مجلة الرسالة/العدد 215/مصر مجاز الشرق

مجلة الرسالة/العدد 215/مصر مجاز الشرق

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 08 - 1937



عامل يعيد الأثر في تأريخها

للأستاذ محمد عبد الله عنان

من الحقائق الجغرافية والتاريخية ما يلازم حياة الأمم حتى ليغدو من صميم هذه الحياة، بل يغدو أحياناً عاملاً حاسماً في تكوينها وتطورها؛ فعلاقة النيل بحياة مصر مثلا علاقة أزلية خالدة لم يفصمها تعاقب الدهور والعصور؛ وإذا كانت هيرودوت قد ذكر منذ ألفين وثلاثمائة عام أن مصر هبة النيل، فان هذه الحقيقة لا تزال ماثلة إلى اليوم بكل قوتها وروعتها، وقد كانت ماثلة راسخة قبل هيرودوت بآلاف السنين. وقد كان النيل منذ أقدم العصور حياة الأمة المصرية المحتشدة حول ضفافه الخضراء، وسيبقى أبد الدهر مصدراً لهذه الحياة؛ وكان منذ فجر التاريخ عاملاً أساسياً في تكوين هذه الحياة وفي تطور مظاهرها وأساليبها مدى العصور والدهور. كذلك كان موقع مصر الجغرافي وما يزال عاملاً جوهرياً في تطوراتها التاريخية وفي مصايرها السياسية والاجتماعية، فقد كان هذا الركن الذي تشغله مصر صلة الوصل بين قارات العالم القديم، وكان لهذه الحقيقة الجغرافية في تطور تاريخها القديم والحديث أعظم تأثير.

بل إن هذه الحقيقة الراسخة لتغدوا في تاريخ مصر الحديث والمعاصر أشد وضوحاً وتأثيراً؛ ذلك أن القدر شاء أن تحفر مصر قناة السويس وأن تغدوا مرة أخرى طريق الهند والشرق الأقصى. وهل ينسى مؤرخ ما كان لقناة السويس من أثر عظيم في مصاير مصر في العصر الأخير وفي وضعها السياسي الحاضر؟ وهل ينكر إنسان أن القناة ستبقى عصراً هي العامل الفصل في مصير مصر ومستقبلها الدولي؟ ونقول إن مصر قد غدت كرة أخرى طريق الهند والشرق الأقصى، لأن مصر كانت منذ أقدم العصور حلقة من أهم حلقات الوصل بين الشرق والغرب، وكانت خلال العصور الوسطى حتى أواخر القرن الخامس عشر طريق الهند المختار، وكانت ثغورها دائماً سواء في البحر الأبيض المتوسط أو في البحر الأحمر قواعد رئيسية لتجارة الغرب مع الهند والشرق الأقصى؛ ونحن نعرف إن مصر والشام كانتا منذ القرن التاسع وحدة جغرافية وسياسية متحدة، وكانت حدود مصر منذ الدولة الطولونية تصل حتى أقاصي الشام؛ وكانت هذه المياه كلها على طول ساح الشام وسواحل مصر حتى برقة تقع تحت السيادة المصرية؛ كذلك كانت مياه البحر الأحمر حتى ثغور الحجاز. وكان للهند والشرق الأقصى في تلك العصور طريقان رئيسان: الأول طريق قسطنطينية، والثاني طريق المياه والأراضي المصرية؛ ولكن الطريق الأول لم يكن دائماً خير الطريقين، لأنه بعد اجتياز أراضي الدولة البيزنطية، ينحدر إلى مسالك وعرة في أرمينية وفارس وما وراء النهرين، وكان أيضاً أطول الفريقين شقة؛ ولهذا كان طريق الثغور المصرية هو طريق الهند والصين المختار؛ وكانت جمهورية البندقية لتفوقها البحري في البحر الأبيض المتوسط تستأثر في تلك العصور بأعظم قسط من تجارة الشرق الأقصى؛ وكانت مصر، سيدة الطريق إلى الهند، تستأثر بأعظم قسط من أرباح هذه التجارة ومكوسها، وكانت المكوس التي تفرض في ثغور مصر والشام على التجارة الصادرة إلى الشرق الأقصى من أعظم موارد الخزينة، هذا إلى ما تجنيه التجارة المصرية من أرباح الوساطة وأعمال النقل وغيرها.

كانت مصر إذاً في تلك العصور كما هي اليوم طريق الهند والشرق الأقصى؛ بيد أنها كانت عندئذ سيدة هذا الدرب والمتحكمة في مصايره، تدعم إرادتها وصولتها بقوات برية وبحرية يخشى بأسها. ولما غزى الصليبيون سواحل الشام في نهاية القرن الحادي عشر واستقروا حيناً في فلسطين وبعض ثغور الشام اضطربت مواصلات الهند من هذه الناحية حيناً، ولكنها تحولت إلى الإسكندرية ودمياط وإلى القلزم وعيذاب ثغري البحر الأحمر؛ وكانت القوافل التجارية تخترق مصر من الإسكندرية ودمياط براً إلى ثغر القلزم (وموقعه القديم مكان ثغر السويس)، أو في النيل حتى قوص، ثم إلى عيذاب؛ وتسير بعد ذلك بحراً إلى الهند والصين؛ وكانت ثمة طريق برية أخرى تخترق الشام والجزيرة ثم فارس وخراسان والسند، أو تنحرف شمالا إلى بخارى ثم الصين؛ وهذه الطريق الأخيرة هي التي سلكها ماركو بولو الرحالة البندقي الشهير في القرن الثالث عشر والتي وصفها لنا في رحلته أبدع وصف؛ ثم سلكها من بعده في أوائل القرن الرابع عشر إلى الهند الرحالة المغربي الشهير ابن بطوطة الطنجي. والواقع أن فكرة قطع طريق الهند وحرمان مصر من مغانمها لم تكن بعيدة عن أفكار الصليبيين؛ فلما انهارت حملاتهم ومشاريعهم واستطاعت مصر أن تردهم نهائياً عن الشام وثغوره، استردت مصر كل سيادتها وسيطرتها على طريق الهند؛ ومن جهة أخرى فإن جمهورية البندقية لم تكن كباقي الدولة النصرانية متحدة الرأي مع الصليبيين دائماً، وكانت في معظم الأحيان تؤثر مصالحها التجارية وتؤثر البقاء على صداقة مصر.

ولبثت مصر تسيطر على طريق الهند والبندقية تستأثر بمعظم مغانم التجارة الهندية حتى أواخر القرن الخامس عشر؛ وكانت علائق مصر والبندقية دائمة التوثق تنظمها دائماً معاهدات متوالية تسعى جمهورية البندقية دائماً إلى عقدها مع حكومة السلاطين. ولكن حدث في أواخر القرن الخامس عشر أن حاول البحارة البرتغاليون اكتشاف طريق جديد للهند؛ واستطاع فاسكودي جاما في سنة 1497 أن يكتشف طريق رأس الرجاء الصالح، وأن يصل عن هذا الطريق إلى ثغر قاليقوط في غرب الهند؛ ولم تمض أعوام قلائل حتى أنشأ البرتغاليون في هذا الثغر مستعمرة برتغالية، وأخذت بعوثهم البحرية تتردد إلى الهند عن هذا الطريق الجديد. وفي الحال شعرت مصر بالخطر الذي يهدد طريقها الهندية ومواردها التجارية، وشعرت البندقية حليفتها وشريكتها بما يهدد تجارتها مع الشرق الأقصى من الخراب والإمحال؛ وظهر هذا الخطر بصورة واضحة حينما أخذت التجارة الهندية التي كانت تسير إلى مصر عن طريق عدن وجدة وسواكن تتحول إلى الطريق البحرية الجديدة، وأخذت السفن البرتغالية تطارد السفن المصرية التي تشق هذه المياه؛ عندئذ هبت مصر تدافع عن مواصلاتها الهندية وامتيازاتها التجارية التي استأثرت بها مدى القرون؛ وكان ذلك في عهد السلطان الغوري الذي شاء القدر أن يكون آخر ملوك مصر المستقلة؛ فبادر السلطان بإنشاء أسطول مصري جديد في مياه البحر الأحمر ليقاتل أولئك الخصوم الجدد. وفي بعض الروايات أن البنادقة أمدوا السلطان بالأخشاب والذخائر لتجهيز هذا الأسطول؛ وعلى أي حال فقد التقى الأسطول المصري بسفن البرتغاليين في البحر الأحمر أكثر من مرة وأحرز قائده أمير البحر حسين على الأسطول البرتغالي بقيادة الأميرال لورنزوالميدا في سنة 1508 انتصاراً حاسماً؛ ولكن البرتغاليين عادوا فهاجموا الأسطول المصري وهزموه في العام التالي؛ ولم يك ثمة شك في مصير هذا النضال، فإن البرتغال كانت يومئذ في مقدمة الدول البحرية التي يخشى بأسها، وكانت مصر من جهة أخرى ترقب خطراً آخر أعظم وأجل، هو خطر الترك العثمانيين. أما البندقية فقد حاولت من جانبها أن تتأهب للنضال محافظة على تجارتها، ولكن الدول الأوربية الكبرى، فرنسا وأسبانيا والبابوية، اتحدت في مجمع كامبري لمقاومة البندقية والقضاء على محاولاتها.

وهكذا فقدت مصر طريق الهند في نفس الوقت الذي فقدت فيه استقلالها، وفقدت كل ما كانت تجنيه من وراء هذا الامتياز القديم من المغانم الطائلة. ومنذ أوائل القرن الخامس عشر يغدو طريق رأس الرجاء الصالح، هو الطريق المختار للهند والشرق الأقصى؛ ومن ذلك الطريق سارت البعوث البحرية المتوالية لاكتشاف مجاهل المحيط الهندي والمحيط الهادئ.

على أن القدر شاء القدر أن تسترد مصر طريق الهند في ظروف لم تكن تحلم بها، وكانت بالنسبة إليها مفتتح عصر من الكوارث والمحن؛ أجل كان افتتاح قناة السويس في سنة 1869 نذيراً بفاتحة الدور الخطير المحزن الذي قضى على مصر أن تؤديه في ربط الشرق بالغرب وتوثيق المواصلات بين بريطانيا العظمى والهند وأستراليا؛ بل لقد ظهر هذا النذير واضحاً منذ أيام الحملة الفرنسية حيث شعرت إنكلترا بالخطر الذي يهدد مواصلاتها المستقبلة من استقرار الفرنسيين في مصر، فبذلت كل ما في وسعها لتحطيم الحملة الفرنسية وإجلاء الفرنسيين عن مصر؛ وكأنما استطاعت إنكلترا يومئذ أن تنفذ إلى حجب الغيب، وأن تتصور قيام هذه القناة تشق الصحراء بين البحرين الأبيض والأحمر؛ وكانت القناة منذ افتتاحها شراً مستطيراً على مصر، لأنها لفتت أنظار الدول الأوربية إلى هذا الشريان الحيوي الجديد في طريق الشرق الأقصى، وأذكت أطماع السياسة الاستعمارية. ولم تلبث مصر أن سقطت فريسة هذه السياسة المتجنية؛ وكانت محنة فقدت مصر فيها استقلالها؛ ومهما كانت البواعث التي تذرعت بها السياسة البريطانية لاحتلال مصر في سنة 1882 فإن حراسة القناة، وهي شريان حيوي لطريق الهند، كانت بلا ريب أهمها وأخطرها؛ وقد غدت هذه الحقيقة فيما بعد شعار السياسة البريطانية ومحورها الأساسي في التمسك باحتلال مصر.

ولما وقعت الحرب الكبرى ظهرت أهمية القناة كطريق حيوي للمواصلات الإمبراطورية البريطانية، ولعبت دوراً خطيراً في حمل القوات والمؤن من أنحاء الأملاك والمستعمرات إلى ميادين القتال الأوربية؛ وازدادت السياسة البريطانية اقتناعاً بأهمية هذا الشريان الحيوي في مواصلاتها الإمبراطورية، وازدادت تمسكاً بحراسته والسيطرة عليه، حتى إنها رأت يومئذٍ أن تعلن حمايتها على مصر تمهيداً إلى ضمها إلى أملاك التاج. فلما لم تقبل مصر هذا المصير، واضطرت أن تشهر النضال في سبيل حريتها واستقلالها، وأعلنت إنكلترا في سنة 1922 إلغاء الحماية والاعتراف باستقلال مصر، كانت مسألة المواصلات الإمبراطورية أو بعبارة أخرى مسألة قناة السويس من المسائل المحتفظ بها؛ ولما آن للمسألة المصرية أن تحل أخيراً بعقد معاهدة الصداقة المصرية الإنكليزية في أغسطس الماضي، كانت مسألة المواصلات الإمبراطورية وحماية قناة السويس عقدة العقد، وكانت بالنسبة للسياسة البريطانية غاية الغايات؛ وقد جاءت نصوص المعاهدة منوهة بأهميتها وخطورتها بالنسبة لمصاير العلاقات بين مصر وإنكلترا.

على أن المستقبل فياض بالاحتمالات؛ وقد حمل تطور فنون الحرب الحديثة وتقدم التسليحات الجوية بعض الخبراء على الشك في مستقبل قناة السويس كشريان للمواصلات الإمبراطورية؛ وقد أيدت ظروف الحرب الحبشية وتطوراتها هذه النظرية؛ ومع أن السياسة البريطانية مازالت على تمسكها بأهمية القناة وخطورتها بالنسبة للدفاع الإمبراطوري، فإنها تتوجّس اليوم من حركات إيطاليا الفاشستية ومطامعها الاستعمارية، وتتوجس بالأخص من تفوق تسليحاتها الجوية، وتنظر دائماً إلى احتمال العود إلى طريق رأس الرجاء الصالح، إذا وقع ما يهدد سلامة القناة؛ وهكذا نرى أن التاريخ قد يعيد نفسه، وأن أحداث الحرب والسياسة قد تؤثر في أهمية القناة كطريق للهند والمواصلات الإمبراطورية؛ على أنّه إذا شاء القدر أن تفقد مصر طريق الهند مرة أخرى، وأن تغدو القناة في عرف السياسة والحرب بل وفي عرف التجارة كما مهملا، فإن مصر تكون آخر من يأسف لضياع هذا الامتياز المحزن، وإنها لترى فيه يومئذ بشير الخلاص والرضى.

محمد عبد الله عنان