعت العائلة المحترمة ودار النقاش. . فالأب يفضل المحامي ويدافع عنه ويقول يكفي أنه يعمل حراً وانه شاب سيكون له مستقبل باهر، والأم تفضل الضابط لأن منظره بالشريط الأحمر كما تقول (يسر) وأن ماهيته ثابتة، أما المحامي فمن يدري قد يتخاصم الناس وقد لا يفعلون. اشتد الجدل.
- المحامي
- الضابط
- قلت المحامي
- قلت الضابط
- لا. . . لا أقبل هذا أبداً. . . الكلمة هنا كلمتي والرأي رأيي. . . أنا رجل البيت. . . أنا رجل البيت لن تتزوج إلا المحامي. . .
وتزوجت فيفي من الضابط
وهكذا عاش حسن أفندي. . . رجل البيت
عبد الحميد جوده السحار