مجلة الرسالة/العدد 216/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 216/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 08 - 1937



سيرة السيد عمر مكرم

تأليف الأستاذ محمد فريد أبو حديد

فرغت من قراءة هذا الكتاب التحليلي المحكم، كما يفرغ الإنسان من شهود فلم تاريخي متقن، وبدل أن أرفع يدي لأصفق، أخذت قلمي لأكتب. شبهت هذا الكتاب بالفلم لأنه أوسع من الرواية، وأوضح من القصة، وأروع من السيرة؛ ففيه البيئة والمكان، وفيه الصور والألوان، وفيه الوقائع التي تتكلم، والخوالج التي تتجسم، والدقائق التي تسفر، والفروق التي تتضح. وتجلية الحياة المصرية السياسية والاجتماعية في القرن الثامن عشر على هذه الصورة الرائعة البارعة الملهمة لا تتهيأ إلا لأمثال الأستاذ فريد ممن توفروا على اكتناه الحق في هذا العهد المجهول المظلوم، وأوتوا مع ذلك البصيرة التاريخية التي لا تطيش، والضمير العلمي الذي لا يخدع، والقلم الفني الذي لا يزلُّ. والأستاذ فريد من كتابنا القلائل الذين لا يخرجون ما ينتجون إلا عن اختصاص محيط ودرس شامل وروية صادقة وضرورة حافزة وغرض نبيل. وقد عهده الناس في تأليفه محققاً، وفي ترجمته أميناً، وفي قصصه مجوداً، وفي شعره مجدداً، وفي أبحاثه حجة. وهو بعد زيدان زعيم المذهب التاريخي في القصة على نحو ما كان (ولتر سكوت)؛ وحبه الخالص لمصر صرف هواء وجهده إلى تاريخها القديم والحديث فخدمه خدمة جلى وغرسه في قلوب النشء غرساً مثمراً بالتعليم في أسمى درجاته، وبالتأليف في شتى فنونه؛ واعتزازه الصادق باستقلال وطنه وجّه نشاطه إلى ذلك العصر الذي خلص فيه سلطان مصر إلى أبنائها الخلّص الذين وُلدوا فيها، ونُشّئوا لها، وذادوا عن حياضها المطهرة طمع الواغل الدخيل ذياد الأحرار البررة؛ واتصافه بالخلق النبيل والطبع الحر جعله يغرم فيه بالشخصيات الكريمة الحرة التي جلاها لقراء (الرسالة) في مناسبات شتى، ومنها هذه الشخصية العزيزة السيدة: شخصية السيد عمر مكرم التي أفرد لها هذا الكتاب الذي نتحدث اليوم عنه.

(سيرة السيد عمر مكرم) صورة فنية مشرقة لمصر في القرن الثامن عشر، تقرأها فكأنك تشاهده، وتستبطنها فكأنك تعيش فيه؛ برز فيها وجه هذا الرجل الأبي صادق النظر أشم الأنف ناطق الملامح، فجعله فريد مثالاً للخلق المصري المحض في ذلك العهد، ومثلاً للجيل المصري الناشئ في هذا العهد (وقد رأينا الأمم الحديثة - وهي تسعى لتحفيز أبنائها إلى المكارم، وحضهم على المعالي - تلجأ إلى التاريخ فتستخرج منه صور المجد والبطولة فتعرضها على الجيل الحاضر ليجد فيه مثلاً يحتذيه، وأملاً يتطلع إلى تحقيق مثله، وهي تقصد بذلك إلى إعلاء نفوس أبنائها، والتسامي بأرواحهم وعواطفهم، وإثارة الخامد من طموحهم، بالتلويح لهم بأعلام المجد، والإشارة إلى ذرى الأماني الإنسانية. ومصر بحمد الله عريقة في كل مكرمة، غنية في كل فن، عبقرية في كل وجهة؛ فليس الواقع بمعجزها، ولا الحق بخاذلها، إذا هي أرادت المُثَل العالية، أو رسم صور البطولة والمجد).

الكتاب مشوق جذاب بموضوعه وطريقته وأسلوبه. أما موضوعه فجهاد مصر في سبيل حقوقها وبلوغها من ذلك بفضل الأحرار من زعمائها أمثال السيد عمر مكرم ما تبغيه من حفظ كرامتها وإنفاذ إرادتها حتى بلغ من فوزها أن تحللت من إرادة الخليفة فعزلت بقوتها من الولاة من يفسد، وولت برأيها منهم من يصلح؛ وهو موضوع من أحب الموضوعات إلى النفس، لأنه قصة الحياة ومطمح الإنسانية إلى السمو. وأما طريقته فطريقة التحليل النفسي بصدقه ودقته، والعرض الروائي بطلاوته وحبكته. وأما أسلوبه فقد ارتفع فيه فريد إلى الدرجة العليا من الفن: جزالة في رقة، وبلاغة في سلامة، وإيجاز في وضوح، ومنطق في شعر. وحسبي من ذلك أن أضع أمامك صورة صغيرة من الفصل الجميل الممتع الذي عقده لثورة المصريين على الفرنسيين في مارس من سنة 1800، وقد عز القاهرين النصير، وخذلهم الأمير، وأهملهم الخليفة، وسلط عليهم المحاصرون النار، وأرسلت عليهم السماء المطر، حتى قال فريد: (وأمسى أهل تلك الأحياء المنكوبة ليلة العاصفة وهم في أشد حالات البؤس والكرب؛ يحاولون الخروج من منازلهم برغم الرعد والبرق والمطر المنهمر، فتعوقهم المياه المتدفقة، وتنزلق أقدامهم في الأوحال الخوانة، فإذا بهم يسمعون قصف المدافع من بين أيديهم، ويرى بعضهم أخاه صريعاً إلى جانبه قد أصابته رصاصة لا يرى قاذفها البعيد، فيقف لحظة ينظر في إسعاف الصريع، فإذا به يسمع هيعة من خلفه، فينظر فإذا باللهب يندلع في منزله الذي تركه منذ حين قصير، فيذكر الصبية الذين خلفهم فيه، فيثب قلبه في صدره، ويهم منتفضاً كالملسوع. ويعدو نحو بيته وهو لا يعي من الفزع؛ وفيما هو يعدو تطرق أذنيه صرخات داوية يملؤها الهلع والذعر، من نساء كدن يخرجن عن الوعي من الهول؛ ويرى ماء المطر يهبط على النيران فلا يزيدها إلا توهجاً واندلاعاً، ويسمع من دون فحيح اللهب وقعقعة النار صوتاً كأنما هو من صبية يستغيثون، فيقتحم اللهب يطمع أن ينقذ فلذات كبده من بين أنياب السعير، فما يكاد يخطو في المنزل خطوات حتى تحيط به النيران، ويطيش سائراً ويتخبط حائراً حتى يوقن أنه لن يستطيع إنجاء ولده، فتثور الطبيعة في رأسه، ويخشى على نفسه، فيحاول العودة من حيث أتى، ولكن النار تحيط به وتأسره، فيضطرب ويختنق، ويحاول الصراخ فلا يخرج صوته، ثم يثبت في مكانه ويقع لا يعي، وينطبق اللهب مرة أخرى كأن ليس في جوفه شيء).

فأنت ترى أن (سيرة السيد عمر مكرم) بمنهاجها الذي سارت عليه، وغرضها الذي هدفت إليه، وأسلوبها الذي كتبت به، حرية بأن بكون في يد كل شاب قدوة، وفي يد كل كاتب نموذجاً، وفي يد كل قارئ ثقافة ولذة.

جزى الله مؤلفها الفاضل خير ما يجزي به العامل المخلص على جهده وقصده وتوفيقه.

الزيات